في الاحتفال باليوم العالمي للشعر في 21 آذار (مارس):

"السابعة حـ(ــر) بًا بتوقيت دمشق" (7)

د. السيد العيسوي عبد العزيز – ناقد وأكاديميّ مصريّ
مدير النشاط الثقافي بمتحف أمير الشعراء أحمد شوقي


في الحلقة السابقة/السادسة من القراءة الكاشفة لديوان "السابعة حـ(ــر) بًا بتوقيت دمشق" للشاعر السوري عمر هزاع تساءلنا: هل صورة الشاعر في المنفى ما زالت تتبع إنسانها في موطنها، وكأنها لم تفارقه، إلا جسدًا، أم الإنسان السجين في دير الزور (إنسان عمر هزاع)، يتبع خطاه في الغربة باحثا عنه من حيث هو ظل لا حقيقة، فالحقيقة قابعة هناك؟ أم أن المدينة المحطمة تحولت إلى إنسان محطم يسير ويعرج ويتبعه الشاعر دون أن يفارقه؟ على أية حال هي صورة تذكرنا بعالم الذر، لكأن دير الزور؛ موطنه؛ هو جنته الأولى التي فارقها، لكنه ما زال يقبع هناك، فيها.. وهكذا ولدت حالة الحرب والانخراط في تداعياتها والشعور الوطني المصاحب هذه الحالة النفسية الغريبة: صورة الإنسان والظل، دون معرفة الأصل من الصورة.
وكما يتأمل الشاعر في الحياة يتأمل في الموت، حيث صارا عملة واحدة في المفردة الشعرية:
لِلمَوتِ أَبجَدَةُ الأَحزانِ
تَنقُشُها "ياءُ" السِّيادَةِ
- يا اللَّهُ -
وَ"الدَّالُ"
فالموت أبجدية تدور على الجميع، بالترتيب؛ "أُكِلتُ يوم أُكِل الثورُ الأبيض" بأيدينا نحن بـ "يد" السيادة. وهكذا تصبح السيادة سببًا للعبودية. وهنا لا يجد الشاعر سوى الاستغاثة "يا الله" وحين تأتي كجملة اعتراضية، فإن ذلك يعني أو يوحي أن الأرواح تزهق، ولا تجد في وسط هذا سوى الاستغاثة بالله. هكذا تبدو الجملة الاعتراضية والنداء نوعًا من الشكوى والاستغاثة بين نفسين آخيرين تلفظهما الذات قبل الفراق.
وعلى ورود كلمة "تنقشها" تبدو القصيدة نقشًا بديعًا، ذات حمولات وجدانية هائلة، حيث يعتصر الجرح كل عربي لما يحدث من قتل بشع لأجيال عديدة وصل إلى الأطفال بأساليب قذرة لا تتناسب وأي ضمير إنساني.
وبعد أن يستغيث الشاعر بالله يستغيث بـ "سادة العصر":
يا سادَةَ العَصرِ
هَذا الجُرحُ قانِيَةٌ شُمُوسُهُ
وَضِمادُ الجُرحِ غِربالُ
عبر صورة بديعة تصور مدى تدفق الدم السوري والعربي بشكل غير مسبوق، فالجروح شموس ملتهبة في أجساد أبناء الوطن، تنزف، وكل ضماد هو غربال لا يمسك الدم من كثرة تدفقه.. صورة توحي بالسمو، والعذاب، والقهر.
إن أدب الحرب ينتج هذه الصور البديعة غير المسبوقة تحت وطأة الألم والعذاب والمعاناة والمعايشة اللحظية، هنا أدب حي يحمل نبض الواقع، ويتغلغل في أنفاس الإنسان.
ثم يواجه الشاعر الواقع العربي مواجهة حادة مباشرة، بعد أن بدأ بقمة الهرم:
أَكُلُّكُم لِدُمُوعِ الشَّامِ نائِحَةٌ؟!
وَمُطرِبٌ لِنَشِيدِ الحَربِ؟!
طَبَّالُ؟!
