هل فقد العرب فرصتهم التاريخية؟ (2-2)

عبيدلي العبيدلي

بخلاف ما يمكن أن يتوصل له قارئ الحلقة الأولى من المقال، لم يكن قصد كاتبه إيصال ذلك القارئ إلى حالة سوداوية من اليأس، تتطوَّر إلى سلوك محبط شأن واقع الأمة العربية القائم ومستقبلها الذي ينتظرها. فعملية التشخيص ينبغي لها، إن هي أرادت الوصول إلى الحلول الشافية، أن تتحلى بالموضوعية أولا، والشفافية الذاتية ثانيا وليس آخرا. وفي الاتجاه ذاته، لا بد من التأكيد على أن عناصر القوة، ومكونات الضعف يُمكن أن تتبلور في مجتمع معين، بناءً على تجيير الإنسان الذي يتعاطى معها، فهي مبدعة وقادرة متى ما أُحسن استخدامها، وضعيفة ومدمرة، حينما يُساء التعامل معها.

هذا يضعنا أمام السؤال التاريخي الملح الذي يتحدى الإنسان العربي في صلب كيانه وجوهر سلوكه: هل فقد العرب دورهم التاريخي؟ دون أن يكون في ذلك السؤال ما يقود إلى النزعة الشوفينية، أو النظرة المتعالية إزاء الحضارات الأخرى والشعوب التي تنتمي لها.

والرد على ذلك يقوم على أن العرب مارسوا دورا تاريخيا ملحوظا في عصور النهضة الإسلامية، وإذا ما اعتبرنا أن جذور سكان هذه المنطقة تعود لمن سكنها حتى قبل الإسلام، فيمكن القول إن المنطقة المعروفة اليوم باسم البلاد العربية، كانت مهدًا لحضارات إنسانية متعاقبة، امتدَّت لما يتجاوز عشرات الآلاف من السنين. وقد رافق كل ذلك تعايشا حضاريا متطورا ينعم بما تتمتع به المنطقة من تنوع ثقافي يرتكز على تعدد حضاري غير مسبوق. وفي هذا الصدد، يقول المفكر الماركسي السوري جورج طرابيشي -رحمه الله- "إن رأس المشكلات في وعينا العربي ليست بكل تأكيد إسلامنا ولا مسيحيتنا، فمن الممكن تماماً أن يكون المسلم أو المسيحي حداثيًّا ليبراليًّا وعلمانيًّا ديمقراطيًّا، ولكن هذه الممارسات ليست إلا القشرة السطحية للتفكير العربي الجمعي، حتى إذا ما دخلت إلى جوهر البنية الفكرية العربية صدمك العقل الإلغائي المريع المستكين في داخلنا الذي لا يرى في الآخر إلا مشروع عدو أو كافر، وأن الناس جميعاً إلا من رحم ربك في ضلال مبين".

لكنَّ واقع الحال اليوم يقول، إن العرب، وبدلا من أن يستفيدوا من تنوعهم الحضاري، ويصهرون عناصر المختلفة في بوتقة بناء تلك القوة، نجدهم يحولون حراب ذلك التنوع نحو صدورهم، فيمارس ذلك التعدد دور معول هدم لمكونات القوة العربية، ويشظِّي أعضاء جسدها، بدلا من ترسيخ ركائز بنيانها.

هذا على المستوى الحضاري، وهو عنصر لا ينبغي لنا التقليل من أهميته، عند الحديث عن "الفرصة التاريخية"، فالتنوع الحضاري، هو الجسر الذي يمكن أن تمده البلاد العربية كي توثق من علاقاتها المعاصرة مع الشعوب الأخرى، وتتحول إلى عنصر جذب لها بدلا من الاستمرار، كما هي الحال اليوم، إلى قوة طرد متواصلة لها.

