هل فقد العرب فرصتهم التاريخية؟ (1-2)

 

عبيدلي العبيدلي

منذ أحداث العام 2011 العربية، والتي اختلفت التسميات التي أُطلقت عليها، فتراوحت بين "الربيع العربي"، و"المؤامرة الخارجية"، و"الفوضى الخلاقة"، هبَّت على المنطقة العربية رياح تغيير؛ البعض منها كان سلبيا بالمطلق، والآخر كان إيجابيا بالمطلق. وبين هذين الطرفين المتناقضين، كانت هناك المنطقة الرمادية.

ولو بدأنا بالإيجابي، فيمكن القول إن ما جرى وضع حدًّا للعديد من الأنظمة الشمولية التي جثمت على صدر المواطن العربي لعقود منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وحرمته من أبسط الحريات التي يستحق أن ينعم بها، وأمعنت في سوء إدارتها لمكونات المجتمع، بما فيها الاقتصادية، والتي قادت لمستوى التخلف الذي بلغته البلاد العربية. حتى الأنظمة التي لم تشملها تلك التغييرات، رأت فيها تحذيرا مباشرا يُهدد استمرارها، ما لم تقدم على بعض التطويرات، حتى وإن كانت شكلية. هذا التحول لا يمنع وجود بعض الاستثناءات مثل مصر التي عاد العسكر كي يستلموا زمام الأمور من جديد. ولعل أبرز تحول إيجابي هو ذلك الذي عرفته الرياض؛ فالخطوات التي أقدم عليها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، خاصة عندما تقاس بالأوضاع الخاصة التي كانت تعيشها المملكة العربية السعودية، لا يمكن تجاوزها.

أما السلبي، فهو الحيز الذي بات يحتله العنصر الأجنبي في مساحة صُنع القرار العربي؛ فنظرة سريعة على خارطة البلاد العربية تكشف بما لا يقبل المجادلة أن دولا مثل العراق وسوريا فقدت نسبة عالية من دورها في تقرير مصيرها لصالح دول أجنبية، إما دولية مثل روسيا، أو إقليمية مثل إيران وتركيا. يزداد الأمر سوءا والصورة قتامة عندما نصل إلى شبه الجزيرة العربية، لا يمكن للمراقب أن يمر دون التوقف عند الأزمة الخليجية التي باتت تهدد كيانا عربيا هو مجلس التعاون الخليجي، والذي يعد أقدم تجربة وحدة عربية عرفها العرب في تاريخهم الحديث والمعاصر. يضاف إلى ذلك، وفي الخانة السلبية حرب اليمن التي لا يعلم سوى الله سبحانه وتعالى تاريخ توقفها.

بين هذين النقيضين، هناك بعض الحالات التي تقف في منتصف المسافة بينهما، ومن أبرزها الحالة التونسية التي لا يزال الوقت مبكرا للحكم على منجزاتها، والمستقبل الذي ينتظرها. فهي من جانب أطاحت بطغمة حكم شمولي، لكنها وحتى اليوم لم تطرح النموذج الحضاري المتطور الذي يبيح لنا الحكم عليها. هناك أيضا، ولو بصورة أصغر الحالة العمانية التي نجحت، إلى حد ما، في تجاوز تداعيات أحداث 2011، وتمكنت من حصرها في أضيق دائرة ممكنة، من خلال تطويقها شيئًا من الحكمة.

القبول بهذا التوصيف للحالات الثلاث لا ينبغي أن يحول دون تشخيص الخسائر الجمة الفادحة التي تكبدها العرب، وهم يمرون عبر تلك الحالات، خلال السنوات الأربع التي تلت اندلاع تلك الأحداث. فعلى المستوى المالي فقط، ووفقا لما جاء في تقرير صادر عن الأمم المتحدة، ونقله موقع (rt.com) الإلكتروني العربي بلغت تلك الخسائر ما يعادل "6 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في المنطقة بين عامي 2011 و2015. (وفي سوريا وحدها وصلت) خسائر الناتج المحلي الإجمالي ورأس المال إلى ما يعادل 259 مليار دولار منذ العام 2011"

تقرير آخر صدر عن "المنتدى الإستراتيجي العربي"، ونقله موقع (www.cnbcarabia.com)، قدر "تكلفة الربيع العربي العنيف والدموي بنحو 833.7 مليار دولار، تشمل خسائر إعادة البناء والناتج المحلي والسياحة وأسواق الأسهم والاستثمارات، إضافة إلى إيواء اللاجئين". إن حجم الضرر في البنية الأساسية للدول المنكوبة بلغ ما يعادل 461 مليار دولار، (ويمضي التقرير في تفصيل تلك الخسائر، ويضيف لها أخرى فيقول)،  إضافة إلى 1.34 مليون قتيل وجريح بسبب الحروب والعمليات الإرهابية، وبلغ حجم الضرر في البنية الأساسية ما يعادل 461 مليار دولار أمريكي عدا ما لحق من أضرار وتدمير للمواقع الأثرية التي لا تقدر بثمن، وبلغت الخسارة التراكمية الناجمة عن الناتج المحلي الإجمالي الذي كان بالإمكان تحقيقه 289 مليار دولار أمريكي عند احتساب تقديرات نمو الناتج الإجمالي المحلي، نسبةً لسعر صرف العملات المحلية. كما بلغت خسائر أسواق الأسهم والاستثمارات أكثر من 35 مليار دولار؛ حيث خسرت الأسواق المالية 18.3 مليار دولار أميركي وتقلص الاستثمار الأجنبي المباشر بمعدل 16.7 مليار دولار أمريكي.

تقرير اقتصادي ثالث نشره بنك "إتش.إس.بي.سي" أشار إلى "أن انتفاضات (الربيع العربي)، ستفقد دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أكثر من 800 مليار دولار من الناتج الاقتصادي بنهاية 2014، (محذرا) من "أنه بنهاية 2014 سيكون الناتج المحلي الإجمالي للدول السبع الأكثر تأثراً -مصر وتونس وليبيا وسوريا والأردن ولبنان والبحرين- أقل بنسبة 35 بالمائة مما كان سيسجله لو لم تحدث تلك الانتفاضات. إن التدهور الشديد في الميزانية وتراجع فاعلية الحكومة والأمن وسيادة القانون، كل ذلك سيضغط بشدة على جهود صانعي السياسات حتى فيما يتعلق بإعادة التوظيف إلى مستويات ما قبل الثورة".

ولو حاولنا تقييس ذلك على مستوى كل دولة على حدة، يكفي ما قاله الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، خلال مؤتمر ''حكاية وطن''، في مطلع العام 2018، حين "قدم خلاله السيسي للمصريين كشف حساب لفترة رئاسته للسنوات الأربع الماضية، إن خسائر الشعوب العربية من أحداث 2011 والثورات وما تبعها، بلغت 900 مليار دولار، و1.4 مليون قتيل، و15 مليون لاجئ".

تلك الخسائر والمعاناة تشير، لدى بعض المراقبين، إلى أن العرب فقدوا فرصتهم التاريخية كي يكون لهم موقعهم المتقدم بين الأمم الأخرى. لكن واقع الحال يشير إلى ما هو نقيض ذلك، ويؤكد أن أمام العرب فرصة تاريخية باتوا مطالبين أكثر من أي وقت مضى ألا يفوتوها. وأنها إن سنحت اليوم، فهي لن تتوفر مرة أخرى. لكن الأمر بحاجة لقيادة تاريخية تملك رؤية تاريخية، وقادرة على تحمل مسؤولية تواكب تلك الرؤية.