الدعاوى الزائفة المضللة (2)

 

عيسى الرواحي

 

إذا جئنا إلى قضية تعدُّد الزوجات في الإسلام، والتي بحثتها في كتاب "الصفيح الملتهب في تعدد الزوجات"- فهذه القضية مما يتذرَّع به كثيرٌ من أعداء الإسلام، ويرونها اعتداءً صارخًا على حق المرأة، ومكانتها، وكرامتها، وقد تأثَّر بهذه الدعوى الزائفة المضللة كثيرٌ من المنتسبين إلى الإسلام، وما هذا إلا ضعفٌ في الإيمان، أو جهلٌ منهم بالإسلام، أو عداءٌ له.

إن الإسلام لم يبتدع تعدد الزوجات؛ فقد كان هذا الأمر شائعا عند الأمم الغابرة والشرائع السماوية السابقة، وهذا ثابتٌ حتى في أناجيلهم المحرَّفة. كان أمرًا شائعًا من غير ضوابط ولا قيود؛ فجاء الإسلام بالحد من الرقم المبالغ فيه في التعدُّد، فجعل أربع زوجات حدًّا أعلى لا يُمكن تجاوزه، كما جاء الإسلام بتنظيم أمر التعدُّد، ووضع الشروط والضوابط من أجل ضمان حق الزوجة فيه، وحقهما معًا؛ فليس أمر التعدُّد بابًا مفتوحًا على مصراعَيه يلجه كل فرد حسب أهوائه وأمزجته. وقد ورد في السنة النبوية أنَّ غيلان الثقفي أسلم وله عشر زوجات، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اختر منهن أربعا، وفارق سائرهن"، وورد أنَّ حارث بن قيس الأسدي قال: أسلمتُ وعندي ثماني نسوة، فذكرت ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "اختر منهن أربعا". وكذا كان عند قيس بن ثابت ثماني زوجات وقت إسلامه، وكان عند نوفل بن معاوية خمس زوجات وقت إسلامه، وقد أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يقتصر كل منهم على أربع زوجات فقط.

من هنا، يتَّضح جليًّا أنَّ التعدُّد لم ينشأ في الإسلام، كما يظنُّ كثير من الناس، وإنما كان دور الإسلام في تنظيمه ووضع الأطر والضوابط الشرعية له.

والغريبُ في الأمر أنَّ الغرب الذي يرى أن التعدد انتقاصٌ لحقوق المرأة، وامتهانٌ لكرامتها لا يرى ما تقوم به مجتمعاتهم المنحطة من إباحية اقتصرت على الزواج بواحدة من بأسٍ وضير، فقد أباحت لهم اتخاذ الخليلات والعشيقات كما شاؤوا من عدد، فعمَّ العهر والفسوق والزنا، وبلغ أولاد الزنا أرقامًا مخيفة، وهذا بلسانهم وأقلامهم.

ولمَّا عمَّ هذا البلاء الخطير في تلك الدول، وما ظهرت لهم بسببه من مفاسد كبيرة، إضافة لأسباب أخرى سنذكرها في حينها؛ فقد كثُرت النداءات التي تطالب بأهمية إباحة التعدد؛ لإيمانهم بأنَّه الحل الأمثل لكثير من المشكلات الاجتماعية والأسرية التي يواجهونها، يقول الفيلسوف والطبيب والمؤرخ الفرنسي الشهير غوستاف لوبون: "إنَّ نظام تعدد الزوجات نظام حسن؛ يرفع المستوى الأخلاقي في الأمم التي تمارسه، ويزيد الأسر ارتباطا، ويمنح المرأة احتراما وسعادة لا تجدهما في أوروبا"، وتقول إحدى الكاتبات البريطانيات: "لقد كثُرت الشاردات من بناتنا، وعم البلاء، ودل الباحثون عن أسباب ذلك، وإذا كنت امرأة تراني أنظر إلى هؤلاء البنات وقلبي يتقطع شفقة عليهن وحُبا، وماذا عسى يُفيدهن بشيء حُزني ووجعي وتفجعي، وإن شاركني فيه الناس جميعا؛ إذ لا فائدة إلا في العمل بما يمنع هذه الحالة الرجسة".

ولله درُّ العالم "توس"، فإنه رأى الداء ووصف له الدواء الكافل للشفاء: "وهو الإباحة للرجل بالتزوج من أكثر من واحدة، وبهذه الوساطة يزول البلاء لا محالة، وتصبح بناتنا ربَّات بيوت؛ فالبلاء كل البلاء في إجبار الرجل الأوروبى على الاكتفاء بامرأة واحدة؛ فهذا التحديد هو الذي جعل بناتنا شوارد، وقذف بهن إلى التماس أعمال الرجال، ولا بد من تفاقم الشر إذا لم يبح للرجل التزوج بأكثر من واحدة! أي ظن وخرص يحيط بعدد الرجال المتزوجين الذين لهم أولاد غير شرعيين أصبحوا كلًّا وعالة وعارًا في المجتمع الإنساني، فلو كان تعدد الزوجات مباحًا؛ لما حاق بأولئك الأولاد وبأمهاتهم ما هم فيه من العذاب والهوان، ولسلم عرضهن وعرض أولادهن؛ فإنَّ مزاحمة المرأة للرجل ستحل بنا الدمار؛ ألم تروا أن حال خلقتها تنادي بأن عليها ما ليس على الرجل وعليه ما ليس عليها، وبإباحة تعدد الزوجات تصبح كل امرأة ربة بيت وأمًّا لأولاد شرعيين".

ويقول الفيلسوف الألماني الشهير شوبنهو: "إن قوانين الزواج في أوروبا فاسدة المبنى، بمساواتها المرأة بالرجل، فقد جعلتنا نقتصر على زوجة واحدة فأفقدتنا نصف حقوقنا، وضاعفت علينا واجباتنا... ولا تعدم امرأة من الأمم التي تجيز تعدد الزوجات زوجًا يتكفل بشؤونها، والمتزوجات عندنا قليل، وغيرهن لا يحصين عددًا، تراهن بغير كفيل، بين بكر من الطبقات العليا قد شاخت وهي هائمة متحسِّرة، ومخلوقات ضعيفة من الطبقات السُّفلى يتجشمن الصعاب، ويتحملن مشاق الأعمال، وربما ابتذلن فيعشن تعيسات متلبسات بالخزي والعار، ففي مدينة لندن وحدها ثمانون ألف بنت عمومية، سفك دم شرفهن على مذبح الزواج، ضحية الاقتصار على زوجة واحدة، ونتيجة تعنت السيدة الأوروبية، وما تدعيه لنفسها من الأباطيل، أما آن لنا أن نعد بعد ذلك تعدد الزوجات حقيقة لنوع النساء بأسره".

أمَّا زعيمة التصوف العالمية أنّي بيزانت، فتقول: "متى وزنّا الأمور بقسطاس العدل المستقيم، ظهر لنا أن تعدد الزوجات الإسلامي -الذي يحفظ ويحمي ويغذي ويكسو النساء- أرجح وزنًا من البغاء الغربي الذي يسمح بأن يتَّخذ الرجل امرأة لمحض إشباع شهواته، ثم يقذف بها إلى الشارع متى قضى منها وطره".

وصدق الله العظيم القائل: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ" (فُصِّلت:53).

issa808@moe.om