الكتابة.. بيتنا!

مدرين المكتومية

تمثل الكتابة لأي مبدع أكثر من مجرد مهارة في تنسيق الكلمات واختيار الألفاظ والعبارات اللامعة وحتى طرح الأفكار؛ إذ تمثل مسكن الروح وملاذها الآمن.

الكاتب يشعر تدريجيا بسحر الكتابة وقوة الكلمة التي يسطرها بروحه، فتجذبه هذه الغواية رويدًا رويدًا حتى ينغمس في حبها. قد يحاول التهرّب منها أحيانا إلا أنّها تناجيه كحضن الأم الرؤوم ليسكن فيها ويظل حبيس مشاعرها، فهو لا يقوى على الهرب والفرار أبدا منها، وكأن ما يربطه بها ما يربط المغناطيس بالمعدن.

علاقة الكاتب مع الكتابة غامضة وسرية، فبقدر ما يحبها بقدر ما تستعصي عليه في كثير من الأحيان، لأنّها أمر ليس بالسهل كما يعتقد البعض، كونها دائما مخاضا عسيرا، خاصة وإن كانت تأتي في وقت غير مخطط له، أو أن يكون الكاتب ملتزمًا بوقت معين لاستخراج ما في مكامنه واستنطاق الحروف، فهو بذلك يُحرّك الجامد ويمنح الحرف الحياة ليستشعره الآخر (القارئ). وأمام اللهاث اليومي للفرد لكسب لقمة العيش، يعود في آخر النهار إلى مسكنه الحقيقي؛ حيث الروح تشعر بالألفة بعيدا عن النفاق الاجتماعي وخراب الروح والجسد، حينها يتجرّد من كل شيء، فيرمي بكل ما يشعر به على ورق، فيكتب ويكتب.. وحين يتوقّف عن الكتابة يشعر كأنّه مجنون، يستحضر مشاعره ليقذف بها على ورقة أو شاشة بيضاء، وحين يأتي ليرى نتاج ذلك يجد نفسه وقد حول ذلك الجنون إلى مادة يُعجب بها هو أولا قبل غيره، وكأنّه في حالة صدمة وذهول مما كتبه، وأنّ تلك الحروف من بنات أفكاره خطتها يمينه التي صارعت قبل لحظات فقط لتخرج مما عايشته من حالة صعبة.

الكتابة إذن اسميها "الصحراء الخضراء"، التي يهيم فيها الكاتب وحيدا مع حبيباته من الحروف والكلمات، صحيح أنّها في كثير من الأحيان تصيبه بالأرق، لكنه أرقٌ إيجابي، مليء بالأحلام، والكوابيس أيضا التي تسكن الكاتب وتسلبه الطمأنينة، وما يلبث أن تؤرقه الأسئلة: "هل أنا هو أنا؟ ولماذا أنا لست الآخر؟" وغيرها من هذه الأسئلة الوجودية، التي تقض مضجع أي كاتب، فلا يجد لها جوابا سوى بالكتابة التي تتحول من داء إلى دواء!

المدهش في أمر الكاتب أنّه عندما يحيا لحظة الكتابة نفسها لا يملك القدرة على التراجع أو التفكير فيما كتبه إلا بعد الانتهاء منها، حينها يقف عند الكيفية التي كتب بها وعن مقدرته للبدء من جديد.

"لماذا أكتب؟".. سؤال يطاردني كل ليلة، لا أملك جوابا ولا أعرف وسيلة للهرب من السؤال، اتلفت إلى أسلافي من عائلة الكتاب، فأتذكر مقولة ماركيز عندما قال: "أكتب لكي يحبني أصدقائي أكثر، يراودني شعور بأنّي أصبحت كاتبًا حين أدركت أنّي لا أصلح لعمل أي شيء آخر". يا لها من إجابة! لكن يظل السؤال يطاردني أمام شاشة حاسوبي مطاردة شرسة لا تنتهي، وتبقى الأفكار تنساب والكلمات تتقاطع هناك؛ حيث الأبديّة فيما وراء الأفق البعيد.

madreen@alroya.info