من العامل الحضاري، ننتقل نحو العامل الاقتصادي، والذي لا يختلف اثنان، مهما قزَّمه البعض من أمثال عبدالله باجبير، حين يقول: "إن الناتج المحلي لدول (الإسكوا) وهي 13 دولة منها 12 دولة في آسيا ودولة واحدة في إفريقيا هي مصر.. الناتج المحلي لهذه الدول مجتمعة هو 392 مليار دولار سنويا، وهو ما يمثل واحدا في المائة من الناتج المحلي العالمي، وهو ما يساوي الناتج المحلي لدولة أوروبية صغيرة هي هولندا (16 مليون نسمة)، أي أن هولندا وحدها تساوي الـ13 دولة مجتمعة في الإنتاج"، أو حين يُعملقه البعض الآخر من أمثال عبير العدوي، حين يرصد ثروات البلاد العربية مشيرا "برزت السعودية كأقوى الاقتصادات العربية بمعدل 700 مليار دولار، تلتها الإمارات العربية المتحدة بواقع 400 مليار دولار، ثم مصر بمعدل 230 مليار دولار، والجزائر بمعدل 160 مليار دولار، وقطر بنحو 150 مليار دولار، ثم الكويت بواقع 120 مليار دولار، والمغرب 100 مليار دولار، وعُمان 70 مليار دولار، وتونس 40 مليار دولار، والبحرين 30 مليار دولار"، وجميعهم من العرب، وزن هذا العامل الاقتصادي في موازين القوى الاقتصادية العالمية. فليس من في وسعه إنكار أن الأراضي العربية تختزن أكبر احتياطي نفطي عالمي، وتنتج في الوقت ذلك نسبة عالية من مزودات السوق، وتلبي احتياجاتها من هذه السلعة الإستراتيجية، ومن ثم فهي بحوزتها ما لا يستطيع أن يستغني عنه العالم، من جانب، وتراكم ثروة نقدية سائلة جراء بيعه في الأسواق العالمية.

سوية مع هذه القوة الاقتصادية تتكامل ثروة الموارد البشرية، فوفقا لتقارير دولية صدرت في العام 2016 عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، جاء فيها: "تبلغ نسبة الشباب 27.9% من السكان في المنطقة العربية". وتؤكد مديرة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي هيلين كلارك: "إن الدول العربية شابة، فما يقارب من ثلث سكان المنطقة هم من الشباب في أعمار 15-29 سنة، وهناك ثلث آخر يقل عمرهم عن 15 عامًا، وسيبقى هذا الزخم السكاني إلى العقدين القادمين على أقل تقدير، ويوفر فرصة تاريخية يتحتم على البلدان العربية اغتنامها".

وفي هذا المجال، تحضرني مقاطع من فقرات قالها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في حواره مع الصحفي الهندي "كارانجيا، صاحب ورئيس تحرير مجلة "بليتز" الهندية، في السادس من فبراير 1964؛ حيث نجده يوضح هذه المسألة قائلا: "ندرك تماماً قوة العرب الاقتصادية والإستراتيجية، ولكن أؤثر لهذه القوة أن تبحث عن حساباتها الدقيقة، ومن ثم فلا أريد أن أصدر أى تهديدات، (مضيفا) إن من مصلحتنا -قبل أى اعتبار آخر- أن نعرف مدى القوة العسكرية والقدرة الاقتصادية التي في حوزتنا".

مرة أخرى، كون العرب لا يحسنون استخدام النفط على الوجه الأمثل، كي يمارسوا دورهم التاريخي، ولا يستفيدوا من الفرصة المتاحة أمامهم من إرثهم الحضاري كي ينسجوا علاقات متميزة مع الأمم الأخرى، ولا يعون دور الموارد البشرية الشابة في النهوض بالأمة، لا ينفي إطلاقا أن القوة لا تزال بين أيديهم. وبالمقياس ذاته، كونهم لا يجيدون التصرف بحكمة في الثروات التي بين أيديهم، لا يلغي أنهم يملكون تلك الثروات، وأن في وسعهم الاستفادة منها إن هم أرادوا ذلك، ومن ثم فدورهم التاريخي محفوظ، إن شاءوا هم أن يمارسوه.

العرب لم يفقدوا فرصتهم التاريخية، لكنهم -وهو أمر يُؤسف له كثيرا- لا يحسنون اقتناصها. ومن ثم فهي لا تزال متاحة، لمن يريد اغتنامها، وإعادة العرب إلى المنزلة التي يستحقونها بين الأمم التي تصنع التاريخ، لا تعيش عالة عليه.