"الرؤية" تستضيف المفكر الإسلاميّ محمد عاشور

حاوره: ناصر أبو عون

o    في تفسيري للقرآن نأيت بجانبي عن كل خلاف أو اختلاف مذهبي
o    القرآن الكريم سيمفونية كاملة عن الكون والحياة والإنسان
o    الكتابة ولادة عسيرة لا يعيشها القوم التـُبّع الذين يلدون أفكارهم قيصريا
o    انفتح العرب على الحضارات بلا قيم ولا مبادئ فكان التفسّخ


 الأديب والمفكر الإسلاميّ، التونسيّ محمد بن عاشور صاحب أحدث موسوعة قرآنية في القرن الحادي والعشرين المعنونة بـ (تفسير العدل والاعتدال) والتي جاءت في خمسة عشر مجلدا وأنجزها في 20 عشرين عاما حيث كان في شبه عزلة تامة ومتفرغًا لها ونال عنها الجائزة العالمية للاستحقاق الثقافي عام 2010 – وقبلها حصل على العديد من الجوائز من داخل تونس وخارجها، بجانب عضويته في الأمانة العامة للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب.. جاب أقطار الأرض من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي.. وتجوّل في أوروبا وخصوصا بفرنسا وألمانيا.. وحلّ ضيفا في العديد من  البرامج الإذاعية والتلفزيونية العربية والعالمية.. تواصلنا معه للتحاور مع جريدة الرؤية فرحب باللقاء على غير العادة في الاعتذار .. فقلنا له بدون مقدمات:
        (س؟؟؟): عرفناك أديبا لامعا لك ستة كتب مطبوعة وموزعة في عدة طبعات.. وعرفناك كاتبا لامعا في الصحف والمجلات.. ثم فجأة لُذت بالصمت غير المباح طيلة عشرين عاما..  ثم خرجت علينا الأخبار تزفّ إلينا خبر فوزك بالجائزة العالمية للاستحقاق الثقافي – جائزة ناجي النعمان الدولية عن موسوعتك (تفسير العدل والاعتدال) الواقعة في عدة مجلدات.. والتي تفرّغت لها عشرين عاما كتابة ومراجعة.. والصادرة عن مؤسسة الكلم نغم المصرية.. والسؤال بين نشاطك ككاتب متميز في القصة الطويلة والقصيرة والتي نلت فيهما الجوائز  الكبرى والأولى.. وبين مقولاتك في فنون النقد والمسرح والخاطرة.. إلى تفسير كامل للقرآن الكريم انتشر في العالم بسرعة مذهلة وأصبح مرجعا... هناك خيط رفيع .. وسر كامن؟.. ما المخبوء؟ وما السر الكامن؟
       (ج....): عالم الكتابة كله أسرار وأعاجيب لا تنتهي .. وأنا لم أكف يوميا منذ أكثر من خمسين عاما عن الكتابة والمطالعة اليومية.. والاطلاع على كل جديد.. واليوم الذي لا أقرأ فيه ولا أكتب هو خسارة من عمري.. الذي هو أمانة سيحاسبني عنها الله سبحانه وتعالى.. وعالم الفكر والأدب العجيب لا يدرك سره وكنهه ودواليبه إلا العالمون.. والكتابة في أي مجال هي علم أولا وثقافة ثانيا ومران ثالثا.. الموهبة في المنطلق ثم التعلم.. ثم سعة الاطلاع والثقافة في كل المجالات.. ثم التدرب  المرحلي حتى يصبح القلم ملكك لا أنت ملكه.. وتصبح لك الشخصية المتميزة في عالم الكتابة.. لذلك قال القاص الأمريكي بول جاليكو:((الكتابة كالعضلة كلما دربتها كلما ازددت منها تمكنا وقوة)).. الكتابة التي قال عنها نزار قباني:((إنها عملية ولادة روحية صعبة)).. هناك حمل ومخاض وولادة عسيرة لا يعيشها القوم التـُبع الذين يلدون أفكارهم قيصريا.. ويئدون مشاريعهم  تسرعا وابتغاء الشهرة السريعة التي تقضي عليهم.. ولن تستطيع الكتابة إلا إذا تشبعت من لغة القرآن الكريم وجوامع كلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم-.. ولن تستطيع أن تكتب إلا وقد اكتسبت ثقافة واسعة واطلاعا شاملا على العلوم والمعارف والثقافات العالمية.. كي تفهم وكي تسبح جيدا في أنوار الكتابة الخالدة.. من هنا نفهم لماذا نزل القرآن الكريم بلغة العرب .. كي يتحداهم .. كي يبزهم .. كي يعطيهم دليلا مستمرا إلى قيام الساعة أن القرآن حق نزل من لدن الحق..  إلي يوم الحق يوم القيامة الذي لا شك فيه إطلاقا.. الخيط الرفيع نجده بين السباحة الراقية في عالم الفكر والثقافة.. وبين أنوار القرآن العجيبة.. القرآن الكريم سيمفونية كاملة عن الكون والحياة والإنسان..  بين الدنيا  والآخرة..  ولا يستطيع الولوج إليها كل  من هبَّ ودبَّ.. بل لا بد  من ثقافة لغوية وبلاغية ودينية.. وإيمانية كي تستطيع استكناه الأبعاد البعيدة للقرآن الكريم..

