رواية الثّورات والتّحوّلات المفتوحة

أ.د/ يوسف حطّيني – أديب وأكاديمي فلسطيني بجامعة الإمارات


حاولت رواية "ثورة بورا" للكاتب العماني خليفة سليمان(1) أن تقترب من موضوع الربيع الهش الذي ضربت أمواجه أقطار عربية متعددة، من خلال نموذج الثورة المصرية التي دفعت بالملايين إلى ميدان التحرير، ثم دفعت بهم مرة أخرى إليه حين أجهضت أحلامهم. مبدياً مواقف الشخصيات من تلك التحركات، مركّزاً على موقفي خالد وسالم اللذين وصلا إلى القاهرة وبقيا فيها أسبوعاً شهدا فيه ثورةً من نوع آخر، ثورةً منحت الرواية جدارة عنوانها: "ثورة بورا".
يصل الصديقان في رحلة جوية من مطار مسقط إلى مطار القاهرة يوم الجمعة في العشرين من إبريل من عام 2012، إنّها "جمعة أخرى من جمعات الثورة المصرية. وجمعة أخرى من جمعات ما بات يعرف بالرّبيع العربي"، ص9. ومثلما تأخذهما أجواء الثورة تأخذهما أيضاً أجواء كازينو بورا بورا، ابتداءً بخالد الذي التقى بلوسي، صديقته التي عرفها عبر وسائل التواصل، وقادته إلى الكازينو، ثم تبعه صديقه الذي تعرّف إلى حنان، وهناك في "بورا بورا" يعيش الصديقان، تباعاً، اندلاع ثورة أخرى كانت كامنة في الجسد، ويكشفان جزءاً من تجليات الثورة وعقابيلها على المجتمع المصري بمختلف فئاته، ليغادرا مرة أخرى إلى مسقط وقد ملأت جسديهما ثورة تفتّحت على أزهار جسدين أنثويين.
وتقوم الرواية على ثلاثة توازيات بنائية وموضوعية: فثمة توازٍ زمني ابتدائي، حيث تتداخل الأحداث بين حكايتين: حكاية خالد مع لوسي (ليلي مصطفى) التي عرفها عبر شبكات التواصل، وحكاية تطور الثورة التي يتابعها الصديقان، وتمة توازٍ مكاني كذلك بين الفندق وكازينو بورا بورا، غير أن هذين التوازيين يتحدان لاحقاً في خط واحد، ليبقى التوازيالثالث قائماً بين ثورة الجماهير المصرية وثورة الجسد التي تبدأ بخالد وتنتقل عدواها إلى سالم.
في المكان الروائي ثمة صفات لازمة لكثير من الأمكنة التي يؤثثها السرد، فالأمكنة متنوعة تنوعاً شديداً تحكي حكاية الزمن، تنتمي للماضي والحاضر في آن، وهي مؤثثة بالحياة المستمرة ليلاً ونهاراً، وبالوصف الدقيق والأصوات الشجية التي تنبعث منها.
وفي ظلّ هذا التنوع المكاني والزماني ينهض تنوع آخر، يتجسّد في العادات والتقاليد واللباس؛ إذ يبدو هذا التنوع سرّ توحّد المصريين، على الرغم من اختلاف أفكارهم ورؤاهم وطوائفهم وطبقاتهم، ويبدو هذا المكان الروائي أليفاً للسارد، ومؤثثاً بالحب وبالمواقف الإيجابية تجاه كل موصوف مكاني من مصر الحضارة والتاريخ، فمصر حاضرة بأهراماتها وأسرها الفرعونية ومقابرها وعاصمتها ونيلها وأحيائها ومزاراتها.
وفي قلب القاهرة، حيث تنهض ثورة الجسد وتتفجر نقرأ عن كازينو بورا بورا الذي دخله خالد ووجد فيهفي أثناء دخوله الأول "عالماً مختلفاً: أجساد تتمايل، وأغانٍ راقصةٌيضجّ بها المكان. رائحة المكان تختلط بين أدخنة السيجاروروائح النبيذ"، ص44، بالإضافة إلى تأثيث الأماكن ووسائل النقل بالأصوات الأليفة الدافئة من مثل نجاة وعبد الحليم وأم كلثوم.
*          *          *
