قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ

محمد عبد العظيم العجمي – مصر


الشاكلة: هي الطَّبع والسجيّة، والمشاكلة هي المماثلة والنديّة، والمعني هنا: أن كلا يعمل علي ما يشاكل طبعه ونِدُّه ومثلُه.. ولكن السجيّة والطَّبْع لها أصل ومعتبر، فلا يكون سلوك المرء عفويا (خبط عشواء)، ولكن له منهج علميّ يشرحه، وقد أُنشئت مدارس لعلم النفس السلوكي (جون واطسون - 1912)، وخلصت إلي أن سلوك الإنسان يصدر نتيجة لمؤثرات خارجية وكردود أفعال تستجيب لتلك المؤثرات بعيدا عن الخبرات الشعوريّة والنفسيّة والاستبطان، وأن مكونات السلوك تتشكل من البيئة المحيطة المكسبة، وليس فيه نوع من السجية أو الجبلة، وهي تخالف مدارس علم النفس الأولى التي ترجع معظم السلوك الإنساني إلي الاستبطان واللاشعور، والموروث النفسي.
والشاكلة توحي لغويا بالتقييد "أي التقيد السلوكي" ومعناها أن الإنسان أسير لطبعه المكتسب وسجاياه الأصيلة، والسجايا هي الموروث الجيني - كما نسميه حديثا - الذي لا دخل للإنسان فيه، وتسمي (الجِبِلَة)، وقد فهم العرب الأقدمون ذلك، حينما قال النبي - صلي الله عليه وسلم - لأشجّ عبد القيس «إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ، وَالأَنَاةُ». رواه مسلم. وفي زيادة عند أبي داود: فقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَنَا أَتَخَلَّقُ بِهِمَا؟ أَمِ اللهُ جَبَلَنِي عَلَيْهِمَا؟ قَالَ: (بَلِ اللهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِمَا). فقَالَ: (الْحَمْدُ للهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلُقَيْنِ، يُحِبُّهُمَا اللهُ وَرَسُولُهُ)، وقد قال - صلي الله عليه وسلم - «إنّما العلمُ بالتعلّمِ، والحلمُ بالتّحلم»، وهذا يوحي بأن الإنسان بالجهد والدرس يكتسب العلم، وإنْ لم يكن عالما، وبالممارسة والمعاودة يكتسب الحلم وإن لم يكن حليما قبل ذلك.
والمفهوم أن: الشاكلة هي هذا المزيج المتكون من: السجيّة الأولي، والمكتسب كذلك مما تمليه البيئة المحيطة بصورة (لا شعورية) غالبا، وما يحمل الإنسان نفسه علي كسبه مما يقتضيه العقل والمروءة، لأن المعتبر أن المحامد والمكارم بها من المشقة ما يجعلها لا تميل إليها النفس ولا تألفها إلا مكرهة، كما قال المتنبي:
لَوْلا المَشَقّةُ سَادَ النّاسُ كُلُّهُـمُ؛   ألجُودُ يُفْقِرُ وَالإقـدامُ قَـتّالُ
وَإنّمَا يَبْـلُغُ الإنْســانُ طَاقَتَــهُ   مَا كُلّ ماشِيَةٍ بالرّحْلِ شِمْلالُ
وقال عمرو بن الإطنابة الأنصاري حين أحجمت نفسه عن خوض الوغي:
أَبَتْ لِي عِزتِـي وأَبَـى َحيائِي  وكسبي الحَمْدَ بالثَّمَنِ الـرَّبِـيحِ
وإِقْدامِي على المَكْرُوهِ نَفْسِـي وضَرْبِي هامَةَ البَطَلِ المُشِـيحِ
وَقَوْلِي كلَّما جَشَأَتْ وجـاشَـتْ مَكانَكِ، تُحْمَدِي أَو تَسْتَرِيحِـي
لأُكْسِبَها مآثِـرَ صـالِـحـات  وأَحْمِي بَعْدُ عن عِرْضٍ صَحِيحِ
بِذِي شُطَب كمِثْلِ المِلْحِ صـافٍ  ونَفْسٍ ما تَقِرُّ على الـقَـبـيحِ
فقلت: لها لما جـأرت وجـاشت مكانك تحمدي أو تستريحي
ولا يزال الإنسان يحمل الطبع علي المحامد حتي يصير عادة لا تفارقه، ولا يزال كذلك يميل مع الطبع السيئ ويسلم نفسه له حتي يصبح عادة لا يستطيع الانفكاك عنها.
وقد يحاول المرء تكلف بعض السلوك ليوهم من حوله بما ليس فيه، وهذا أمر مذموم لا يلبث أن يبهت صاحبه، ولئن استمرأ فيه فيصبح منافقا، وقد ترجم (زهـير) ذلك فقال:
وَمَهما تَكُن عِندَ اِمرِئٍ مِن خَليقَةٍ  وَإِن خالَها تَخفى عَلى الناسِ تُعلَمِ
 كما ذكر كذلك لزوم العادة للإنسان وتغلبها عليه فقال:
وَإَنَّ سَفَاهَ الشَّـيْخِ لا حِلْمَ بَعْـدَهُ * وَإِنَّ الفَتَـى بَعْدَ السَّفَاهَةِ يَحْلُـمِ
ومن هنا: فهذا المقطع من الآية والذي لا يزيد عن خمس كلمات قد قرر كثيرا من الحقائق والنتائج مفادها:
أولا-  تلخيص ما قررته المدارس السلوكيّة والنفساويّة والتي تشرح السلوك الإنسانيّ وتفسره سواء بالمرجعية البيئية أو النفسية والاستبطان في اللاشعور، أو الكسب الإرادي، وبالتالي فما ينتج عن ذلك كله هو بالفعل ما يقرر مصيره.
ثانيا-  مخالفة الفرق (القدريّة والجبريّة والمعتزلة)، وكلها فرق تختلف حول الفعل الإنساني، وخاصةً في قضايا "الجبر والاختيار"، فالآية تقرر حقيقة واضحة كطلعة الشمس وهي "أن الإنسان مسؤول مسؤولية تامة عما يقترف من أفعال ومحاسب عليها بالنقير والقطمير".
ثالثا - فيها نوع من الوعيد للكافر، والرجاء للمؤمن، لأن المشاكلة، تقتضي كذلك أن يكون الجزاء من جنس المقدم من العمل، فمُقدِّم الخير يلقى خيرًا، ومُقدُّم الشرَّ يلقى شرًا.
رابعا- إنّ كلا ميسرٌ لما خلق له، وبالتالي فسعي الإنسان يقتضي أن يكون لشاكلة الخير حتى يوفّق وييسر له، وأن السعي للشرّ يقتضي كذلك أن يفتح له  من التيسير ما يحقق له إرادته.
خامسا - اقتضاء الاختيار والإرادة الكاملة للإنسان حتي يكون سعيُه الحثيث خالصا لما يشاكله، دونما أدني تأثير، حتى تتحقق له المسائلة الكاملة عما كسب واقترف..  «وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا».

تعليق عبر الفيس بوك