وضعية المثقف العربي ودوره في علاقته بالمؤسسة (6)

عبد الجواد خفاجي – ناقد وروائي مصري

 

ثمة دراسة حديثة أجرتها الباحثة السورية "إسعاف حمد" تحت العنوان "المثقف العربي" إشكالية الدور الفاعل، حاولت بداية ربط الفكر بالواقع، وثانياً التركيز على راهنية العلاقة بين المثقف والمؤسسة، وهذا ما أكدنا عليه في بعض المواضع سابقاً، حتى يكون حديثنا منصباً على علاقة حيَّة معاصرة تهمنا، أو هكذا يجب، وحتى نكون مثقفين حقيقيين مهمومين بدور ما في الواقع وأعني واقعنا العربي.
ثم تطرقت الباحثة بعد ذلك للحديث عن دور المثقف العربي ووظيفته، وعلاقته بالمؤسسات المجتمعية، ورصدت هذه العلاقة في إطارها الحرج  وهو (التخلي).
تقول الباحثة: "لم يسبق للمثقف العربي أن وًضع على المحك كما يحدث الآن، في ظل التحولات التي تشهدها المنطقة مع انتهاء العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ولم يسبق لمقولاته وقضاياه وآلياته أن تعرضت للاختبار وامتحان المصداقية كما تتعرض الآن.
إن جل المثقفين بقي حائرا ومذهولاً أمام التداعيات الخطيرة التي أوقعت المثقف في أزمة هي الأعنف في تاريخه بعد هزيمة حزيران 1967 ، وخلفت تناقضات ما زالت تتناسل في الساحة الثقافية، وتعرِّض نجوم الثقافة العربية للمساءلة عن دورهم، وعن جدوى مشروعهم الثقافي في ظل التطورات الأخيرة." (16)
ربما أن الباحثة أرادت أن تؤكد على أننا نمر بظرف راهن يفوق كارثة 67 بكثير، يستوجب ـ افتراضاً ـ دوراً عظيماً للمثقف، ولعل ما بدر على السطح الآن بعد فشل ثورات الربيع العربي يؤكد أن المثقف العربي تخلى عن دوره الطبيعي وقد وقف في خندق المؤسسات السلطوية ضد الجماهير في تناقض غريب، وإن كانت مبررات هذا الفعل أضحت واضحة، ولعل ما انتهت إليه الباحثة بشأن الدور الذي ظهر على السطح، والذي تأكد أنه (التخليّ) ، فقد تخلي قطاع كبير من المثقفين عن وظيفتهم التي تقوم على إنتاج الخطابات الضامنة لهوية الجماعات السائدة فيها، كما تخلوا عن دورهم المجتمعي، والمفترض أن يكون متمثلاً في التصدي للقضايا المفصلية في حياة مجتمعهم، وأمتهم، وأن يكونوا في طليعتها عند المواجهة مع أعدائها، وخصومها، انتماؤهم غير قبلي وغير إثني أو مذهبي، أدواتهم، شكهم لا حدود له ، سابق لنقد لا نهاية له، لقد تخلي معظم المثقفين عن ذلك الدور ، وهذا التخلي أرجعته الباحثة لأسباب عدة منها:
ـ التضحية بالحقيقة من أجل السلطة ، متحولا عن الديكارتية إلى لميكافلية، ليثبت كما قال سارتر أنه ذلك المزيِّف الألد، المبيع.
ـ التضحية بالمبدأ والحقيقة في سبيل المادة.
ـ الافتقار إلى الشجاعة والاستعداد للتضحية، رغم أن كثير من المثقفين في السجون الآن، ولكن ليس لأنهم مثقفين حقيقيين وشجعان، وإنما لأن رؤيتهم كانت قاصرة، فهم يسجنون بفعل ثورات مضادة أيدوها.
ـ الافتقار إلى الوضوح والانضباط والإخلاص. (17)
صحيح إلى حد كبير ما طرحته الباحثة في دراستها التي تتخذ قيمتها في جدتها، ولعل الشاهد على ما ذكرته انسحاب هؤلاء المثقفين من دائرة الفعل والقيادة إلى دائرة رد الفعل والتبعية، وتمثل ذلك في رفعهم لبرقع الحياة الفكري المفترض عند تعاملهم مع المؤسسات الثقافية الأجنبية المشبوهة، كما تمثل في حالة الاستلاب الحضاري العام التي يستشعرونها تجاه ثقافة الآخر الغربي وحضارتهـ بل صاروا أدواته، باعتراف الغرب أنفسهم، وقد صاروا أدواته ووسائله داخل مجتمعاتهم، وبدل القيام بدور اجتماعي فعال وإيجابي تجاه مجتمعاتهم أصبح همهم خلخلة الثقافات المحلية وإذكاء صراع الإثنيات وتدعيم الجيوش العربية تجاه تكميم أفواه المجتمع العربي المتهم من المثقفين والمؤسسات المتغوِّلة التي تستعمره وتمتص دماءه وتستعبده، وهي ضدية لم تتوقف عند النواحي الشكلية والسياسية العامة بل تجاوزتها إلى الجوانب الحضارية والإنسانية المؤثرة.