      سؤالك المطروح تجد الإجابة عنه بأن مدرسة القرآن الجامعة يتخرج منها الأدباء والمفكرون والعلماء المجتهدون.. ولن تجد فرقا ولا بونا بين عالم الإبداع البشري في الفكر والأدب والثقافة.. وبين عالم الإبداع الإلهي في القرآن الكريم الذي لا يرقى إليه شيء من إبداع الناس على اختلاف شكولهم وضروبهم وتوجهاتهم..
         في هذه الحياة إما أن تكون أو لا تكون .. والصراع من أجل البقاء حقيقة تاريخية ثابتة في كل المجالات.. وأفهم من سؤالك أن هناك قطيعة بين عالم الفكر والثقافة وبين القرآن الكريم.. ولكن هذا خطأ يحاول الاستعمار الفكري والثقافي زرعه فينا بكل طريقة.. لا توجد قطيعة إطلاقا.. والقرآن الكريم تخرج منه عباقرة  عبر التاريخ.. وقمم شامخة في مستوى اللغة والإضافة.. والمسألة ليست شهادات ومناصب وتبجحا وتعاليا.. ولا تحقرن أحدا في مجال الإبداع الخالد.. فسلامة موسى والعقاد والرافعي وعلي الدوعاجي  لم يصلوا إلى السادسة ابتدائي..  ولكنهم خلدوا أدبا وفكرا وثقافة لم يخلدها غيرهم من أصحاب الشهادات والأوسمة.. ومثقفي القصور والبلاطات.. تسألني كيف انقطعتُ عن الساحة الفكرية والإعلامية عشرين عاما.. وأجيبك بأن القطيعة كانت لا زمة.. وكانت فرضا كي أنظر من داخلي وكي ألم شتاتي وكي أركز .. والعباقرة عبر التاريخ تفرغوا وابتعدوا عن مخالطة العوام وسواد الناس.. وحتى عن النخبة كي يتوفر لهم الهدوء والصمت  للكتابة والإبداع.. خذ لك مثلا ابن خلدون لقد هرب بنفسه واختلى أربع سنوات كاملة في قلعة ابن سلامة بالقاهرة.. كي يكتب مقدمته الشهيرة في علم الاجتماع التي بَزَّ فيها المنظِّرين..  وجاء بما لم يأت به دوركايم ومنتاسكيو وغيرهما..

