في الاحتفال باليوم العالمي للشعر في 21 آذار (مارس):

خواطر حول الشّعر والشّاعر

أ.د/ محمد بن قاسم ناصر بوحجام  - الجزائر
رئيس جمعيّة التّراث،ولاية غرداية، الجزائر


الشعر رسالة نبيلة  وأمانة ثقيلة، يجب حملها، والاضطلاع بها في سبيل النهوض بالمجتمع، ولو كان ذلك يكلف صاحبها مشقة وعنتا؛ لهذا يقول محمد الهادي السّنوسي عن الشّاعر الحقيقي: " إنّه ذلك الفذّ القادر الذي أوقف نفسه على بني جلدته أو بني الإنسان أجمعين... يجاهد بفكره في  سبيلهم ليهدي الضّال، ويُعلّم الجاهل، ويضرب لأبناء البشر المثل العالية في السّعادة وكمال الإنسان "..لأنّ الشعر في حقيقته إفصاح عن الآمال والآلام، يبعث في النّفوس الطّمأنينة والأمان، ويكشف عن الهموم والأحزان، وينفّس عن القلوب الكئيبة، ويحاول إيجاد الحلول للمشاكل التي يتخبّط فيها الشّعب. يقول مفدي زكريا:
ما الدّمع بالسّلوى إذا هو لم يكـُـنْ     تَرَقْـرَق فـي  شعـر  تُغِــرِّدُه  الــورقا
هو الشّعرُ أسرار القلوب تقمَّصتْ     لـديـه، فـأولاهـا الصّـراحة والنُّطـقــا
هو الشّعـر آيـات النّبـوغ تفجّــرت    بكاسـاتـه البَيْـضا، فنـاولَـها  الخلقــــا
هـو الشِّعـر أنّـاتُ القلـوب تـردَّدَتْ     بِمزهـره  الصّـداح  تَـختـرق الأفْـقَـا
هو الشّعر للإنسان أهْدىَ من القطا   وأبصرُ في بَحر العواصفِ من زَرْقَا

يضيف الشّاعر نفسه:
رسالةُ   الشِّعْرِ   في   الدُّنيا   مُقدَسَّةٌ     لولاَ  النُّبُوّةُ،  كانَ  الشّعرُ  قرآنَا
 