لقد أضحى من الممكن عند الحديث عن وضعية المثقف العربي وعلاقته بالمؤسسة، أن أتصور على نحو استعاري "استراحة" تحوي ردهتان ـ على الأقل ـ يلتقي فيها المثقف العربي مع المؤسسات، خاصة المؤسسة السلطوية الحاكمة، وهي استراحة مملوكة لكليهما بنصيب أكبر كثيراً للمؤسسات.
وحتى نكون منصفين يجب إلا نقف دائما ضد لقاء المثقف والمؤسسة، فمثل هذه القطيعة ليست مفترضة على الدوام، طالما أنها تتم لصالح المؤسسة والمجتمع والتغيير، ولكننا ضد الاحتواء والتراضي على صيغة عمل مشتركة ينبني عليها استعمال المثقف أو توظيفه، أو تسييسه لأداء دوره كداعم للمؤسسات المنحرفة والديكتاتورية، التي توّصِّف نفسها غالبا بتوصيفات عدة، مثل: المؤسسات الوطنية، أو مؤسسات الشعب، أو مؤسسات الدولة، أو مؤسسات المجتمع.
 وبصرف النظر عن الفروق الدقيقة بين التوصيفات السابقة، فإن أهم ما تواجه به، أو تزايد فيه، أو تحرص عليه تلك المؤسسات هو قداسة رأيها، ليس لأنه مقدس بالفعل، ولكن لكونها قادرة على إضفاء وهم القداسة عليه، ولعل هذا الوهم هو أولى الردهتين .
ولعل ذلك المسلك الاعتيادي من المؤسسة السلطوية يبرر لجوءها إلى تعضيد تصرفاتها وقراراتها وإجراءاتها بالرأي الديني الفقهي، أو بمباركة رجال الدين الصامتة أو الناطقة، فيما لا يعدُّ تعضيداً فقط، بل فوق ذلك اجتيازاً لحيز البشري إلى مشارف المقدس، ولعله اجتياز يبرر للمؤسسة ارتداء عمامة القسيس صباحاً وعمامة الشيخ بعد الظهيرة، واقعة بهكذا تصرف في التناقض المنطقي عندما تطلق شعارات من عينة "لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة" وهي تعلم أنها تقول ما لا تفعل، أو تفعل بغير ما تقول، وتصر في نفس الوقت على صحة زعمها وشعارها ومقولاتها وأن رأيها يرقى إلى مستوى التقديس الواجب.
ولعلنا نخص العالم العربي لأننا لا نريد أن نخفي حقيقة تتعلق بطبيعة هذه المؤسسات السلطوية التي كثيرا ما نُعتت بالدكتاتورية في غياب الرقابة الشعبية والديمقراطية، الضامن الوحيد لحرية المثقف من جهة، ولقيام كل من المثقف والمؤسسة بدوريهما على نحو يؤكد فعاليتيهما من جهة أخرى.
نؤكد على أن مناخ عمل المثقف يشير دائما إلى الاستراحة التي يلتقي فيها المثقف بالسلطة، وهو في الغالب لقاء عمل، تسعى فيه مؤسسة السلطة ـ ضمنياً ـ إلى ممارسة سلطة المؤسسة التي تحرص على تدجين المثقف وتوظيفه فيما بعد، ولا أظن أن ذلك يعد إخلالا بوظيفتها أو دورها، بل العكس من ذلك هو الصحيح، فكل المؤسسات السلطوية في العالم وعلى مدى التاريخ كانت تحاول أن تفعل الشيء نفسه، ولكن الهدف من ذلك هو ما يمكن أن نلتفت إليه، ومدي ما تحققه تلك المؤسسة من نجاح في تهجين المثقف أو استعماله في مهام عدة تخدم السلطة، وما ينتج عن ذلك من صيغ اختزالية للوطن، وقد خلا من الدور الحقيقي والمستقل للمثقف، وقد احتكرت المؤسسة الحكمة والحقيقة، وأصبح كل ما يجري على أرض الواقع تصرفاً حكيماً يستقي حكمته من نهر عظيم للحكمة هو رأس المؤسسة الحاكمة، أما إذا استدامت هذه المؤسسات لفترة طويلة خاضعة لنظام سياسي بعينه ـ وهذا هو الغالب الأعم في عالمنا العربي ـ فإنها تأخذ من ديمومتها مبرراً أو ذريعة أو مسوغاً لقداستها أو شاهداً على قيام تلك القداسة المزعومة.