       (س؟؟؟): كيف جاءتك فكرة العزلة كي تكتب مشروع تفسير العدل والاعتدال  الفائز بالجائزة العالمية للإستحقاق الثقافي؟
     (ج...) : بعد أن لاحظت فراغا كبيرا وعجيبا في مجال التفسير طوال فترات هامة من تاريخنا.. حيث يتم الاعتماد عادة على تفاسير نحترمها.. ولكن تجاوزها الزمن ولا تلبي حاجات العصر.. خصوصا الشباب التائق دوما إلى الأجمل والأروع بلا انتهاء.. خصوصا ونحن في عصر الكمبيوتر والهاتف الجوال والفايسبوك والصواريخ.. والأقمار  الاصطناعية.. قررت التفرغ لكتابة تفسير عصري يكون فيصلا بين التفاسير بلغة العصر السهلة الميسورة وبالاعتماد على أفضل المراجع في هذا المضمار.. وأن أنأى بجانبي عن كل خلاف أو اختلاف مذهبي.. تحبيبا للقرآن الكريم خصوصا للشباب.. نبذا لكل مغالاة وإقصاء لكل تطرف فكري أو عقدي.. ولم تكن المسؤولية سهلة.. ولا جولة عابرة.. فكي تكتب في القرآن الكريم يجب أن تكون مُلما بسبعة عشر علما على الأقل ليس أقلها اللغة والبلاغة والنحو والصرف والأدب والفكر والتاريخ والجغرافيا وعلم الاجتماع وعلم النفس والناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه وعلوم الآداب والمعارف الطبية والإيديولوجية.. وما إلى ذلك من العلوم والمعارف القديمة والحديثة..  كي تدلف العالم النوراني  العجيب للقرآن الكريم .. الذي لا يستسلم إليك بسهولة وسرعة..  ولن يتركك تسبح وتترقى  في السلم العرفاني النوراني السامق.. إلا اذا كنتَ ذواقا للغة.. عاشقا للكلمة.. باحثا عن الحقيقة التي لا تمارى.. هذا هو المفتاح الأول لعشرين عاما.. أما المفتاح الثاني فقد رأيتُ بحكم تنقلي عبر العالم العربي والأوروبي جهلا بالقرآن الكريم وعزوفا عنه.. وفقدانا للعلم الحقيقي وللقدوة العلمية الحقيقية.. وتأملت الواقع العربي من المحيط إلى الخليج.. فإذا هو واقع منبت ومهزوز.. تتلاعب به المصالح والنفوذ.. وتتخرقه التيارات المتضاربة.. والقرآن الكريم  عندهم أصبح للمآتم والموتى.. فكلما مات أحد وضعوا القرآن الكريم في الصومعة أو في المذياع أو التلفزيون أو البيت أو الدكان... انظر إلى الواقع العربي يفتتح شغله بالقرآن الكريم ثم يضع الطبل والمزود والفن الشعبي والرقص.. ويضع الأبواق في البيت والمكتب والدكان والسيارة التي أصبحت ترويجا للفن الهابط والإجرامي الذي يخل بالذوق العام والأخلاق الرفيعة.. وحتى برامج التعليم لا تولي القرآن الكريم فهما ودراسة واستيعابا إلا قليلا.. حتى نشأ جيل مُنبت ما له من قرار مكين.. من هنا على العالم والمفكر وحامل راية الثقافة أن يتحمل مسؤوليته كاملة.. وأن يُقدم للناس العلم النافع.. الذي يفهمه الناس أو الأغلبية منهم.. وأن يكون بلغة العصر السهلة الميسورة.. بعيدا عن كل تزلف أو نفاق أو تسيّب.. الواقع العربي هو الذي يصدمك ويدق ناقوس الخطر في مستوى كل الثقافات والمعارف.. لأننا فتحنا كل الأبواب والنوافذ.. وانفتحنا على الحضارات بلا قيم ولا مبادئ فكان التفسّخ.. ولأن القاعدة الرئيسة في الأصول لم تتوفر في برامج التعليم العربية المستنسخة والهزيلة.. والتي أفرزت أجيالا بلا قيم ولا مبادئ ولا أهداف..  أجيالا ضعيفة التعليم هزيلة التحصيل لا تقدر على مواجهة ثقافات العصر ولا تـُضيف.. ولا تقدر على الإضافة أصلا..  وليس لها بصمة لأنها تابعة.. وليست لها أهداف إستراتيجية في جميع أبعادها.. هذا الواقع الصادم هو الذي يجعلك تتحرك وتكتب وتنعزل وتفكر.. وتبحث عن أسباب التخلف العربي.. وقد أعطانا الله العزيز أحسن قرآن وأحسن سُنة مطهرة.. ولكننا أعرضنا فتنكَّبنا الطريق..  وأضعنا الهدف.. من هنا كان علينا أن نعيد التفكير وأن نغربل..  وأن نتحلى  بالوعي وبالمسؤولية وأن نكون في مستوى الأحداث.. وقد عاش العالم العربي هزات عنيفة نتيجة هذا الواقع المرير.. وإن كان (تفسير العدل والاعتدال) قد كتب قبل ((الربيع العربي)) المزعوم  والمكذوب.. إلا أنه استشعر الأخطار وحلل الأبعاد وأعطى الحلول لقوم تـُبع.. لا يسمعون ولا يقرؤون وبالتالي لا يستفيدون من دروس التاريخ..