يتعجب الشاعر من الموقف العربي الصامت تجاه ما يحدث، لا نواجه مصائبنا إلا بالدموع حينا، وبالأناشيد الباكية حينًا آخر، وربما بتبرير ما يحدث والتغني له، فالعبارة واسعة تشمل معاني متناقضة، تعكس واقعًا عربيًا متناقضًا. وهذا طبيعي، فكما يزلزل الواقع الشاعر، يزلزلنا بشعره على النحو السابق. لذا يأتي التعبير عبر ثلاثة استفهامات، كأنما كل استفهام زلزال من نوع ما، يرتجف له قلب الشاعر.
ثم تستمر موجات التساؤلات، وتوابع الزلازل:
أَكُلَّما أَدخَلُونا فِي "تَفاعُلِهِم"
لِلكِيمِياءِ: (أَهازِيجٌ؟! وَمَوَّالُ؟!)
وهو بيت يتناص مع الواقع لا مع نصوص سابقة، ما يضفي على البيت نوعًا من الحيوية، والواقعية، والنبض الحار، فـ "تفاعلهم" هنا تعني التفاعل مع الأحداث في المعنى القريب، بينما تعني التفاعل الكيميائي القهري مع الغارات الكيماوية، التي تصب على رؤوس الأطفال ويتفاعلون معها بالتشوه والاحتراق والموت، كأنما يصب على رؤوسهم الحميم، في المعنى البعيد. وهنا يظهر تأثر الشاعر بمهنته – كصيدلاني- تأثرًا جليًّا, وهو تأثر نجد له بصمة هنا وهناك في قصائد الشاعر بشكل أو بآخر مما يضيف له خاصية فريدة تمكنه من التجديد الواعي أو التطوير العلمي الأدب في آن معًا.
ويسخر الشاعر من ردة الفعل (أهازيج وموال) هل نغني للموت سواء أكان هذا حزنا من فريق المنهزمين، والمتعاطفين معهم، أو شماتة وزهوًا من فريق المنتصرين، وكلاهما فرقاء الوطن، دون ثرثرة أو دخول في صراع أيديولوجي، وهذه إحدى سمات أدب الحرب عند الشاعر، حيث يصفي التجربة من شوائبها الأيديولوجية ويقدم نصًّا إنسانيًّا يمكن أن يتعاطف معه الجميع، لأنه يمس الإنسان من أعماقه من حيث هو إنسان.
وكالعادة يبلغ الختام درجة عالية من التفجير:
أَكُلَّما راوَدُونا عَن تَفاهَتِنا؟
مَشَى عَلى شَفَراتِ المَوتِ أَطفالُ!
فالمختلفون هم الكبار، عبر دوامة من تفاهات السياسة وأطماعها، أما الذين يجنون الموت فهم الأطفال، أجيال ترضع الرعب وتمشيى على شفرات الموت، ويالها من صورة مؤلمة تعبر عن قمة الألم والمعاناة لأجيال جديدة لا شك أنها أجيال الحرب، ومن المتوقع أن يكون لمن عاش منها كلمة حضارية خاصة بعد عقد أو عقدين من الزمان من تاريخ هذه المهازل، لأن أجيال الحرب من الأطفال تغير مصير البشرية، للأفضل أو الأسوأ بشكل غير مسبوق كما حدث بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، حسب درجة استعدادها والبيئة المحيطة بها..
البيت متفجر، وجاءت الأبيات الأخيرة عبر نوع من الاستفهام الإنشائي ، لأن الخبر لا يحتمل عرض هذه الحمولات الوجدانية الصعبة، فكأن الشاعر يحاول أن يشرك المتلقي في حمل هذه الأعباء الروحية المرهقة، عبر توزيع الدهشة والتعجب، دفعًا لاتخاذ موقف بشكل غير مباشر.
***
وبعد فإن هذه الدراسة هدفت إلى الكشف عن بعض سمات أدب الحرب في نوع من الأدب جديد انتشر في ظل ما يحدث في بعض أقطار الوطن العربي كما لم يحدث في التاريخ العربي من قبل.