ولعل تلك القداسة وقيامها ممهد لقيام الصيغة الاحتكارية للعقل الجمعي ـ بعد ذلك ـ بوصفه عقل المؤسسة السلطوية فحسب، وهذه الخطوة ممهدة لقيام الصيغة الاختزالية للوطن في رأس المؤسسة الحاكمة.
وإذا كانت القداسة ـ على نحو ما طرحت هي تهمة المؤسسة السلطوية فإنها ـ وعلى نحو أكيد ـ تهمة المثقف العربي المتسربل ـ غالباً ـ بالقداسة.
المثقف العربي لا يحب أن يرى الصورة كاملة، وربما أنه لا يستطيع ذلك بسبب الحُجُب الكثيفة التي تحول بينه وبين الحقيقة، وأول تلك الحُجُب هو ادعاؤه ـ إلى حد اليقين ـ امتلاك للحقيقة، في الوقت الذي ينظر فيه إلى الحقيقة من ثقب ضيق جدا تحدده الأيديولوجيا أو غيرها من نوازع غير موضوعية مثل القبلية أو العنصرية أو المذهبية أو العرقية أو غير ذلك من بداوة توارثها هذا المثقف عبر جيناته الثقافية التي تربطه بخير أمة أخرجت للناس. أو العكس تماما عندما يكون الثقب الذي ينظر منه المثقف هو التجرد من كل انتماءاته الحضارية التي تربطه بخير أمة أخرجت للناس؛ ليعلن انتماءه إلى طرف آخر حضاري يمثل المشهد الحضاري الأخِر المتسيد على الحضارات الإنسانية الأخرى المتنحية، وهو نموذج لمثقف عربي موجود ، يمثله الكثيرون من مثقفي العرب، ويعبر عنه "محمد أركون" وهو واحد من المثقفين المغاربة، بالقول: "المثقف هو الذي تبنَّي علم الغرب وجماليته ونمط حياته" ويتابع: "المثقف هو ذلك الرجل الذي يتحلى بروح مستقبلية؛ محبة للاستكشاف والتحري، وذات نزعة نقدية، واحتجاجية تشتغل باسم حقوق الروح والفكر فقط" (18)
وبصرف النظر عن اضطراب تعريف "أركون" للمثقف، وتوزعه بين اتجاهين متنافرين، هما الرغبة في تبني حضارة الغرب المادية بحسب الجذور الفلسفية لهذه الحضارة، والاشتغال باسم حقوق الروح !! . وبصرف النظر ـ أيضاً ـ عن استنكاف التعريف عن ذكر المرأة واقتصار التعريف على الرجال، أو امتناع صيغة (الإنسان) التي تعطي دلالتها في المرأة والرجل.. بصرف النظر عن ذلك، يضعنا التعريف أمام صورة المثقف العربي الذي يعاني من أعراض الاستلاب الحضاري، أو هو ذلك الذي (يتبنى)، أو بالمعنى الآخر للكلمة: المثقف غير الخلاق وغير المبدع، فالتبني يقف حجر عثرة أمام الإبداع؛ ليقترب بالمثقف من التقليد. ولعله ـ كما فهمنا ـ يتبني خارج الاحتياجات الحقيقية لمجتمعه، سواء الفكرية أو الروحية.
إن نموذج "أركون" للمثقف هو نموذج المثقف القادر على الخيانة عندما يوضع على المحك، أو المغترب والمتغرب في الوقت نفسه، ولعلنا بهكذا نموذج وصلنا إليه نكون قد وصلنا إلى الردهة الثانية من ردهات "الاستراحة" التي يلتقي فيها المثقف والمؤسسة معاً في عالمنا العربي ، ونقصد بهذه الردهة : التبعية للغرب.
ولعل التبعية للغرب ردهة مشتركة بين المثقف العربي والمؤسسة السلطوية التي يتلخص بقاؤها في موالاتها للغرب ورعاية مصالحه، مقابل اعتلاء كرسي السلطة، منذ عهود الانتداب، والاستمرار فوق الكرسي يظل رهن الاستمرار في تنفيذ سياسات غربية في المنطقة وموالاتها أكثر من موالات المؤسسات العربية لشعوبها التي لا تزال تعاني ـ بدورها ـ من نظرة الخديوي توفيق، حين ردَّ عرابي بالقول : "لقد خلقنا الله أحرارا ولم يخلقنا تراثا أو عقار فوالله الذي لا إله إلا هو لن نورث ولن نُستعبد بعد اليوم".
