في الاحتفال باليوم العالمي للشعر في 21 آذار (مارس):

شعرية التقشّف في ديوان "بملابسه البيضاء الأنيقة" لإبراهيم موسى النحاس (1)

...
...
...

علوان الجيلاني – صنعاء - اليمن


في أسبوع واحد فقدت أبي وأهداني الشاعر إبراهيم موسى النحاس عمله الشعري "بملابسه البيضاء الأنيقة" ، وليست الملابس البيضاء الأنيقة هنا إلا الكفن ، وليس نص النحاس الشعري إلا اشتغالاً على الموت ، الموت باعتباره الوجه الآخر للوجود الإنساني ، أو باعتباره حياة بغياب متعمد وطويل كما يقول الاهداء .
النحاس يعيش شعوراً قويأ بالموت كحقيقة صعبة ، خالقة للأسئلة ، إلا أنها عصية الإجابات ، لقد هربت الفلسفة الحديثة من سؤال الموت وصك فرانسوا لاروشفوكو مقولته الشهيرة " ثمة شيئين لا يمكن أن يحدق فيهما المرء: الشمس والموت" الظهور الذي ما بعده ظهور والخفاء الذي ما بعده خفاء ، وثمة فارق هائل بين من يبحث في الموت ومن يموت على حد تعبير عبد الرحمن بدوي ، فأمام حقيقة الموت تبدو معارف الإنسان كلها ضرباً من الأكاذيب  ، الأمكنة توحش ، الزمن يتبدل المفاهيم تتداخل ، والمعاني تهرب ، ويصعب الإمساك بها.
لكن الإبداع على مر التاريخ كان معبراً دافئاً للملمة الذات المكسورة بقسوة الغياب ، فقد كان الأقدر على التماس مع الموت ، مساءلته ، والتخالج بعاصفته السوداء ،وهذا ما فعله النحاس تقريباً ، غير أنه امتاز بكونه اتجه للتعبير عن موقفه الوجودي من الموت بشكل مختلف ، إذ وضع نفسه فيه وظل في نفس الوقت خارجه ، لقد وضع  لحظة المفارقة المتخلّقة على حافة وجودين بين يديه ، وفي يقينه أن تلك اللحظة الفاصلة جداً لايمكن أن تتبرج إلا على بساط من السخرية ، سخرية الوعي بالنفس ، وسخرية الوعي بالواقع.
هنا سأعتاد التأخر خارج البيت
أدربهم –كثيراً-
أن يذوقوا
حلاوة الحضور
في مقدّمات
غيابه الطويل
هكذا يبدأ تخليق المفارقات من الحدث نفسه ، تالياً سيتم وضع أكثر الأشياء احتفالاً بالمتناقضات تحت مشرط تعبير جاف جداً ، إنها لحظة غسل الأب وتكفينه ، لحظة الالتحام بالموت ، وهي في عين الوقت لحظة الوداع الأكثر جرأة ، الملامسة هنا ذات معنى مختلف تماماً ، ليس كل الناس قادر على هذا الفعل ، لأنه وقوف أما معنى الموت في تجلياته العليا ، عودة الجسد إلى طينيّتة المحضة ، مجرد طين أعمى ، أصم وأبكم ، لكنه الطين الأحب ، التاريخ الذي ينخلع عنّا دون رغبة منّا أو منه ، كثير من أقارب الموتى وهم يندبون موتاهم يضحكون في هذه اللحظة ، معبرين عن مفارقة أخرى .. وكذلك فعل النحاس .

ياااه
بعد سنوات طويلة
هل تجد من يخلع ملابسك
ويجهز الماء الدافىء
مصرّاً –كما كانت تفعل أمك –
على تنظيف كل زاوية
في جسدك القذر
ينحون السواد جانباً
ينحتون تمثالك
بالأبيض فقط