كما هدفت إلى الكشف عن بعض سمات هذا الديوان لا سماته كلها، حتى لا تتضخم الدراسة، وبعض سمات الشاعر المائزة عبر رحلة إبداعه الثرة، لا سيما ما تميز بالجدة والحداثة منها على سبيل مشروع طويل ندعو إليه ألا وهو حداثة القصيدة العمودية عبر تقنيات تجدد من جلدها ومسيرتها الحافلة، بما لا يضر بحساسية هذا الفن الأصيل، ولدى الشاعر نماذج طيبة من هذا مثل آخرين كثيرين درسناهم يمثلون واجهة مشرفة لتطوير الشعر العربي .
والحق أننا ننتظر الكثير من الشاعر عمر هزاع، بما أنه صوت متميز وأثير، وإن كان من نصيحة فهي أننا ننتظر منه الأكثر والأكثر، وأن يستمر في عملية التجديد على مستوى البنية أو الأبنية، ليوازن بين الدفق الغنائي العاطفي والتقنيات الفنية التي تقرب القصيدة من النفس العصري بشكل هو أهل له، والنماذج السابقة من شعره هي رائدة له في هذا السبيل.
وكان علينا –في ظل أمور كثيرة- أن نختصر الدراسة وإلا فلديه سمات مميزة لا يمكن التغاضي عنها، لكننا نشير إلى بعضها فحسب، ومن ذلك اللجوء –أحيانا- إلى الصيغ الاشتقاقية التي تعوض إحساس الشاعر بنقص اللغة جوار لغته الداخلية الخاصة العميقة، فهو لديه قدرة على الاشتقاقات اللغوية الخاصة عبر صيغ تسعف في التجربة الشعرية بما أن المعجم الخام قد لا يسعف أحيانا. وتوظيف اللهجات المحكية في الخطاب الشعري لأهداف فنية، بالإضافة إلى قدرته على توظيف التراث. وتوظيف الحس الدرامي في شعره من خلال تقنيات الحوار خاصة. وكذلك القدرة على توظيف العروض العربي في صنع أوزان خاصة للقصيدة عبر إيقاع روحه الخاص وما تمليه التجربة من ذبذبات روحية، لأن الشاعر البارع هو من يحول هذا الكم العروضي إلى كيف فني، فيبدو كما لو كان يمر ويعبر برشاقة بين التفاعيل صانعًا لعبته الإيقاعية الخاصة. ثم المعاني البديعة التي لم يسبق إليها. واستخدام علامات الترقيم بين الحروف بشكل خاص كما في العنوان : "السابعة حـ(ــر) بًا بتوقيت دمشق".
كل هذا وفر لقصيدته كثيرًا من الحيوية، ورفع من شاعرية النص وأكسب نصه قيمة مميزة، حتى بدت بعض قصائده في هذا الديوان الخاص قصائد حارقة بارقة كمقذوفات الحروب.
وعلى كلٍّ فإننا نأمل له مزيد تطور وريادة هو أهل لهما وجدير بهما، وننصح له -ولجميع شعرائنا المميزين- بكل محبة واعتزاز: بالتصميم على تجاوز كل عقبة وتفاوت وتقديم ما يليق بالإنسانية وفنونها وبهم من إبداع. وهنا يجدر بالذكر أنه قد سبق لنا أن كَرَّمنا الشاعرَ عمر هزاع من خلال متحف أمير الشعراء أحمد شوقي بمنحه جائزة ميدالية أمير الشعراء على قصيدته الفائزة في مسابقة صالون أحمد شوقي التي يقيمها المتحف على المستوى العربي بعنوان "سِفرُ التَّكوين" مع تقديم مبررات الفوز عبر تحليل ودراسة موسعة للقصيدة، فليرجع لها من شاء ضمن دراسة ستصدر قريبًا ضمن مشروع بعنوان: "المنهج الإبداعي في النقد – نحو منهج نقدي جديد" في الجزء الأول إن شاء الله.

تعليق عبر الفيس بوك