      (س؟؟؟) : ولكن أين دور الإعلام؟
     (ج...) : الإعلام هو الكارثة الأكبر  في العالم العربي .. إنه إعلام تابع.. إنه لا يعكس إلا الصورة الأتعس في العالم العربي.. آلاف القنوات لا تبث إلا الأغاني والمسلسلات ومباريات الكرة.. أين الثقافة؟. أين الفكر؟..  قد يكون لهذا الإعلام الغريب والمنبت العذر لأن المطالعة في العالم العربي منعدمة أو تكاد.. وميزانيات وزارة الثقافة تعكس مدى الإهمال التام للثقافة في العالم العربي.. ومن يمسك بكتاب في العالم العربي ويطالع في الشارع يصبح محل شبهة ومحل اتهام.. لأنه مشكوك في سلوكه وفي توجهاته وقد يقع اتهامه بالجنون.. أو بالصيد في الماء العكر.. ولكني رأيت في العالم الغربي خصوصا أوروبا كيف يقرأ الأوروبي في الحافلة وفي القطار وفي الحديقة العمومية.. ومن يطبع كتابا واحدا في الغرب يصبح مليونيرا.. بينما في العالم العربي من يطبع كتابا عليه أن يبيع داره لتغطية تكاليف الطباعة والتوزبع...
     لماذا لا يستضيف الإعلام العربي المهترئ والمهزوز  المفكرين والأدباء والعلماء الحقيقيين؟ لماذا لا يستضيف إلا أرباب الطرب؟ لماذا يقدم كمًّا هائلا من مباريات كرة القدم؟ أين مباريات الثقافة والعلم والأدب؟ لماذا يقع تهميش وتجاهل رجال الفكر والعلم والأدب الحقيقيين؟ العملية كلها مبرمجة ومقصودة.. وهي تجهيل المجتمعات العربية وتفقيرها وتصحيرها في مستوى العلم والفكر والثقافة.. حتى تكون وحتى تبقى تابعة.. وحتى لا تضيف ولا تكون لها بصمة في الحضارة والتاريخ.. الهجرة العربية المتفاقمة ليست بحثا عن الخبز فقط..  بل بحثا عن الأمن والأمان الفكري والعقدي.. والكهنة والسدنة الذين يخدمون ويقبضون الثمن .. لا يهمهم إطلاقا تقديم أهل العلم والفكر والثقافة.. وقد نسوا أو تناسوا يوم البعث والجزاء.. يوم لا ينفع مال ولا بتون إلا من أتى الله  بقلب سليم؟ أين قلوبهم السليمة وهم لا يغيرون منكرا ولا يأمرون بمعروف؟ أين استقامتهم وتطبيقهم للدين السمح المتسامح العدل المعتدل على أنفسهم ومجتمعاتهم؟.. وهم يصُدون ويُعرضون ويُعرقلون مشاريع الفكر والعلم والثقافة ولا يقوّمون المعوج..  ولا يتصدون للفتن ما ظهر منها وما بطن.. سمعت أحدهم يخطب على المنبر ويقول:
    -  من قال لا إله الا الله دخل الجنة
فتهللت أسارير اللصوص وذوو السوابق من الحاضرين.. لهذا الكلام.. الذي لم يشرحه لهم.. والسارق والمنحرف في العالم العربي يقول: لا إله الا الله وهو يسرق ويزنى ويقسم على الإخلاص للدولة وهو أكبر قاطع طريق.. وإمام آخر صعد على المنبر ليقول:  من عاد من الحجّ عاد كيوم  ولدته أمه.. وحوله المصلون من أكلة الربا.. ومن شاهدي الزور ومن آكلي أموال الناس بالباطل.. الخطاب الديني في العالم العربي يجب أن يتغير .. وأن يراجع نفسه وأن يتوب إلى الله توبة  نصوحا..  وليعلم علماء آخر الزمان من المنافقين  وتجار المصالح  أن عقابهم في الآخرة هو من أشد أنواع العذاب..  
 ففي تاريخ دمشق لابن عساكر عن أنس رقم الحديث: 12
(حديث مرفوع) أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعَدَةٍ قَالَ : أَخْبَرَنَا حَمْزَةُ بْنُ يُوسُفَ السَّهْمِي ، قَالَ : أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ الْحَافِظُ قَالَ : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ حَيَّانَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبِي ، قَالَ أَبُو أَحْمَدُ . وَحَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ حَيَّانَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، عَنْ حَمِيدَ ، عَنْ أَنَسٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ فِي جَهَنَّمَ رَحًى تَطْحَنُ عُلمَاءَ السُّوءِ طَحْنًا " . قَالَ أَبُو أَحْمَدَ : وَهَذَا تَفَرَّدَ بِهِ ، عَنْ هِشَامٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ المَوْصِليُّ
قال اﻻمام علي رضي الله عنه:   و
إن في جهنم رحى تطحن، أفلا  تسألونني ما طحنها؟ فقيل له: فما طحنها يا أمير المؤمنين؟ قال: العلماء الفجرة، والقراء الفسقه، والجبابرة الظلمة، والوزراء الخونة، والعرفاء الكذبة
وقال ابن القيم في ( الفوائد ) ص98 .هجر القرآن الكريم أنواع؛ أحدهما؛ هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه.. الثاني؛ هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه, وإن قرأه وآمن به.. الثالث ؛ هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه واعتقاد أنه لا يفيد اليقين وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم.. الرابع؛ هجر تدبّره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه.. الخامس؛ هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها فيطلب شفاء دائه من غيره ويهجر التداوي به... وكل هذا داخل في قوله تعالى وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً ‎ وإن كان بعض الهجر أهون من بعض..

