تنحية تيلرسون!

 

عبيدلي العبيدلي

قد تُثير خطوة إقالة تيلرسون شيئا من التعجب، لكنه استغراب مؤقت لا يلبث أن يتراجع كي تأخذ مكانه علامة استفهام تتمحور حول الأسباب والدوافع التي تقف وراء قرار ترامب.

أول ما يخطر على ذهن من يتلقَّى مثل ذلك الخبر، هو ارتباك الإدارة الأمريكية، التي ينبغي تحاشي شخصنة قراراتها، وتحميل مسؤوليتها رئيس الجمهورية، مهما بلغت سرعة ردود فعله، وما يبدو عليه أنه عفوي في اتخاذ قراراته. فقد أرسى النظام الجمهوري الأمريكي ثوابت راسخة تسيِّر أمور إدارته. ومن ثمَّ فمن الخطأ القاتل التعاطي بخفة، كما قرأنا وشاهدنا في الكثير مما جاء في وسائل الإعلام العربية الرسمية منها وغير الرسمية، عند محاولة تفسير قرار إقالة تيلرسون.

ومن ثمَّ، فمن المنطقي أن يستنتج المتابع لخطوط السياسة الأمريكية، خاصة في شقها الخارجي، أن هناك ارتباكا واضحا، بدأ منذ مجيء بوش الابن للبيت الأبيض في مطلع هذا القرن، وهذا في جوهره يعود لمجموعة من العوامل البعض منها ذاتي، ويعود للتطور التاريخي للولايات المتحدة، والآخر موضوعي أفرزته التحولات في موازين القوى، خاصة الاقتصادية منها فوق خارطة السوق العالمية.

فعلى المستوى الذاتي، وعلى وجه التحديد في شقه الاقتصادي، فقد الاقتصاد الأمريكي تفوقه المميز الذي انفرد به في أعقاب الحرب الكونية الثانية. وشكلت الضربات التي تلقتها المؤسسة الأمريكية بسبب حروبها الخارجية، خاصة في فيتنام، ولاحقا في أفغانستان، وأخيرا في العراق، تراكمات، وإن كانت بطيئة الوتيرة، صغيرة الحجم، لكنها أنهكت الاقتصاد الأمريكي، وأفقدته الكثير من الحيوية التي أمده بها مشروعات مثل مشروع مارشال لإعادة تعمير أوروبا الغربية كي تتصدى للمعسكر السوفيتي. ومن ثم أفقدت الولايات المتحدة ذلك الزخم الديناميكي الذي تميزت به في أعقاب الحرب الكونية الثانية.

ولم يكُن تحرر واشنطن من كل تبعات بنود اتفاقية بريتون آند وودز سوى أحد المؤشرات القوية على الأزمة التي بدأ يعاني منها الاقتصاد الأمريكي في مطلع السبعينيات من القرن الماضي. فكما يقول العديد من المصادر "ظلت الاتفاقية فعالة وقائمة حتى عام 1970، ولكن بدأت فـي الانهيار بعد حرب فيتنام وتمويل الرئيس الامريكي جونسون للحرب؛ وبالتالي حدث عجز في الميزان الجاري أدى لحدوث أزمة اقتصادية كبيرة للولايات المتحدة الامريكية. وأثناء انتخاب الرئيس الأمريكي نيكسون قام بفك ارتباط الذهب بالدولار؛ وبالتالي فصل قيمة الذهب عن الأموال اعتقادا منه بأن ذلك هو الأفضل للولايات المتحدة لتخطي الأزمة الاقتصادية، وبالتأكيد أدى ذلك لانهيار اتفاقية "بريتون وودز"، والتي كانت تنص على ربط العملات بالذهب ونظام معدلات الصرف الثابت".

