الإرهاب الأعمى ومستقبل العرب!

 

د.يحيى أبو زكريا

المعركة الراهنة في العالم العربي بين مشروع التنوير ومشروع التكفير، من أخطر المعارك التي عرفها المشهد العربي والإسلامي، والتي ستحدد لمئات السنين مسار الصيرورة في عالم عربي انفجرت ملفاته وتكالب عليه الأعداء من كل جانب.

وفي ماضي الصراعات في خط طنجة-جاكرتا كان الأعداء من الداخل وتارة من الخارج، وفي هذه اللحظة العربية الحرجة والخطيرة تحالف أعداء الداخل والخارج في معادلة كيميائية تفجيرية قلَّ نظيرها؛ فالخارج الممثل في المركزية الغربية والصهيونية التي تنتعش دوما من خلال سياسة توتير العالم العربي، وقد أعلن عن ذلك صراحة موشيه دايان في لقاء مع مجلة "بمحنيه" الناطقة بلسان الجيش الإسرائيلي، عندما قال: "إننا (أي إسرائيل) قلب مزروع في هذه المنطقة، غير أن الأعضاء الأخرى (العرب) هناك ترفض قبول هذا القلب المزروع، لذلك لا خيار أمامنا سوى حقن هذا القلب بالمزيد والمزيد من الحقن المنشطة، من أجل التغلب على هذا الرفض"، مؤكدا "الأمر بالنسبة لنا حتمية حياتية".

وفي مقابلة أجرتها وكالة الإعلام الأمريكية مع برنارد لويس في 20 مايو 2005م، قال الآتي بالنص: "إن العرب والمسلمين قوم فاسدون مفسدون فوضويون، لا يمكن تحضرهم، وإذا تُرِكوا لأنفسهم فسوف يفاجئون العالم المتحضر بموجات بشرية إرهابية تدمِّر الحضارات، وتقوِّض المجتمعات، لذلك فإن الحلَّ السليم للتعامل معهم هو إعادة احتلالهم واستعمارهم، وتدمير ثقافتهم الدينية وتطبيقاتها الاجتماعية، وفي حال قيام أمريكا بهذا الدور، فإن عليها أن تستفيد من التجربة البريطانية والفرنسية في استعمار المنطقة؛ لتجنُّب الأخطاء والمواقف السلبية التي اقترفتها الدولتان، إنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية، ولا داعي لمراعاة خواطرهم أو التأثر بانفعالاتهم وردود الأفعال عندهم، ويجب أن يكون شعار أمريكا في ذلك، إما أن نضعهم تحت سيادتنا، أو ندعهم ليدمروا حضارتنا، ولا مانع عند إعادة احتلالهم أن تكون مهمتنا المعلنة هي تدريب شعوب المنطقة على الحياة الديمقراطية، وخلال هذا الاستعمار الجديد لا مانع من أن تقوم أمريكا بالضغط على قيادتهم الإسلامية -دون مجاملة ولا لين ولا هوادة- ليخلصوا شعوبهم من المعتقدات الإسلامية الفاسدة، لذلك يجب تضييق الخناق على هذه الشعوب ومحاصرتها، واستثمار التناقضات العرقية، والعصبيات القبلية والطائفية فيها، قبل أن تغزو أمريكا وأوروبا لتدمر الحضارة فيها".

من يقرأ أدبيات وخطاب منظرّي المركزية الغربية والصهيونية، يُدرك أن العالم العربي وُضِع تحت مجهر البحث والاستقصاء والاستقراء العلمي والمعرفي؛ حيث يملك الغرب إرثا معرفيا وإبستمولوجيا عربيا وإسلاميا مسروقا من المكتبات الوطنية العربية والإسلامية أثناء الهيمنة الغربية على البلاد العربية.

واستطاع العقل المعرفي الغربي -وحتى الصهيوني- قراءة التاريخ الإسلامي، واستكشاف محاسنه ومساوئه، وقرر هذا العقل إعادة إنتاج المساوئ في العالم الإسلامي. وللإشارة، انعقد في العاصمة الصهيونية تل أبيب مؤتمرٌ عن فكر العلامة ابن خلدون، وعندما سُئِل باحث إسرائيلي عن سبب اختيار إبن خلدون تحديدا، أجاب قائلا: إن ابن خلدون أفضل من درس العقلية والسيكولوجية العربية، فمن خلاله نعرف أعداءنا أكثر.

وبدأ العقل الغربي يؤسس لفكر إسلامي جديد في محاولة لصياغة رؤية ثقافية إسلامية تجهز على الإرث الإسلامي الحضاري الذي كان سببا في تصدر المسلمين لمواقع ريادية في المسرح الدولي والعالمي.

وهذا لا يعني أنَّ كل المنتمين للتيارات الإسلامية خونة أو مدركون لحجم التخطيط الاستكباري؛ ففي فقه الأمن والاستخبارات يكفي أن تسخِّر الاستخبارات الصهيونية والأمريكية والغربية شيخًا واحدًا بهيبة إسلامية وعباءة إسلامية ولحية وقورة، ليقود هذا الفقيه العميل الجماهير الإسلامية باتجاه الهاوية.

والفقه التكفيري الذي أسس له العقل الصهيوأمريكي أنتج أحكاما شرعية في الراهن الإسلامي تستدعي الناتو، وتمجد التدخلات الغربية في بلادنا، بل وتجعل الكيان الصهيوني بريئا ونزيها مقارنة بحكام عرب اعتبروا كفارا وزنادقة، وباتوا في دائرة الاستهداف الفقهي والإسلامي.

ومن خلال هذا المشروع، انفرط الإجماع في العالم العربي والإسلامي، وتبددت قوة الأمة الجماعية، ودب الخلاف والتكفير والزندقة والفتاوى الكوميدية والصراع السني-الشيعي، ومعروف من يحمل لواء التأجيج له وإذكاء أواره.

وما لم يتحرَّك العقلُ العربي لوضع حدٍّ لهذا الاختراق الخطير لقلاعنا الفكرية والإستراتيجية والحضارية، فسوف تستمرُّ سلسلة الانهيارات الكبرى في العالم العربي والإسلامي.