فيلٌ.. طيب القلب

 

زاهر المحروقي

سؤالٌ يفرض نفسه: هل التسامح وكثرة التنازلات يُعتبران من القوة؟! ألا يؤدي هذا التسامح وكثرة التنازلات إلى مزيد من الطمع؟ إنَّ التسامح لا يأتي إلا من قوي، لكنه إذا أتى من ضعيف فإنّ هذا يُغري بالمزيد من الابتزاز. وهذا يحدث في كل العلاقات الإنسانية، وفي العلاقات الدولية، وفي الشؤون السياسية والاقتصادية، وحتى في العلاقات العاطفية؛ إلا أن التنازلات السياسية التي تمس السيادة الوطنية في أي مكان في العالم، تشكل عنصرَ غرابة لا يجد المرء حياله أي تفسير مهما حاول ذلك؛ لأن تنازلات كهذه تكون عادة على حساب الوطن والشعب، وغالبًا لصالح فئة بسيطة من المنتفعين عبر صفقات خاصة.

وفي الحكايات والروايات الشعبية الكثيرُ من الأمثال التي تهدف لتوجيه رسالة للمتلقي؛ بهدف غرس بعض القيم والأخلاق والمبادئ، حتى وإن كان أبطال تلك الحكايات والروايات شخصيات خيالية. وفي كتاب "حكايات الراوي الجوال جاغانات"، الذي يُعتبر "ألف ليلة وليلة الهند"، والتي ترجمها إسكند شديد إلى اللغة العربية، ترد قصةٌ ذات مغزى بعنوان "فيل.. طيب القلب"، تشير إلى مسألة كثرة التنازلات ونتائجها النهائية، التي قد لا تظهر فورًا.

تقول تفاصيل القصة إنَّ فيلا أبيض ذا نابين طويلين، كان يعيش في غابة في جبال الهيمالايا، كان فطنًا جدًّا، ولديه خبرة كبيرة؛ لكن ما من ظرف مهما كان مُزعجًا، استطاع أن يمس تسامحه وطيبة قلبه؛ لأنه كان يؤمن بأن الشر دائمًا يولد الشر، لذلك كان يحسن التصرف مع كل المخلوقات؛ فكانت كل تلك الحيوانات تحبه، وإذا لحقها ضرر كانت تأتي سائلة المساعدة. كان الفيل الأبيض فيما مضى زعيم كل قطعان فيلة الهيمالايا، لكن بما أن الشر والنزق والحقد كانت تسود داخل ذلك الحشد، تركها وعاش مُذَّاك حياةَ وِحدة، كان يمضيها مفكرًا ومتأملاً، وكان ينصح أيا كان في حاجة إليه، ويقدم المساعدة فكانوا يسمُّونه ملكَ الفيلة الطيب. وحدث ذات يوم أن تاه رجلٌ في تلك الغابة، فأخذ يركض مذعورًا هنا وهناك مطلقًا نواحًا مثيرًا للشفقة. سمع الفيل الأبيض نواح الرجل البائس واتجه لنجدته، وبعدما استمع إلى قصته تناوله بعناية كبيرة بخرطومه ووضعه على ظهره وانطلق. لكن الرجل كان ماكرًا وشريرًا؛ فقال لنفسه: "ها هي قصة جميلة أقصها على أصدقائي ومعارفي"، وراقب الطريق جيدًا، وعندما بلغا الطريق العام، وضع الفيلُ الرجلَ على الأرض.. قائلا له: "ها أنت على طريقك، وسوف تقودك مباشرة إلى بيناريس، اذهب بسلام، لكنني أطلب منك شيئًا وهو أن لا تروي لأحد ما حدث لك والمعونة التي قدمتُها لك، أيًّا كانت الأسئلة التي تُطرح عليك".

عاد الرجل إلى بيناريس واندفع فورًا عند الحِرفيين الذين كانوا يصنعون حاجات من عاج الفيل، وسألهم: كم تدفعون لقاء نابَيْ فيل حي؟! قال أقدمُهم إنهما يساويان أكثر بكثير من نابَيْ فيل ميت. ووعدهم بأن يأتي بالنابين. وتزود بمنشار وعاد للغابة حتى التقى بالفيل الأبيض الذي سأله عن أسباب عودته للغابة. فقال: "البؤس أيها الفيل الأبيض، إنني لا أملك ما آكله، فأعطني واحدًا من نابيْك أبعه في بيناريس، فيسمح لي ذلك بالعيش". كان ذهول الفيل الأبيض بالغًا وهو يسمع هذا الطلب الجريء؛ إلا أنه استجاب بعد لحظة تفكير. رقد الفيل وسمح بقص ناب، لكن الرجل -تحت وطأة هذا التنازل- استأنف: "يا فيلي العزيز، إن نابًا واحدًا لا ينفع من دون الآخر. دعني أقص الآخر أيضًا؛ هكذا لن أضطر إلى العودة عندما أكون قد أنفقت مال الناب الأول. ورفعت رباطة جأش الرجل دهشة الفيل الأبيض إلى ذروتها، لكنه سمح للرجل مع ذلك بقص نابه الثاني.

حمل الرجل الكريه النابَيْن دون أدنى كلمة شكر، وباعهما للحِرفيين بسعر جيد جدا؛ لكنه سرعان ما بذر المال، فعاد إلى الغابة في طلب الفيل طيب القلب، وقال له: "أيها الفيل الأبيض، لقد بعتُ نابَيْك، لكن المال طار، وها أنا من جديد في البؤس، ميتًا من الجوع، فأعطني فُضلتَيْ نابيك لأبيعهما أيضًا". أعطاه الفيل إياهما، فقصهما الرجل ومضى في حال سبيله. ولم يطل أمر المال ليختفي مرةً أخرى. وسلك الرجل الطماع مرةً ثالثة درب غابة الهيمالايا. وهناك صرح للفيل دون مواربة: "لقد أعطيتني نابيك، وأعطيتني فُضلتَيْهما، فأعطني -والحال هذه- جذريهما الآن لأبيعهما أيضًا". وأقر الفيل الأبيض بأن الجذرين يشكلان جزءا من النابين؛ ورقد الفيل وأمسك الرجل برأس الفيل وحفر في المكان الذي كان يحمل النابَيْن الرائعَيْن حتى اقتلع الجذرَيْن وابتعد دون كلمة شكر، سعيدًا كليا بفكرة المبلغ الكبير الذي سوف يجنيه منهما.

نظر الفيل الأبيض حزينًا شاعرًا بالإهانة إلى الرجل وهو يمضي، مفكرًا فيما فعله "لقد أحسنتُ التصرف -رغم كل شيء- بإعطائه كل ما طلبه مني. فكل تجربة تحمل في طياتها نتائجها المحتمة؛ وكل سبب تليه نتائجه الخاصة.. إنَّ كل فرد يقطف بنفسه ثمار تصرفاته". 

في حياتنا العادية، صادفنا كثيرًا مثل نماذج الفيل الأبيض والرجل الطماع؛ سواءً كان ذلك على المستوى الشخصي أو العام أو السياسي؛ وقد رأينا كيف أن استمرار سياسة  التنازلات والتفريط بالحقوق الوطنية، شجع على المزيد من الابتزاز، بينما الواقع يقول "لا بد من سياسة العين الحمراء"، وفي قضية القدس  مثلا خير دليل.