(س؟؟؟): بعد خبرتك الواسعة بمناهج التفسير المتنوعة ما مدى تأثر مناهج تفسير وتأويل الآيات بالرؤى المذهبية والطائفية؟
       (ج...) :  كارثة أخرى ومصيبة عظمى تهدد العالم العربي والإسلامي وهي  وقوع القرآن مطيّة لأهل المذاهب والأهواء.. الذين يقولون في القرآن بأهوائهم.. ويفسرون بحسب تواجهاتهم العقدية..  والمذهبية الضيقة والمصلحية الفانية.. والحزبية البغيضة.. بينما القرآن الكريم لم ينزل لفئة أو طائفة أو حزب معين..  القرآن الكريم  نزل للإنسانية كلها  حيث جاء في سورة الأنبياء : ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ(107).))- الأنبياء ..
      ولكننا انتبهنا إلى هذه المخاطر في تحرير (تفسير العدل والاعتدال) فحبَّرناه على نهج الوسطية والاعتدال ونأيننا بجانبنا عن الخلاف والاختلاف.. وأخذنا من جميع المذاهب ما تيسر.. وما توافق.. وما هو حبيب للنفوس.. حتى يكون التفسير تفسير الجميع بلا منازع.. وحتى نقرب بين الآراء.. ونجمع شتاب الأمة.. وحتى تكون الكلمة هي كلمة القرآن كلمة  الحق والعدل والاعتدال... بكل توازن واتزان ورحمة ومحبة وتسامح نبذا لكل مغالاة وإقصاء لكل تطرف فكري أو عقدي.. من هنا كانت التسمية: ((تفسير العدل والاعتدال)).. ونحن ضد الطائفية وضد التعصب.. ونحترم كل الآراء.. والاختلاف رحمة وليس نقمة.. وحفظ الله الجمع من مخاطر التمزق والضياع..