وعلى نحو مواز، وعند التوقف عند الأسباب الموضوعية التي تضاعف من الارتباك الأمريكي الذي نتحدث عنه، نتلمس بروز الصين كقوة اقتصادية عالمية منافسة لواشنطن في الأسواق العالمية بما فيها السوق الأمريكية ذاتها، وهو ما يشير له أحد المتخصصين في الاقتصادات الآسيوية ماثيو غودمان، حين يقول: "إن بنك البنية التحتية سيكون في الحقيقة صغيرًا على أن يُحدِث تأثيرًا كبيرًا، أو أن يشكل تحديًا سريعًا للمنظومة الدولية ومؤسساتها، لاسيما أن الصين في هذه المرحلة تستفيد أصلًا من النظام الاقتصادي القائم، وتحاول فقط أن تخلق مساحات لنفوذها التجاري الخاص في قلب هذا النظام، وهو ما يعني أن البنك، وأي مبادرة أخرى قد تتبناها الصين خلال العقدين المقبلين، ستكون في هذا إطار تعزيز وجودها وقوتها ليس أكثر، ولكن ليس خلق نظامًا جديدًا، (مضيفا) ولكن، وعلى المدى البعيد، وحتى نهاية القرن الحالي، من المتوقع أن تكون تلك المؤسسات نواة لتحدى النظام الدولي القائم، والذي تم تدشينه بعد الحرب العالمية الثانية، خاصة في آسيا التي ستشكل مستقبلًا أكثر من نصف الاقتصاد العالمي، ولكن قدرة الصين على النجاح في الدفع بتلك المؤسسات قدمًا يعتمد على إثباتها لكفاءتها في تنمية الدول التي سيعمل بها بشكل أفضل من نظيرتها الأمريكية والأوروبية، والتي ليس لها بديل وند قوي حتى الآن منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، والذي فشل هو نفسه في طرح بديل على مدار خمسين عاما".

يُؤيد ما ذهب إليه غودمان، تقرير آخر صادر عن إحدى مؤسسات الأمم المتحدة، متخصص في المقارنات الدولية، يفيد بأن "الاقتصاد الصيني يكاد يلحق بركب الاقتصاد الأمريكي بصورة غير متوقعة، (إلى درجة الوصول إلى) "تعادل القوة الشرائية"، بين الدولتين (الولايات المتحدة والصين)، وهي العملية التي تقيس ما يمكن شراؤه بالمال في الاقتصاديات المختلفة؛ حيث إنه في هذه العملية تنامى اقتصاد الصين بشكل كبير على غير المتوقع؛ حيث ارتفع إجمالي الناتج المحلي الصيني إلى 13.5 تريليونًا، بناء على استخدام أسعار الصرف، (ويمضي التقرير منوها)، ويُعدُّ اقتصاد الصين قريبًا جدًّا من اقتصاد الولايات المتحدة الذي يقدر بـ15.5 تريليون دولار، كما تظهر هذه الأرقام أن الصين قد تتفوق على أمريكا، وأنها ستصبح أكبر اقتصاد في العالم في وقت مبكر من هذا العام".

من جانب آخر، يضفي الكاتب المثنى حمزة حجي بعدا حضاريا يرتكز إلى نسق تاريخي؛ حيث يرى أن ما تقوم به الصين اليوم عند ولوجها الأسواق العالمية؛ فهي "تعتمد على الإيمان برسالة الأمة الصينية في العالم، ما يفسر تسمية البلاد (تشونج كوو)، وهي كلمة صينية قديمة تعني "المملكة الوسطى"، وتعتقد بمركزية الدور العالمي للصين، وتوحي بالوحدة الثقافية والمصيرية للأمة الصينية التي تحمل تاريخاً طويلاً من العظمة، فالصين منذ ما قبل الميلاد وحتى القرن الـ17 كانت تتصدر العالم في الإنتاج الزراعي والابتكار الصناعي ومستوى المعيشة، إلا أنها تراجعت بسبب سلسلة مؤامرات وحروب شنتها ضدها الدول الاستعمارية".

القصد من وراء ذلك السرد، توجيه النظر نحو سبب مركزي استراتيجي يحاول تفسير اقدام ترامب على تنحية تيلرسون، وهو الارتباك الأمريكي، دون إلغاء الأسباب الأخرى التي تناولتها الدوائر الإعلامية، مثل الخلاف بين الاثنين حول سياسات واشنطن أزاء إيران أو كوريا الشمالية، لكنها لا ينبغي بأي شكل من الأشكال أن تخفي عن أعين صناع القرار العرب، وهم يبنون إستراتيجية تحالفاتهم الدولية أن واشنطن ليست في أوج قوتها، وأن دولا آسيوية مثل الصين، في بداية صعود درجات سلم طموحاتها.