ما يجعل الموت موتاً ليس غياب من نألف ونعايش في القبور فحسب ، بل تصرفاتنا نحن وتمظهرات علاقاتنا ، وردات فعلنا أيضاً ، فثمة مستويات مختلفة  لتعاملنا مع الموت ، فنحن إذ نتلقاه بصدمة وذهول وتكذيب ، نعرف أنه حتمي وواقعي ، لكن مواضعات المجتمع تضيف براويز أخرى للحالة ، وهذا يوجب أن تستمر السخرية في النص من خلال تعرية المألوف ، أورش الملح على الجرح الانساني المفتوح بكل ألمه وتوقده     
أيصنعون حقائق جديدة؟
ملا محك ... أكثر جمالاً
 ويصابون بتخمة المحبة
وتتورد خدودهم
بقطرات الندى تبعثها أعينهم
أستعتاد ألسنتهم عبارة:  
                    " ربنا يسامحه"
أسيلاحظون ضحكتي
فربما
يستجيب
في غفلة منهم
الشاعر يبرز حقيقة الموت الكبرى، وتجليات أفعاله وردود أفعال الناس تجاهه ، من خلال سرد سيناريوهات مألوفة ، لكن أسلوب صياغتها وسردها هو المدهش ، الاستثنائي هنا هي طريقة المقاربة لتلك اللحظات الحرجة ، تعرية الموت بوصفه رحلة لا تراجع عنها ، ثم بوصفه أيقونة مقدسة ، وطقوساً نقوم بها دون تفكير يخل بمواضعاتها القارة في دخائلنا ، لا حقيقة أقوى من حقيقة الموت ، لكن هذه الحقيقة الكبرى تلتحم بنقيضها الحياة أكثر من أي شيء آخر ، وما يستطيع فعله المرء لحظة موته ، قد لا يستطيع فعله طيلة حياته ، بل  قد لا يستطيع فعله في مفصلين مهمين آخرين من مفاصل وجودة ، لحظة ولادته ويوم عرسه ، لنتأمل مع النحاس سخريته من كل ذلك :
مدهش جدّاً
أن تجمع معظمهم
وللمرة الأولى
تسير ...
وكلهم خلفك
ولفرط تقديرهم
يحملونك على أعناقهم
وللمرة الأولى
            أيضاً
               يصلون من أجلك .
ومثل منتقي الحبوب في الحقل
قد
يغربلون كلامهم
يتوراى خجلاً .. الحاقدون
                   وأعداء نجاحك  المتواضع
أو سيهبط العسل على ألسنتهم
كما تهبط القصيدة
من الناحية الفنية سنفاجىء أن النص ينكتب بلغة ليست وجدانية باكية ، كما يفترض تقليدياً تجاه الموت ، لغة النص بمجملها لغة ساخرة تُعرّض وتتهكم بالموت نفسه وبالميت، كما تسخر من الذات والأهل والآخرين ، إنها سخرية المفارقة لا سخرية البطر والاستهانة، الألم من فعل الموت ومرارة الفراق موجود بين السطور، وخلف العبارات وتحتها يقطر  بدل الدموع دماً.
ولا شك أن اختيار الشاعر لقصيدة النثر شكلاً للكتابة والتعبير كان فاعلاً قوياً باتجاه نبش الكوامن القصية في الذات ، وتطويع لغة سهلة سردية ومتقشفة في آن ،  النص يعتمد في مجمله على الصور المشهدية وعلى المفارقات المتخلقة من الموت وردود الفعل إزاءه .
إن قضية الموت قضية كبرى ، إذ هي في حقيقتها وجودنا الأهم ، مع ذلك فإن التعبير عنها من خلال لغة الهامش والتفاصيل الصغيرة ، والمعتاد اليومي ، ومشاغل الدوام والأصدقاء والسهر والتأخر والالتزامات التي تبدو مقارنة بحادثة كالموت تافهة وعابرة.. هو نجاح يحسب للشاعر إلى حد كبير ، فقد نجح في تطويع فعل ذي دلالات متنية ورمزية وجودية كونية ، وحوله إلى نص تفاصيل صغيرة دون أن يخل بموقعه السياقي كإشكالية كبرى من إشكاليات الوجود .
ليس في نص النحاس ذلك الكون التخييلي الهادر في مواجهة الموت، كما نلمسه عند الشعراء العرب منذ طرفة بن العبد وحتى محمود رويش ، وهذه مفارقة أخرى - تقع ربما خارج الشعر – أقصد كون الشاعر مصرياً ، مع ما هو معروف عن طقوس الموت في تراثه الخاص منذ أيام الفراعنة والتي ما تزال آثارها وظلالها ملموسة حتى اليوم .
ليس من اللائق
أن أتجاهل تعبهم
وأطلب
المرور على "أتيليه القاهرة"
 أو تناول القهوة
أو تفاجئهم
بأمسية في " وسط البلد "
فالنعش ، حاملوه ، والجالسون هناك
سيتبادلون
الرفض المنطقي لرغبتك
إنها قفزة مميزة في طريق طويل تحاول فيه كوكبة من شعراء العربية اليوم تبديل منطق الشعر، وتغيير مواضعاته ، لقد تبدل النسق الثقافي، بلغ التسلسل الاجرائي في لغة الشعر ومفهومه ذروته ، تبدل الوعي فتبدلت اللغة، وكسبنا الرهان إذ نحن نقبض على دلالات جديدة ، تنتجها بلاغة السرد والتخلي إلى حد كبير عن المجاز.

تعليق عبر الفيس بوك