          (س؟؟؟): ما هي أهم ملامح المنهج الذي انبنت عليه (موسوعة تفسير العدل والاعتدال)؟ وما هي أهم مفاتح البحث العلمي في القرآن الكريم؟
        (ج...) : تفسير (العدل والاعتدال) له رؤية واضحة ومتسقة الأبعاد.. فإيمانا منا بأن القرآن الكريم هو للجميع.. وليس لصاحب الكرسي وصاحب المال والكهنة والسدنة الذين يسخرون القرآن الكريم لأهوائهم ومصالحهم.. وانطلاقا من قناعاتنا الفكرية والثقافية والدينية في لم شمل الأمة..  نهجنا وانتجهنا التوسط في الآراء والحكمة في اتخاذ الأبعاد البعيدة للقرآن الكريم .. انطلاقا من اللغة.. ثم التحليل النفسي والاجتماعي والتاريخي.. كي يكون يكون القارئ فاهما ومتفهما ومنتفعا بالقرآن الكريم .. بعيدا عن كل سياسة وعن كل أحكام مسبقة.. وعن كل تزيّد أو مزايدة.. بلغة العصر السهلة الميسورة  وبالاعتماد على أفضل المراجع في هذا المضمار.. ولقد عرضنا تفسير العدل والاعتدال على أهل الذكر وأرسلوا إلينا آراءهم وذيلنا تفسير العدل بآراء أكثر من مائة عالم ومفكر وداعية من جميع أنحاء العالم..

(س؟؟؟): ما هي أدنى الشروط الواجب توافرها فيمن يَجْسُر على الإبحار في القرآن الكريم فكرا وتأويلا ودراسة؟
      (ج...) : القرآن الكريم عالم عجيب من الأحكام ومن الرؤى والمشاعر.. إنه يلخص الكون والحياة والدنيا والآخرة.. لذلك لا يقدر على الإبحار فيه إلا أهل الذكر الذين يتوفر لهم القسط الأوفر من المعارف الأدبية واللغوية والثقافية والشرعية .. وليس كل من هبَّ ودبَّ يقدر على فهم القرآن ولا على  التقول فيه بغير علم.. سبعة عشر علما يجب توفرها في المتكلم في القرآن أدناها اللغة وأوسطها البلاغة وأعلاها الناسخ والمنسوخ.. وبين كل ذلك التاريخ والجغرافيا وعلم الاجتماع وعلم النفس.. وعلوم الحياة المختلفة.. يجب أن تكون موسوعة كبرى قبل أن تتجرأ وتقوم بالسباحة في أنوار القرآن السنية .. وإلا فإنك ستحترق من الوهلة الأولى.. ولن تستطيع فكاكا من الهزيمة بالضربة القاضية في الجولة الأولى.. لأن القرآن  الكريم مُحكم ومتشابه.. وهو عمليا عسير السباحة على المحترفين فما بالك بالهواة.. والذين يقولون ما لا يعلمون.. ويسبحون ضد التيار وما لهم من مستقر ولا قرار..