لا يبحث خليفة سليمان في "ثورة بورا" عن مجتمع مثالي يستقطب منه شخصياته، ويعيد تشكيلها، ولا يصرّ في سرده على الشخصيات/ المثال التي لا يعتريها الضعف أو الارتباك. ولكنه يغترف تلك الشخصيات من عالم يعيش على حافة المجتمع، فتؤثّر فيه، وتعيش تجربته النابذة، وتعاني من قلقها الجسدي والروحي، وتفجّر ثوراتها الكامنة داخل الجسد وخارجه.
وثمة شخصيات صهرها المجتمع بمعاناته، من الطلبة والعمال، من المثقفين والساذجين الذين طحنتهم ظروف الحياة فجعلت منهم متطرفين، وبين كل هؤلاء يتولّد الوعي بالثورة، فنجده حديث الناس في الشوارع والكازينوهات وفي سيارات الأجرة أيضاً، وهكذا فإننا نجد شخصيات تنتمي إلى مختلف أطياف المجتمع تغذي السرد، وتقود الحكايات التي ترسم مصائرها، وفي مقدّمة هذه الشخصيات خالد وسالم العمانيان اللذان يزوران القاهرة، ولوسي وحنان اللتان تضيئان ليلهما بثورة كانا ينتظرانها.
*         *          *
لقد اهتمّ السارد اهتماماً بالغاً بالثورتين المشار إليهما سابقاً: الثورة السياسية  والثورة النفسية، وراح يتقصّى تجلياتهما، مفرّقاً بينهما، فـ "الثورة النفسية هي ثورة على الثوابت، أما الثورة السياسية فهي ثورة من أجل الحرية"، ص153، وقد أفرد مساحات طباعية معتبرة للتعبير عنهما، ورصد وجهات نظر الأبطال تجاههما. وفيما يتعلّق بالثورة السياسية بدا السارد واعياً لأثر التقنية الحديثة ووسائل التواصل في الدعوة للثورة، فالسلاح المستخدم هذه المرة كان مختلفاً، ووسائل التواصل الاجتماعي صار لها دور ريادي في تحريك الأحداث، كما "أصبحت تشكّل هاجساً للحكومات العربية"ص42، كما بدا حذراً في التعامل مع هذه الثورة السياسية، بوصفها منجزاً ناصعاً، حتى إنّه كان يترك شخصياته تبدي موقفها من مصطلح الربيع العربي، بسبب الفرق الكبير جداً بين منجزات الربيع في الطبيعة، ومنجزات تلك الثورة، أو ما سمّي بالثورة، على مساحات الوطن العربي الكبيرة.
أمّا الثورة الأخرى التي لن تهتم بها وسائل الإعلام ولا وسائل التواصل الاجتماع، فقد اشتعلت في نفس كلّ من خالد الذي استقبلها بحفاوة، وسالم الذي حاول نكرانها، وعلى الرغم من انتصارها فإنها لم تعنِ لهما الأمر نفسه:
"نعومة لقاء ودفء جسد عاشها الاثنان مع حنان ولوسي. ليلة استثنائية من ليالي القاهرة الجميلة. احتفالات تسكن خالد في لحظة انتصار، بينما يسكن صاحبه الحزن وتأنيب الضمير على انهيار النظام العقلي الراسخ"، ص191؛ فإذا كان سالم يرى الجسد ضعفاً في مواجهة العقل، فإنّ خالد "تشغله تفاصيل الجسد مثلما تشغله تفاصيل الحدث"، ص19، ويستشرف تلك الثورة منذ دخوله إلى كازينو بورا بورا في المرة الأولى حيث يقول: "يبدو أن هنا ثورة.. ولكن من نوع آخر"، ص45، وقد كانت ثورته "تشبه ثورات الربيع العربي، حدثت بلا موعد، وبلا استراتيجية منظمة"، ص151، كما يقول السارد.
وهكذا فإن رواية "ثورة بورا" تشهد على حدوث ثورتين، تؤرخ لهما من خلال الزمن والمكان والأحدث والشخصيات، عبر سرد يتجاوز مئتين وخمسين صفحة. وإذا كانت هذه الرواية تشابهت، أو ستتشابه، مع روايات أخرى ترصد ظاهرة "الربيع العربي"، فإنها تحقق فرادتها من خلال رصد ثورة أخرى تفجّرت في القلوب ينابيع محبة ودفء لا تعرف العنف والدماء.
...............................
المصادر:
خليفة سليمان: ثورة بورا، رياض الريّس للكتب والنشر (الكوكب)، بيروت، ط1، 2014م.

تعليق عبر الفيس بوك