بقول جبران خليل جبران: " أقول لكم: إنّما الشّاعر رسول، يبلّغُ الرّوح الفرد ما أوحاه إليه الرّوحُ  العام، فإن لم يكن هناك رسالة فليس هناك شاعر".
إنّ للشّعر وظيفة اجتماعيّة سياسيّة وتربويّة ونفسيّة، تؤمن بأنّ الشّعر وجد لكي يخدم الدّين وقضايا المجتمع، والمجالات النّفسيّة والتّربويّة..
إنّ لغة الشّاعر توصف بأنّها متمّيزة، ذات إيحاءات وظلال خاصّة، يمنحها لرموزه اللّفظيّة، مصدرها التّجربة الشّعورية الزّاخرة العميقة، وهذه الذّبذباتُ النّفسيّة التي تغمر جوانح نفسه، وقد تطفح على سطح حياته.
 إنّ الشّاعر مطالب بالتّعامل مع الكلمة على أساس الكشف عن دلالاتها، وما يمكن أن تقوم به من دور في نقل التّجربة الشّعوريّة المتجدّدة، بصفةِ الشّعر هو: " استكشاف دائم لعالم الكلمة، واستكشاف دائم للوجود عن طريق الكلمة، ومن ثمّ كان الشّعر هو الوسيلة لغنى اللّغة، وغنى الحياة على السّواء، والشّعر الذي لا يحّقق هذه الغاية الحيوية لا يمكن أن يسمّى شعرا بحقّ ".
هذا الدّور الخطير الذي تقوم به الكلمة المعبّرة واللّغة المتميّزة، يتطلّب من الشّاعر أن يكون مُلمًّا بأسرار اللّغة وواقفا على دلالاتها؛ ليستنفذ ما فيها من طاقات تعبيريّة، تتلاءم مع مشاعره الفيّاضة، وتنسجم مع مواقفه المتعدّدة؛ لهذا قيل : " إنّ الشّاعر الذي لم تسلم إليه اللّغة أسرارها لأعجز من أن تثير أيّ حالة شعوريّة ".
كما أنّه لكي يرقى الشّاعر إلى مستوى وظيفة اللّغة، من الإفصاح عن المكنون، وإيصال الأفكار إلى غيره وتجسيد الوجود الشّعوري، لابدّ له من استغلال كلّ صفة فيها: من تنوُّع دلالاتها، إلى موسيقى ألفاظها وظلالها، التي يمكن أن تتوفّر عليها، من خلال انسجام حروف ألفاظها، واتّساق كلّ لفظة بأخرى مجاورة لها ...
 هذا التّميّز في اللّغة، وهذه المواصفات المطلوبة في التّعبير النّاجح، تجعل الشّعراء الـمُوفّقين الذين يتمكّنون من التّعامل مع الكلمة - على  النّمط الذي هو أليق بها - والتّوفيق بين التّجربة الشّعورية، والتّحكم في الرّموز التي تحمل مسؤوليّة نقل هذه التّجربة بصدق وأمانة.. تجعلهم قليلين في كلّ عصر..  لهذا تختلف محاولات الشّعراء بين النّجاح والإخفاق من شاعر لآخر، ومن جيل إلى آخر، وتختلف بحسب المشاهد والتّجارب التي تمرّ بالفرد.
إنّ التّراكيب هي قوالب جاهزة، تصبّ فيها التّجربة الشّعورية، إلّا أن المناويل التي ليست من وضع الشّاعر نفسه، غالبا ما تكون عائقا عن نقل التّجربة؛ لعدم مناسبة هذه القوالب للمشاعر والعواطف لها، بينما النّجاح والتّوفيق يحصلان متى كانت المشاعر هي التي توجد قالبا ولغتها.
الشّاعر يكتب بوحي من الثّقافة التي تلقّاها في صباه، وترعرع فيها في شبابه، ووَفقا لطبيعة الجمهور الذي يخاطبه " إنّ فنّ الشّعر ثمرة الميراث الثّقافي، ومواقع الشّعر في البنية الاجتماعيّة ورغبة الذّات في تجاوز فرديتها بالاّتصال بالآخرين في جوّ من الإثارة ".
إنّ الشّعر في حقيقته تصوير وتجسيد لخلجات النّفس ودفقات الشّعور، فكلّ منقولات الشّاعر إلينا تصطبغ بالحالة النّفسيّة التي يكون عليها أثناء ممارسة العمل الشّعري، فهو لا يتحرّك ليَنْظِمَ قصيدة إلّا إذا كانت هناك دوافع وأسباب، وهو لا يجيد في هذا القول إلّا إذا كان منفعلا ومتفاعلا مع موضوعه، تدفعه تجربة شعوريّة زاخرة؛ لهذا يرى سيّد قطب أنّ العمل الأدبي هو " التّعبير عن تجربة شعوريّة في صورة موحية "،
إنّ نقل التّجربة الشّعورية إلى الآخر بواسطة الإيحاء، ومساعدته على تصوّرها، ثمّ الانفعال معها، والتّجاوب مع صاحبها.. كل ذلك لا يتمّ إلّا عن طريق التّصوير.فالتّصوير هو السّمة البارزة والأساس في العمل الشّعري، وهو الحدّ الفاصل بين الشّعر وغيره من الكلام المنظوم، يقول الجاحظ : " فإنّما الشّعر صياغة وضرب من النّسج وجيش من التّصوير " وقد شبّهت القصيدة الشّعرية بالصّورة، بل قيل: هي الصّورة ذاتها حتى قال الشّاعر الإغريقي" سيمونيدس Semonides  ( 556- 456 ق.م ) " الرّسم شعر صامت، والشّعر رسم ناطق " وقدرة الشّاعر وموهبته تقاسان بمدى تمكّنه من التّفكير، ونقل التّجربة عن طريق الصّور، والشّعور يظلّ مبهما في نفس الشّاعر، ولا يتّضح لنا إلّا بعد أن يتشكّل في صورة ".
