المورد البشري العُماني في فكر جلالة السلطان..! (2)

 

 

≥ مثَّل العام 1990 ميلادَ مرحلةٍ جديدةٍ في تجربة النماء العُماني... ومنحًى تغيُّريًّا في رؤية القيادة الحكيمة تجاه الإنسان

 

حاتم الطائي

تأكد فيما سَبَق تبيانه، عُمق الرعاية والاهتمام الساميين اللذين تُوليهما القيادة الحكيمة للمورد البشري العُماني، وما يتوافر عليه كلٌّ منهما من انعكاسات لجهود صَوْنه المتواصلة، التي تُعِين على الاستجابة لطموحات الحاضر، وتلبِّي توقعات الأجيال القادمة، وهو ما أشرتُ إليه في الجزء الأول من هذا المقال، بأنه عَيْن ما يقصُده مفهوم الاستدامة؛ وذلك على اعتبار أنَّ صناعة الإنسان كما هي غاية، فهي كذلك أكبر تحدٍّ في الوقت ذاته؛ فبقدر ما تحقَّق طوال العقود الماضية، يبقى القادم بكل تأكيد هو ملحمة وطنية جديدة، تحتاج من يُسطِّرها تأسيسًا على المنجز واستشرافاً للمستقبل؛ وهو ما يستدعي استكمال استقراء واستلهام منطوقات وخطابات جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -أبقاه الله- عقب عَقْدَي "التكويْن"، خصوصًا ما تعلق منها بـ"التأهيل" الممهِّد لغاية "التمكين"، الآخذة في التحقُّق اليوم.

 

* العقد الثالث (1990 - 2000)

1990م: "إنَّ الإنسان في كل التجارب الناجحة للأمم والشعوب، هو غاية التنمية، وهو أيضا وبنفس المستوى من الأهمية وسيلة التنمية وأداتها الفعالة".

1991م (افتتاح مجلس الشورى): "أول واجباتكم... العمل على تفجير الطاقات الخلاقة في الإنسان العُماني وإبراز قدراته الكامنة، وتنمية مواهبه واستعداداته".

1992م: "إنَّ تدريب الشباب، وتأهيلهم، ليأخذوا مواقعهم، بكل جدارة، في شتى ميادين العمل لهو أمرٌ بالغ الأهمية، وواجب وطني تقع مسؤوليته على عاتق كل عُماني".

1996م: "لقد أولت الخطة الخمسية الجديدة عناية خاصة لتوفير المخصصات المالية لقطاع التعليم والتدريب المهني؛ انطلاقا من حقيقة أن هذا النوع من التعليم هو أساس تأهيل القوى العاملة العُمانية".

1998م: "إن نجاح أية تنمية إنما هو عمل مشترك بين أطراف ثلاثة: الحكومة، والقطاع الخاص، والمواطنين. وعلى كل طرف من هذه الأطراف أن يتحمل واجباته بروح المسؤولية".

 

لقد مثَّل العام 1990م ميلادَ مرحلةٍ جديدةٍ في تجربة النماء العُماني بكل ما تحمله الكلمة؛ ومثَّل كذلك منحًى تغيُّريًّا في رؤية القيادة الحكيمة تجاه الإنسان، الذي بدأ يترقَّى إلى مرتبة التأهُّل المدروس والمسؤول معًا، ليضطلع بدوره الأساسي كشريك في عملية التنمية وصناعة استدامتها، وليس فقط فكرة الاستفادة المتحصَّلة له من خيراتها.. وبدأت كل الجهود تتجه نحو إبراز القيمة الكُبرى للمورد البشري العُماني المؤهَّل؛ باعتباره أحد المعينات الأساسية لاستثمار الثروات والموارد الطبيعية، بطاقات وقَّادة وعزائم لا تلين، فكان ثمرة ذلك وطنا يزهو فخرا بما حققه له المواطن من منجزات تَحْكِي بُعد النظرة السياسية الثاقبة في إرادة تكوين العُماني المتعلِّم والمتدرِّب، والمسهِم في رسم ملامح وجه عُمان المستقبل.. إنسانٌ يستوعب ما توافر له من اهتمام، ويطبق المنهج، ويربط بينهما وبين المخطَّط تقويمًا وتطويرًا.. إنسانٌ يُبدع في توظيف الوسائل والإمكانات والأدوات، ويبتكر ما لا يوجد منها فيزيدها، بُغية ولوج المرحلة الثانية وأقصد "التمكين".. وهو ما بدا واضحًا فيما بعد من نُطق سامٍ في كثير مناسبات وطنية.

