التعليم.. إلى متى سنظل مكتوفي الأيدي؟

د. سيف المعمري

التعليم هو السلاح الأهم في معركة المنافسة بين الدول لكسب معركة التقدم والتنافسية، لنا أن نتخيل كيف يمكن لجيش أن يكسب معركة وهو يستخدم أسلحة قد لا تصيب الهدف الذي تصوب نحوه باستمرار. الأمر نفسه ينطبق على معركة التعليم، كيف يُمكن للمجتمعات أن تكسبها في ظل ما تمر به مؤسسات التعليم بمختلف مستوياتها من أشكال الفساد الذي يعيقها عن تحقيق أهدافها، ورسالتها في وضع هذه المجتمعات على خريطة الابتكارات والبحث العلمي والتفوق، بل إن بعض المؤسسات أصبحت تحتفل باحتلالها المراكز التي لا يلتفت إليها أحد في التصنيفات العالمية، وهناك مؤسسات لا تكترث بأن يكون لها موطئ قدم في هذه التصنيفات، يكفيها الوجود ومنح الشهادات والحصول على الامتيازات، لذا فإن شعارات الجودة والاعتماد ومواكبة الذكاء الاصطناعي لا يمكن أن تنبت بحرية وتثمر في البيئات التعليمية ما لم تعمل هذه المجتمعات على مكافحة الفساد التعليمي، أسوة بالدول الأخرى التي أعلنت حالة الطوارئ وأنشأت المؤسسات المستقلة من أجل الحفاظ على التعليم بمنأى عن أية فساد يمكن أن يمس المؤسسات الأخرى.

إننا لا نطرح هذا الموضوع لنعيق مرحلة تصويب الأخطاء وإعادة المؤسسات نحو الطريق الصحيح؛ لأننا لا نستطيع أن نتلمس وجود هذه المرحلة فعلا، ما نجده هو دفاع مستميت عن الواقع الحالي الذي يمر به التعليم العالي المليء بعلامات الاستفهام الكبرى التي لا إجابات لها، بدءا من مرحلة الترخيص، إلى مرحلة التأسيس، إلى البرامج المعتمدة، إلى نوعية الأساتذة، وإلى طبيعة مجالس الأمناء وكيفية تشكلها وصلاحياتها الضيقة، إلى التقويم وجوانب التدريب العملي، إلى الإدارات وكيفية تشكلها سواء في القطاع الحكومي أو القطاع الخاص، والمحسوبيات التي قد تتم وفقها، وما يتبع ذلك من مناقصات مرتبطة بمواد تعليمية أو إنشائية؛ وبالتالي نحن أمام قطاع ضخم تتداخل فيها المتغيرات والمؤثرات والجهات التي تشرف عليها وتعمل على توجيه سياساته دون أن توجد مؤسسة واحدة من خارجه تعمل على تحقيق الرقابة الحقيقية أسوة بالقطاع التجاري الذي أوجدت له هيئة مثل هيئة حماية المستهلك التي وإن لم تمتلك الصلاحيات الكبرى إلا أنها قامت بدور مهم في الكشف عن الوجه الآخر للحياة الاقتصادية، لكن من سيكشف عن هذا الوجه في  المؤسسات التعليمية، في وقت نحن في أمس الحاجة إلى مورد بشري نستطيع به أن نحقق به تحول حقيقي، سيما في ظل الظروف الاقتصادية التي تضغط على الجميع، وتتطلب جيلا قويا مسلحا بسلاح تعليمي يستطيع به الانتصار في معركة الحياة من أجل الحصول على وظيفة بدخل عال يتناسب مع المتطلبات الاقتصادية؛ فالإنسان هو الذي سيبني المناطق الاقتصادية الكبرى، ويقودها للمنافسة، لكن ماذا لو انشغلنا ببناء المناطق ونسينا بناء الإنسان وتركناه فريسة لمؤسسات تعليمية تقوده لأن يكون عاجزا أعزلا من سلاحه القوي في عالم يفترس الضعفاء.

من حق الجيل الحالي الذي يواجه تحديات كبيرة الحصول على وظائف لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال تنافسية كبيرة المطالبة بتعليم يتماشى مع المعايير الدولية؛ فالشهادة وحدها لا تكفل الحصول على وظيفة مناسبة، إنما الكفاءة هي التي تضمن تحقيق ذلك، ووجود تعليم خال من الفساد لا يمكن أن تحققه هيئات الاعتماد الوطنية غير المستقلة، بل إن مثل هذه الهيئات قد تقود إلى مفاقمة الموضوع حين تعتمد مؤسسات ضعيفة مراعاة لما يمثله أصحابها من نفوذ، وهذا وارد ومتوقع إن لم توجد هيئة مستقلة شفافة تعمل على إجبار مؤسسات التعليم للمضي في المسار الصحيح الذي يجعل من التعليم سلاحا لتعزيز عملية التحولات، بدلا من أن يظل التعليم سلاحا غير فاعلا، بل وسلبيا يلقي بأعباء كثيرة على الحكومة والمواطنين.

لابد من الأخذ بسياسة الأولويات في التخطيط لمستقبل التعليم العالي؛ الأولوية اليوم ليست للقفز نحو أفكار كبيرة تتداول عالميا، إنما الأولوية لإعادة بناء القطاع وفق أسس تقلل من احتماليات الفساد،  لخطورة ذلك على المنتج النهائي وهو طلاب أقوياء علميا قادرون على منافسة بقية طلاب العالم.. لقد وصف محمد البرغوثي فساد التعليم بأنه أخطر من "الجاسوسية والإرهاب"، وأكد أن تطهير هذا القطاع في بلده أو أية بلدان أخرى لا يُمكن أن يتم من خلال "القائمين على أمره أيًّا كانوا"، لذا عملت دول كالولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأوروبا وآسيا على تأسيس مكاتب للرقابة والنزاهة العلمية والبحثية، وسمحت كذلك بقيام جهات تطوعية للقيام بهذه المهمة من أجل التصدي للفساد التعليمي، وعُزِّزت ذلك بتأسيس تشريعات تعمل على حماية المبلغين عن مثل هذه الحالات، وعملت بعض الدول العربية مثل المغرب والسعودية والبحرين والكويت على تدشين برامج لمكافحة الفساد التربوي، وشكلت مصر لجنة عليا لمكافحة شتى أشكال الفساد التي تتغلغل في المنظومة التعليمية. إنه تحرك ضروري لمواجهة الآثار الفادحة التي سبق وحذر منها مدير عام اليونسكو كويشيرو ماتسورا، في تقرير أعدته اليونسكو قبل عشر سنوات عن هذه الظاهرة، بعنوان "مدارس وجامعات يعُمها الفساد.. كيف يمكن مواجهة هذه الظاهرة؟!"؛ حيث قال: "إن الفساد المنتشر على هذا النطاق لا يكلف المجتمعات مليارات الدولارات فحسب، وإنما يؤدي أيضا لتقويض الجهد الحيوي المتمثل في توفير التعليم للجميع، ويضع على المحك مستقبل شبابنا فلا يسعنا البقاء مكتوفي الأيدي".