قال: سافرت فتأدّبت

 

راشد بن حمد الجنيبي

تفرُّجُ همٍّ واكتسابِ معيشةٍ.. علمٍ وآدابٍ وصحبة ماجدِ

الشافعي واصفاً السَّفر…

حياة المرء التي أوجدها الخالق في كل نفسٍ انسجاماً مع منظومة الكون لها عوالم كثيرة وجوانب عظيمة، وتستحق أن يعيشها المرء بكل تفاصيلها بشغفٍ وانطلاقةٍ واكتشافٍ يسبقهن الخشوع، كل ذلك قبل الخلود، لكن الكون بكل جلاله لا تكفينا فيه حياةٌ واحدة، نعم لا تكفينا للإلمام بكل صفحاته، رصيدنا الحياتي لن يكفل لنا العيش في كل العصور ولن يُشبِعَ رغبة الإنسان الباحث المتأمّل للاكتشاف والتعايش مع كل الأعراق والشعوب والظروف والبشر، لكن بصيصاً من نور يلوح من بعيد يجعَلُ من هذا الرصيد (العُمُر) مليئاً غنياً مفعماً بالحياة مزدهراً بلآلئ التجارب، ذلك البصيص النيّر هو "السفر". 

يسافر المرء لغاية،  يُسافر ساعياً لرزق أو طالباً عِلمًا أو قد يسافر هارباً ظُلماً، للحياة يسافر المرء، بل حتى في المنام يُسافر في خلجات نفسه، قيل إن السفر يكشف معادن الناس لكنه أيضًا يوزن معدن المسافر نفسه، ويكشف عن زوايا جديدةٍ فيه، يرى منها علمه ويقوّم بها آراءه، حتى الأئمة والعِظام يُعلّمهم السفر، فشافعيُّ مصر ليس كشافعيِّ العراق، يسافِرُ الفتى مغتربًا طالباً لرزق أو لعلمٍ أو لانشراح صدر، لكنه يرجع لذويه فتاً غير ذلك الذي عهدوه، لأنه في سفره انطلق وأخطأ قبل أن يُصيب، وفرح وبكى وعانى ونجا وحاول وسعى وعاند ثم تفادى، كل ذلك صقله أدّبه وهذّبه وغدا أقوى أو إن صح التعبير أكثر درايةً بعوالم نفسه، إذا كنت تحب ابنك دعه يُسافر - مثل ياباني. إن لم يتسع البَلَد أو جَبراً ضُيّقت على المرء ظروف الحياة، يكون السفر حينها إيضاحاً للظروف وفهماً للواقع ثم للتنويرِ من بعيد، وفي روايةٍ دينية يُحكى أن رجلاً أذنب وضاق ذرعاً في بلده، من الصحبة من المُحبطين من البيئة، فهداه نبيٌّ للهجرة، لسفرِ التوبة، فالسفرُ أحياناً هو "خلوة" لإيضاح عوالم أنفسنا وخباياها وقواها لنكون أقدَرَ لخلقِ بدايةٍ أُخرى جديدة، سيّدُ الكون مُحَمَّد هاجر بلوعةِ فراقٍ وبتجاوزٍ عن ظلمٍ وللتنفّسِ بعيداً عن اختناق الجهل، ليبني من بعيد أُمَّةً من نور، الأهداف تبقى ثابتة رغم الهجرة وقسوة الظروف وعملنا ليس ملزماً أن يكون في الوطن لكن ثماره لابد أن تصل إليه، نعم الهجرة غير السفر لكن "السفّر" ابن أمّه "هجرة"، في سَفَرِ (النبي) فَقِهنا أنّ مابين أهدافنا وتحقيقها حاجز وهـو أنت،،، في سفِرِه علّمنا أنَّ الحرية هـي حرية الفكر والكلمة، وأن النهضة تبدأ بحزم وكِفاح مع يدين مرفوعتَين إلى السماء.

في المُقابل تجد أحياناً أُخرى أن السفر قاسٍ جداً، ويوبّخك بمرارة صِعابه حد البكاء إن أخطأت، فإن قُلْنَا إن السفر يكشف معادن النَّاس ويغنيك عن ألف تجربة، فإنَّ لكلِّ ذلك ضريبة، لأنك لن تعرف معدن الشخص إلا بعد أن يقع بينكم أمرٌ جَلَل، ولن تتعلم أن تترك مسافة كافية بينك وبين البشر إلا بعد أن تتعرض لموقف حرج، خصوصاً وأن البعض يكفيك معهم حدود التحية والسلام،  ولن تتعلم التغافُل الْحَسَن إلا بعد أن يوجعك كلام أحدهم وأنتَ مُسافر ولا تهتم، وتذكّر أنك لن تتعلم الصمت والتريّث إلا بعد أن يُعرّيك التهوُّر والكلام، في الجانب الآخر المُرّ من السفر لا تتواضع للمتكبرين بل جاملهم وتواضع فقط للمتواضعين، في الجانب الآخر من السفر تذكّر "أن النَّفَس فضاحة" أو كما قيل "النَّفَس خَيل إبليس"، فاركدها قبل التعجرف، حتى الصُّفح والمسامحة عوضاً عن الانتقام سيعلمك السفر أنّهن مِن خصال الكِرام.

في السّفر سترى مالم تراه في بيتك، وستعيش ما لم تَعِشهُ في بلدك، وستتعلم مالم تتعلمه في مدرستك، حقّاً سافرت فتأدّبت!