     (س؟؟؟): ما رأيك في فكرة (أسلمة العلوم)، وهل ينبغي البحث وراء أصل كل إعجاز علمي في القرآن؟ أم نتخذ القرآن منهاجا للإعجاز العلمي؟
     (ج...) : لو كان القصد من القرآن التحجّر.. وإغلاق الباب أمام المعارف والعلوم.. لما قال عليه الصلاة والسلام اطلبوا العلم ولو في الصين كناية عن البعد في ذلك الوقت.. ولما قال اطلبوا العلم من المهد الى اللحد.. ولما قال طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة.. يا حبيبي العلم نور.. العلم اكتشاف.. العلم سعادة الحياة وبهجتها وفرحتها الغامرة.. ويريد الكهنة والسدنة وتجار الكراسي والدين أن يغلقوا علينا الأبواب والنوافذ حتى نبقى متخلفين قرونا أخرى.. القرآن الكريم فيه مفاتيح العلم.. ولكنه ليس كتاب علم.. ولا ندعوا إلى أسلمة العلم.. لأن الكون واسع ورحيب.. ولأن العلم بحث وتجديد واكتشاف وتواصل وإضافة.. وأسلمة العلم تقتضي التفتح لا التفسخ.. تقتضي أن نتمسك بالقرآن والسنة بالجذور وأن نبحث عن العلم.. أنىَ يوجد.. لذلك في الحديث الشريف: ((الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها التقطها))..  والحكمة تعني فيما تعني العلم والرسالة والنبوة وصوابَ الأمر وسداده.. لذلك يهم أصحاب الكراسي وكهنتهم وسدنتهم أئمة السوء وعلماء الضلال والإضلال إغلاق الأبواب.. حتى يستمروا في الابتزاز محافظة على كراسيهم وعلى مصالحهم.. وحتى يغلقوا باب الاجتهاد ما وسعهم الجهد والطاقة والمال والنفوذ.. وإلهاء الشعوب.. حتى لا ينتبه إليهم أحد.. وهم يسرقون ثروات الشعوب ومقدرات الأمة..

       (س؟؟؟): في القرآن الكثير من الوقائع التاريخية والقصص والسِّيّر فما هي أهم مقاصد التاريخ والوقائع في القرآن الكريم؟
    (ج...):   لقد ركزنا في تفسير العدل والاعتدال على مسألة هامة وخطيرة ولا ينتبه إليها كل الناس.. وهي أن القرآن الكريم نزل من لدن الله - عزَّ وجلَّ - رسالة خاتمة ومنهجا عمليا لا كي نتلوه  على  الموتى حيث قال سبحانه وتعالى في سورة يس: ((وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ(69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) صدق الله العظيم.    
     القرآن للأحياء وليس للأموات.. القرآن الكريم نزل مفتاحا للمشاكل النفسية والاجتماعية والاقتصادية.. لذلك كان الخطأ الفادح هو تقييده بأماكن معينة وبأشخاص معينين.. انتهوا وانتهى دورهم في الحياة.. وهم مسئولون عن أعمالهم ونحن مسئولون عن أعمالنا.. ولا تزر وازرة وزر أخرى وانظر قوله تعالى في سورة الأنعام للتأكد من ذلك:
    ((قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ(161) قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162)لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ(163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(165)

