في الاحتفال باليوم العالمي للشعر في 21 آذار (مارس):

سميح القاسم طائر الرعد يخترق سماءً مسقوفة بالبنادق

أ.د/ يوسف حطيني – أديب وناقد فلسطيني بجامعة الإمارات


تطلّ، أيّها الشّاعر، على الدنيا وحيداً غريباً في يوم من أيام شهر (أيار) مايو1939، لا يعرفك أحد سوى أمّك، وتغادرها شاعراً ومناضلاً ملأ الدنيا وشغل الناس، بما يزيد على ستين كتاباً في الشعر والنقد والمسرح والرواية والنقد.. ستون كتاباً كانت ستة منها كافية؛ لكي يعرفك القارئ العربي الذي يتلهف للصوت المقاوم؛ للحنجرة الذهبية التي لم تتعب من الشعر، على مدى أكثر من نصف قرن.
يذكرك صديقك الأثير محمود درويش الآن في مرقده الأبدي.. تذكرك الرامة.. يذكرك السجن الإسرائيلي والاعتقال الإداري.. يذكرك طلابك.. زملاء الصحافة في "الغد" و"الاتحاد" لا ينسون رجلاً يقول كلمته دون مواربة ودون خوف، ودون رتوش الصورة والإيحاء والمناورة اللطيفة التي طالما تفيّأ في ظلالها صديق عمرك.
اختلفتما على الشعر، فكتبتَ القصيدة الأقرب للمباشرة والمواجهة، فيما ركب درويش على جناح الصورة ووحي المجاز. اختلفتما على المكان: فحين ضايقته سلطات الاحتلال لم يحتمل ذلك، وراح يحلّق في سماء أخرى، أمّا أنت فقد بقيت تحلّق في سمائك المحاطة بالأسلاك والمسقوفة ببنادق الجنود. اختلفتما على الموت أيضاً، فأنت تقول: "أنا لا أحبك يا موت.. لكنني لا أخافك"، أما هو فقد صنع للموت جدارية تمجّد الفعل الإنساني. غير أنكما اتفقتما على فلسطين.. فلسطين التي اجتمع أهلها ليأخذوا جسدك إلى مثواه الأخير.
الناس الذين يحبونك لم يعقدوا مجالس عزائهم في التاسع عشر من آب (أغسطس) 2014، ولكنهم جلسوا في أفياء كلماتك الغاضبة، وأنت تتزنّر بـ "حزام الورد الناسف".. فقرؤوا "دمي على كفي"، ونظروا إلى "الصورة الأخيرة في الألبوم"، وكشفوا معك "سقوط الأقنعة"، ورتّلوا "قرآن الموت والياسمين".
صحيح أنّ السرطان قد أكل الكبد المسكونة بوجعنا، ولكنه لم يأكل حروفك التي أحببناها.. لم يطفئ "مواكب الشمس" التي أضأتها، ولم يغلق "أغاني الدروب"، وراح يتطلّع بأمل إلى "جهات الروح"، "، وفي قلبه "حسرة الزلزال" الشعري المقاوم الذي عصف بكيانٍ لم تعترف به في يوم من الأيام.
لم تغيّرك الجوائز الكثيرة التي جنيتها من فلسطين والأردن وإسبانيا وفرنسا، ولم تغيّرك التهديدات التي تلقيتها من كل مكان، فبقيت "شاعر الغضب الثوري"، كما سمّاك رجاء النقاش، وبقيت تحمل فلسطين جرحاً دامياً لا يندمل..
الشباب الذين ارتدوا، في تشييع جثمانك في رامة الجليل، قمصاناً مكتوباً عليها "منتصب القامة أمشي".. النساء اللائي حملن أغصان الزيتون، الرجال الذين لفّوا النعش بالعلم الغالي، وأنشدوا أشعارك في أثناء مراسم الدفن، لم يكونوا يرثون رجلاً.. كانوا يرثون أمّة وجرحاً وغضباً.. غضباً ينزل سياطاً لاهبة على ظهر المحتلين، إذ تتحدّاهم قائلاً: "تقدّموا.. تقدّموا.. كلُّ سماء فوقكمجهنّمُ.. وكلّ أرضٍ تحتكم جهنّمُ"، هذا الغضب الذي لم تخبُ جذوته، منذ "أغاني الدروب"، وحتى النَفَس الأخير:
"بعضُ الأغاني صرخةٌ لا تطربُ
فإذا استفزّتكم أغانيَّ اغضبوا
يا منشئين على خرائب منزلي
تحت الخرائب نقمةٌ تتقلّبُ
هذا أنا أسرجتُ كلّ متاعبي