إنّ عبقرية الشّاعر تقاس بمدى قدرته على التّصوير الدّقيق المعبّر، فبه ينجح في نقلنا إلى عالمه الّداخلي، ومن خلاله يحطّ بنا في العالم الخارجي؛ ببراعته في استكناه الكون، والوقوف على دلالاته؛ وذلك حين يوّظف طاقته الفكريّة، وحين تعينه تموُّجاته النّفسيّة، وتسعفه أدواته الفنّيّة على التّصوير والتّشخيص. لهذا نجد النّقّاد يحرصون على التّفريق بين ما يدرجونه في مفهوم الشّعر، وما يبعدون عنه صفة الشّعريّة، معيارهم في هذا هو ما يتوفّر عليه من تصوير وتعبير إيحائي. ولصعوبة الوصول إلى هذه الدّرجة، والنّجاح في تقديم صورة رائعة معبّرة، والإبداع فيها، نجد السّرقات الأدبية لا تكون إلّا فيها، والمفاضلة لا تكون إلّا على أساسها..
 يشعر الإنسان الفنّان منه على الخصوص - أحيانا -  بعدم جدوى التّعبير المباشر، أو التّفصيل والإيضاح في قوله؛ لعوامل كثيرة، قد يكون من بينها ضيق اللّغة المتواضع عليها على استيعاب مشاعره المتدفّقة، المتشابكة والمتداخلة، واحتواء ما يسكن منطقة اللّاشعور أو إخراجه، ذلك الجانب النّفسي العميق، الذي تترسّب فيه تلكم الإدراكات الّصغيرة على مرور الزّمن، والتي تمثّل حقيقة شخصيّة الإنسان؛ فيلجأ إلى " إيجاد لغة في اللّغة "؛ ليتمكّن من البوح بالخلجات النّفسيّة والحالات اللّاشعورية، دائمة الحركة والمتحفّزة للظهور؛ باستغفال الأنا، والّتمّرد على الأنا الأعلى، وقد يكون منها الخوف من الكشف عن الحقيقة عارية، والتّعبير عنها بوضوح؛ لأنّ الوضع الاجتماعي لا يستطيع هضم هذه الأفكار، أو لأنّ الوضع السّياسي لا يقبل مثل هذه الآراء، التي تزعزع من مكانته، وتنال من هيبته.. فيميل الشّاعر إلى التّلميح والتّعريض والإيحاء؛ حتّى لا يعرِّض مواقفه للمقاومة والصّدام، وآراءه للإجهاض والوأد، وقد يكون الرّغبة في إضفاء مسحة من المتعة والإثارة في الأثر الأدبي؛ لربط الملتقّي بصاحب المشاعر والأفكار، حين يعمد فيها إلى الإيحاء والإيماء، بدل تسميتها ووصفها. وفي كلّ هذه الحالات وغيرها يلجأ الفنّان إلى الرّمز الذي هو طريقة مستحبّة ومطلوبة في الأداء الأدبي.
إنّ الموسيقى عنصر أساس في العمل الشّعري، إذ يُعتمَد عليها كثيرا لطبع هذا العمل بالفنّيّة والجماليّة التي تساعد على التّأثير في المستمع والمتلقّي. فالجرْس اللّفظي الذي يمنحه الشّاعر لكلماته؛ باختيار الألفاظ التي تنسجم فيها الحروف: مخارج وصفات، والإيقاع الذي يحدثه في عمله بواسطة المقاطع؛ بتكرار كلمات خاصّة أو حروف خاصّة، ذات مخارج متّحدة أو متقاربة أو متباعدة – حسب الحاجة إلى ذلك – أو ذات صفة جرْسية واحدة، واختيار البحر المناسب للتّجربة الشّعريّة، من حيث القصر والطّول، والتّوفيق في اختيار القافية والرّويّ المناسب؛ بما ينسجم مع سياق العمل والأبيات، والرّبط بين بدايات الكلام وخواتمه، مع ملاءمة كلّ ذلك للموضوع والحالة النّفسيّة، يجعل الكلمة بحقٍّ صوت النّفس الصّادق، التي تحتاج إلى شكل ينسجم معها، يمنحها القوّة والصّدق الفنّي والسّيلان والجريان في نفس المتلقّي والقارئ، وبذلك يُعدُّ نفسيًّا لولوج عالم القصيدة؛ بحيث تضع ( أي الموسيقى) المستمع في جوّ القصيدة وموضوعها؛ ممّا يساعد على تحليلها، وتفهُّمها فكريًّا، وعلى معايشة الشّاعر فيها شعوريًّا.
إذا اعتنى الفنّان أو الشّاعر بالموسيقى؛ فلأنّها هي التي تترجم عن أفكاره، وتنوب عن عواطفه ومشاعره، وتسجّل أخيلته، بما توفّره له من ظلال، وما تهيِّئه من الأجواء؛ كي يعبّر، وللمستمع كي يفهم ويعي. فإنّ النّقص في عنصر الموسيقى أو ضعفها ينال من التّجربة الشّعرية، ويحطّ من قيمتها.
إنّ الإبداع في الشّعر والتّأثير في الآخير – باستغلال عنصر الموسيقى – يحصل حين يحسّ الشّاعر بانسياب الموسيقى في شعره، وسريانها في تجربته الشّعرية عن فطرة وسجيّة، وحين يكون الصّدق الفنّي متوّفرا، والاستعداد للنّظم موجودا، والمعاناة والانفعال النّفسي عاليين " والشّاعر المبدع حقًّا هو الذي يحسّ بفطرته الفنّيّة جريان الموسيقى في أبيانه، حين يختار اللّفظ والكلمة والوزن والرّويّ المنسجم مع موضوعه ".
 هذه بعض الخواطر عن مفهوم الشّعر ووظيفته، وحقيقة الشّاعر الذي يستحقّ هذه الصّفة.. قدّمتها مختصرة في هذا المقال، وقد أحسست أنّ الشّعر، تطاولت عليه العوامل التي أفقدته كنهه، وتطوّرت النّظرات حوله سلبًا، وتجرّأ بعض المتطفّلين على ميدانه ومضماره، وقدّموا مفهومات خاطئة في حقيقته، ومارسوا باسمه أو بصفته ما ليس منه، ولا يمتّ إليه بصلة..ففقد سوقه، ونيل من حرمته، وأنقص من جدواه، وحرم من وظيفته.. أرجو أن أقرأ نقدًا لما قدّمتُ من نظرات وخواطر من أصحاب هذا الفنّ..

تعليق عبر الفيس بوك