 

* ما بعد الألفية الجديدة

2007م (افتتاح الانعقاد السنوي لمجلس عُمان): "لقد مرت على... عُمان أعوام حافلة بكثير من التطورات التي رسخت مفاهيم العمل المشترك والتعاون المتبادل بين المواطنين والأجهزة الإدارية في الدولة".

2011م (مجلس عُمان): لقد أكدنا دائما اهتمامنا المستمر بتنمية الموارد البشرية وذكرنا أنها تحظى بالأولوية القصوى في خططنا وبرامجنا... ولمَّا كان الشباب هم حاضر الأمة ومستقبلها فقد أوليناهم ما يستحقونه من اهتمام ورعاية على مدار أعوام النهضة المباركة؛ حيث سعت الحكومة جاهدة إلى أن توفر لهم فرص التعليم والتدريب والتأهيل والتوظيف".

2012م (مجلس عُمان): "التعليم أساس التنمية.. ففي مراحله المتعددة، ومن خلال مناهجه المتنوعة تُعَدُّ القوى العاملة الوطنية اللازمة لإدارة عجلة التنمية وتنفيذ برامجها في شتى الميادين".

 

لقد عكستْ كلمات جلالته -أيَّده الله- منذ مطلع الألفية الجديدة، وفي غير موضع، حرصًا أكبر على إتاحة مزيد من الفرص أمام الإنسان العُماني القادر على وضع لبنات الازدهار الوطني بيديه، بانسجام وتعاون وثيق بين الحكومة والقطاع الخاص والمواطنين، وعلى نحو تشعر معه كل الخبرات العُمانية بدورها وبإسهامها الإيجابى؛ المرسوم في حماية منجزاتنا المتعددة.. تمكينٌ واسعٌ للكفاءات القادرة على المشاركة بفاعلية، تشرَّبت "منهاجَ حياة" لاستكمال مسيرة البناء، فكراً ووعياً وتنويراً، سباقٌ تنمويٌّ مُمتد بمقدار ما يُفتتح من دُور علم، وقلاع تدريب وتأهيل وتطوير؛ حتى أصبح المورد البشري العُماني اليوم فاعلًا في شتى الميادين: عاملاً، ومُعلماً، ومهندسا، وطبيبا، وعالما، ومبتكرا، ورائدًا للأعمال.

وما يلفت الانتباه في هذه الفترة المزهرة، هو تأكيدٌ لا يكاد يخلو منه خطاب لجلالته -حفظه الله- على أهمية التعليم، والذي تكلل باعتماد جلالته "فلسفة التعليم"؛ كمرجعٍ لبناء السياسات التعليمية، وموجهٍ نحو التطوير المستمر للقطاع في جميع مراحله وأنواعه، ومواكبةٍ لمتطلبات التطور ومسيرة التنمية الشاملة، التي تفرض رُقيًّا بجودة التعليم والنهوض بمستوى مخرجاته.. فما انبنت عليه أول وثيقة لفلسفة التعليم في العام 1978م ضمن الخطة الخمسية الأولى، وما أُجري عليها من مراجعات من قبل وزارة التربية والتعليم عامي 2003 و2009م، كان مناسبًا في حينها، إلا أنَّنا اليوم نتحدث عن قناعات أكبر بأنَّ العملية التعليمية ومخرجاتها فعلا لم تعُد تكفي لصناعة الإنسان القدوة القادر على حمل لواء التنمية والتغيير، وأنَّ المطلوب حراك أوسع يضمن السير بخُطوات عملاقة نحو المستقبل، نتحدث عن حاجة فعلية لأفكار غير تقليدية، نحتاج فكرا جديدا يُواكب التطلعات المبهرة التي يعبر عنها قائد نهضتنا الحديثة، نحتاج تعليمًا يُفرز مخرجات حقيقية قادرة على صُنع الفارق، ولابد أن نكون جميعا متأهبين.

فالتعليم موضوع غاية في الأهمية، بل وأحد المبادئ الأساسية والثابتة التي ستظل حجر أساس لتطبيق سياسات الدولة، واستمرار مسيرتها، وقد كانت هذه النقطة حاضرة وبقوة على رأس توصيات "مُنتدى عُمان للموارد البشرية"، في دورته الأولى "التأهيل والتوظيف والتمكين"، الذي اختُتمت أعماله الأسبوع الماضي وسط أصداء مجتمعية طيبة؛ حيث أكدت ابتداءً على ضرورة تضمين مفاهيم الابتكار في خطط التدريب والتأهيل والتوظيف، بما يضمن مواكبة متغيرات سوق العمل، ودعوة الحكومة لتبني المشروع الوطني لإعادة تأهيل الخريجين، عبر برامج تدريبية وتطويرية تلائم احتياجات سوق العمل.. وهي أساسًا لُب مهام قطاع التعليم بمستوياته المختلفة، بمعنى أن يكون الابتكار "ثقافة مُجتمعية عامة" في كلِّ شيء من حَوْلنا، وما ترسيخ ذلك إلا في الحواضن التعليمية بالأولوية والأساس.