      لذلك أعرضنا عن ذكر أسباب النزول مع احترامنا لها.. لأن القرآن الكريم هو للناس كافة ولكل زمان ومكان.. وبالتي ندرسه بعمق.. ونعود إليه من حين لآخر لحل المعضلات وليس للعيش في الماضي..  القرآن للحاضر وللمستقبل.. لذلك نأخذ حكمه ومواعظه..  ودروسه كي نعدل المسار وكي نضيف وكي تكون لنا بصمة في الحياة وقيمة متميزة ومضافة بين الشعوب.. ثم نترك مكاننا لغيرنا.. الماضي للعبرة للتاريخ وليس للتقليد.. وفي سورة يوسف عليه السلام خير دليل على ما نقول حيث يقول ربُّ العزة وهو أصدق القائلين: ((... وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ(104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ(105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ(106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمْ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ(107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ(108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلاَ تَعْقِلُونَ(109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)

      (س؟؟؟): كيف يكون تدبُّر القرآن؟ وكيف يفهم العامة مقاصد القرآن الكريم في عصر تجرأ فيه المبتدعون على الفتيا وممالئة الحكّام ومداهنة المنافقين؟
      (ج...): هناك تقسيم عملي اسمه العامة والخاصة وخاصة الخاصة.. ويجب أن نخاطب الناس بما يفهمون .. لذلك انتهجنا في موسوعة (تفسير العدل والاعتدال) هذه الطريقة الفريدة والجديدة والتي لم يسبق إليها أحد من قبل.. وهي أن قسمنا القرآن الكريم إلى أربعمائة وثلاثة وعشرين حلقة.. كل حلقة مستقلة  بذاتها.. ومرتبطة بغيرها سابقا ولاحقا.. كل حلقة هي عبارة عن طريق سيارة سريعة من يدخلها يجد مبتغاه سواء كانا عالما أو طالب علم.. مثقفا  أو متوسط الثقافة أو باحثا عن الحقيقة  التي لا تمارى.. بحسب مستواه يجد المبتغى بإذن الله حكمة وموعظة حسنة وأدبا رفيعا ولغة مفهومة  ونورا وألقا وتواصلا واتصالا بالقرآن الكريم بدون كلف ولا تعقيد...

     (س؟؟؟): سؤال أخير... مع ارتفاع شأن العلم وسيطرة تكنولوجيا الاتصال على مفاصل الحياة وأضحت شبكة المعلومات العالمية في متناول الجميع .. هل يمكننا القول: بسقوط حجة التبليغ عن العلماء وانتفاء حجّة الجهل وعدم المعرفة عن المكلفين؟
        (ج:...) لم تسقط أمانة التبليغ ولن تسقط إلى قيام الساعة.. فعندنا أمانة العلم.. وأمانة الفكر.. وأمانة الوعي.. وفي هذا الزمن الذي انتشرت فيه وسائل التواصل الاجتماعي فإن أمانة التبليغ تبدو أكثر إلحاحا وأكثر دقة.. لأن وسائل التواصل الاجتماعي لا تنشر الحقيقة كلها.. بل تنشر الكذب أيضا وتدس السم في الدسم.. وشبابنا وطاقاتنا عرضة للتلوث الفكري والتسمم الأخلاقي والفكري والثقافي.. من هنا فإن أمام العلماء والمفكرين والأدباء والدعاة أمانة كبرى سيُسألون عنها يوم القيامة الذي لا شك فيه إطلاقا.. ليس بممالأة أهل الكراسي المال والنفوذ.. وليس بالنفاق والوصولية.. بل بقول الحق.. والمساهمة الفاعلة غير المنفعلة.. وبدون صراخ..  بالقول والفعل لإعلاء كلمة الحق.. لأنه لن تنفعهم الأموال والكراسي والمناصب والمصالح الزائلة.. ولكن تنفعهم كلمة حق عند سلطان جائر وما أكثر جور السلاطين هذه الأيام السوداء.                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                   

تعليق عبر الفيس بوك