ودمي على كفّي يغنّي.. فاشربوا"
لم يكن غضبُك، أيّها الشاعر الفذّ، غضباً جاهلاً أو قاصراً معرفياً.. بل كثيراً ما غذّته رومانسيتك التي تتسرب بين الكلمات، وكثيراً ما غذّته ثقافتك الواسعة التي تنفتح على التراث والحضارة والمعرفة، فقدّمتَ نصوصاً على حافة الذهنية وعلى حافة الشعر، ولكنّك لم تنس في كلّ مرة أنّ القصيدة تنزف بيتاً وعائلةً تلاحقهما قذائف الموت في كل لحظة:
يضيقُ عليكَ الخناقُ ولاينتهي
وتتٌسع الثغراتُ الجديدةُ في السقفِ
جدرانُ بيتك تحفظ عن ظهر قلبٍ
وجوهَ القذائفْ
وأنتَ ببابِ المشيئةِ واقفْ
تلمّ الرّصاص من الصّور العائليهْ
وتتبعُ مسرى الصواريخِ في لحمِ أشيائك المنزليهْ
وتحصي ثقوب شظايا القنابلْ
في جسدِ الطفلةِ النائمهْ
وتلثمُ شمعَ أصابعها الناعمهْ
تمسك أصابُعكَ الطفلة الشهيدة.. تنغرس في اللحم والدم، مثلما تنغرس في تراث الأمة.. تدرك أن اللحم واحد، والدم واحد، وتعرف أنّ الوالغين بدم الطفلة والغون كذلك بدم الأسلاف، فتحمل رايتهم وتنشد أغاني خيلهم، وتحمل شمسك ودمك مغنّياً للجرحين المتعانقين:
دمُ أسلافي القدامى لم يزل يقطـــرُ منّي
وصهيلُ الخيلِ ما زال، و تقريعُ السيوفْ
وأنا أحملُ شمساً في يميني وأطــوفْ
في مغاليــق الدّجى.. جرحاً يغنـّي!!
مشغول أنت، أيّها الشاعر، بأحزان أمة تحمل نبضها في عروقك، يحملك الخوف إلى البحث عن أسبابه، تتقرّى مسوّغات ذلك الخوف، فتفتح نافذة القلب على تجربة الإنسان.. تتسرب إليك صورة دونكيشوت الذي يحارب فرسان الهواء، فيزداد خوفك، وتتسرّع دقات قلبك المشحون بالماضي وحليب النوق:
أحسُّ أننا نمــوتْ
لأننا..لا نتقن النّضالْ
لأننا نَعيد دون كيشوتْ
لأننا... لهفي على الرجالْ!!
ها أنت ذا تأخذ من الرومانسيين حزنهم، تكبر شجرة الأسى في داخلك، دون أن تسرق تلك الشمعة المقدّسة.. يضيئك الحزن، مثلما أضاء ناظم حكمت، فيتحد مع الحب فيكما، لتضيئا تلك الدرب التي ما تزال بحاجة لمزيد من القرابين:
نازلاً كنتُ: على سُلّم أحزانِ الهزيمهْ
نازلاً .. يمتصني موتٌ بطيءْ
صارخاً في وجه أحزاني القديمهْ:
أحرقيني ! أحرقيني .. لأضيءْ!!
وها أنت ذا أيّها الشاعر الغريد.. يا طائر الرَّعد الذي يحلّق في سماء مسقوفة بالبنادق.. تسطّر بموتك سطراً من التحدّي على جبين الموت: هل تستطيع أيّها الموت أن تأخذني من قلوبهم؟
وها أنت ذا تمزج، مثلما كنت تفعل دائماً، روح الألم بروح السخرية، مثلما فعل صديقك "إميل حبيبي"، وها أنت ذا  تدقّ بشعرك على جدران الذاكرة الشعبية، مثلما فعلت رواية كنفاني "رجال في الشمس"، وها أنت ذا تختزل صرخات توفيق زيّاد العالية في مواجهة عدوّكما، لترسم في رواياتك ودواوينك ومسرحياتك الملحمة الفلسطينية الكاملة، الملحمة المجروحة الغاضبة، المضمّخة بدم الضحايا، الملحمة التي تدعو إلى المشي في الطريق الطويل بقامة منتصبة، فتردد مع الحالمين بفجر جديد قصيدة كتبتها بحبر القلب، وحوّلها مارسيل خليفة إلى أيقونة للحب والحرب وعشق الوطن:
منتصبَ القامة أمشي
مرفوعَ الهامة أمشي
في كفّي قصفة زيتونٍ
وعلى كتفي نعشي..
في غيابك يخضر الشعر ويزهو أكثر، لأنك زرعت بذوره التي تنبت في الأرض خضرة يانعة، وتمتد شجرةً فروعها في سماء الخلود.

 

تعليق عبر الفيس بوك