وما عنته التوصيتان عاليه، يخرج عن تقليدية الطرح المكتفِي بتقديم مقترح لا يتخطَّى سقف ما يدور داخل الأروقة الرسمية، وإنما قوامه مطالبات ومقترحات من فئات المجتمع بأكمله لتطوير المنظومة بالكامل، سواءً الحكومة أو القطاع الخاص (خصوصًا وأنه مطالب اليوم بتوظيف مواطنين لا تتواكب مؤهلاتهم وحاجة السوق من ناحية، أو متشبعين بأفكار سمتُها التقليد والتلقين والحفظ أكثر من الابتكار؛ فالأساس ليس نسبة التعمين وحسب، بل الكفاءة والإنتاجية والانضباط.. وهي في الحقيقة ثقافة أخرى)، وكذلك المثقفون وحتى الشباب، ولا يوجد ما يمنع من توزيع استبانات على الطلاب أنفسهم، كفرصة عملية أخرى تتيح أمامهم مجالاً يُمكنهم من اتخاذ القرار وإصدار الآراء، خصوصاً وأن الأمر يعنيهم بالدرجة الأولى.

بقية توصيات المنتدى جاءت جميعها رامية في اتجاهات أخرى ذات صلة، مستمدة الآمال العريضة المعقودة على تحققها ممَّا يُولَى للمورد البشري من رعاية سامية وجهد حكومي كبير، سواءً ما تعلق من التوصيات بإنشاء جهة مستقلة مسؤولة عن تنظيم وإدارة قطاع تنمية الموارد البشرية، أو تبني منظومة لتقييمها وإدارتها لتعزيز مستوى الإنتاجية، أو وضع إطار لحوكمة قطاع تنمية الموارد البشرية، وتأهيل القيادات المسؤولة عن دوائرها في المؤسسات، مع التركيز على الجانب السلوكي في العمل، ودعوة جهات التمويل لطرح منتجات حديثة أمام رواد الأعمال لتطوير الموارد البشرية في مؤسساتهم، واشتراط التحاق الخريج بمؤسسة تدريب وتأهيل خلال سنوات الدراسة وقبل التعيين، ووضع خطط تدريبية لتمكين العنصر البشري بالقطاع الخاص.. وأخيرًا: تبنِّي مفاهيم الاستدامة في عمليات التطوير والتأهيل في المؤسسات.

لذلك أقول إنَّ "مُنتدى عُمان للموارد البشرية" لم يكن ليُحقِّق نجاحًا بهذا المستوى، دون أن تكون قد تهيَّأت له الأسس الوطنية اللازمة والمعينة لوضع نظرة مغايرة لمفهوم تنمية الموارد البشرية، وهو ما كفلته القيادة الحكيمة من لدن مولانا المعظم -حفظه الله ورعاه- والتي آمنت بالمورد البشري أيما إيمان، وجعلت منه قُطب الرحى الذي يدور حوله كل نماء على ثرى هذا الوطن. وما خارطة الطريق المستقبلية التي خرج بها المنتدى، وأسهم في صياغة أبعادَها الخبراء وذوو الاختصاص إلا إسهام نأمل أن يُمثل لبنةً جديدةً في صرح تعزيز مهارات أبنائنا، ورفد خبراتهم بالمزيدِ من المعرفة، والتدريبات العملية، واكتساب الخبرات اللازمة؛ للمشاركة والإسهام، في استكمالِ مسيرة بناءِ الوطن.. فكلُّ الشكر لمن أسهم في إنجاح أعمال المنتدى، وعلى رأسهم معالي الشيخ وزير الخدمة المدنية الموقر لرعايته الكريمة أعمال الدورة الأولى، والشركاء الإستراتيجيين والرعاة والداعمين والمتحدثين والمشاركين.

ويبقى أن أقول ختامًا.. إنَّ أية قراءة تُعالِج مَوْضِع المورد البشري العُماني في فكر جلالة السلطان المعظم، لا يُمكن أن تستقيم أو تُقرأ مُنفصلة عن واقعٍ وطنيٍّ مُزهرٍ قوامه 48 عامًا تجسِّد مسيرة بناء ملحمي، أساسها وغايتها الإنسان العُماني القادر والمؤهَّل والواعي، وسمتُها الثبات على المبدأ، ووضوح الهدف؛ إذ لم يَغِب عن بوصلةِ صُنع التقدم فيها، إرادة جادة بتطوير رأس المال البشري.