في مجتمعاتنا العربية بظروفها السياسية والاجتماعية وكيفما قيل إن للمثقف سلطة، أو أن الثقافة في حد ذاتها سلطة، أو أن المثقفين أصحاب رأس مال ثقافي، فكل هذه التوصيفات ستنتهي بنا إلى السباحة في الماء المالح، وحتما ستفضي بنا إلى النظر إلى كثير من المثقفين كفئات مهيمَنٍ عليها داخل الطبقات المهيمِنة، حتى وإن بدا البعض سابحاً ضد التيار، ذلك لأن البحر الذي يسبح فيه هو المؤسسة نفسها. وهذا يدفعنا إلى التمييز بين نوعين من المثقفين، أولهما المثقف الذي يقوم بدوره من خلال فعاليته كمثقف ومفكر وحارس للقيم، يمكن أن نطلق عليه "المثقف النقدي" الذي يتمتع بالاستقلال عن المؤسسة، وليس العداء معها، ويقوم بوجوده وفاعليته الرقابية النقدية في المجتمع، وهذا النوع غالباً ما يحتاج لإثبات فعاليته إلى أجواء من الحرية تضمن له حالة التماهي المفترض مع الجمهور، والغالب أن مثل هذا النوع من المثقفين إما خارج الوطن، وإما في السجون، وإما منبوذ مراقب مستجهل بلا منبر.
أما الثاني فهو "كلب الحراسة"، أو حارس الخطاب المؤسساتي الرسمي، وهو مثقف أيضاً، لكنه موظف في سلك السلطة السياسية.. لقد أكلته مؤسسة السلطة وهضمته، وأخرجته مخرجا ليس له علاقة بالثقافة، وحولته إلى منتج لتشويه الوعي؛ فأصبح أداة تسليع للثقافة، التي حولها إلى أداة تبجيل لجوهر القوة السلطوية وترويض الضمير العام، وإشباع الغرور السلطوي، وأصبح كل من يقف بوجه هذا التيار وكل ما هو خارج الحزب ودولته وسلطته وثقافته شيطانا أو متآمراً أو خائناً، فخسرت الثقافة كثيراً وخسر المجتمع أكثر (عصر مبارك نموذجاً)، وهو ما أفقد المواطن إحساسه بالانتماء، وما حاجة المواطن إلي ثقافة تسودها الفوقية والشعارية، وقد أصبحت الثقافة أداة تضليل الجماهير بدلا من أن تكون مصباحها المنير.(19)
عندما تصبح الدكتاتورية هي ثقافة المؤسسة السلطوية، فكيف نتصور دوراً للمثقف بعيدا عن الخيانة؟! .. وأعني خيانة المثقف لدوره المفترض، ولوعي الجماهير/ مجال عمله المفترض.. والحقائق ما نلمسها يقيناً، لا ما نفترضها، ومن ثم فإن موضوعنا نفسه ـ مع قيام الدكتاتوريات العربية ـ هو محض افتراض يقوم على مشاكلة الحقيقة، لكنه لا يأخذ معناها، ولا يتلبس بموضوعها.
إن دور المثقف يبدأ ـ غالباً ـ من الواقع، كخطوة أولى، ثم عليه، كخطوة ثانية .. هو تصور واحد لخطوتين أو قفزتين تؤطران عمل المثقف باتجاه التغيير الذي ينشده لمجتمعه، وأي تغيير يبدأ بالوعي ، ولا أظن إلا أن وعي الجماهير عدو لدكتاتورية تخشاه.
يمكننا أن نجادل ابتداء من مقولة صدام حسين: "للبندقية والكلمة فوهة واحدة " ربما أنه كان يقصد الكلمة الشعارية والحماسية عندما تبيت في خندق المثقف المدافع عن الوطن والمؤسسات ضد العدو، لكن ماذا لو أصبح صاحب الكلمة نفسه عدواً للمؤسسة يبيت في خندق الجماهير دفاعاً عن حقها في الحياة والديمقراطية وإبداء الرأي والعدالة الاجتماعية؟
كثيرا ما واجهت المؤسسات السياسية الحاكمة المثقف العربي بوصفه عدواً يهدد وجودها، لذلك كان الانتصار عليه بديلاً تعويضياً لهزائمها أمام العدو الخارجي، وكموضوع تنشغل بتصفيته في مساحة مفرغة من العدالة، بل أنها أحيانا عدو لفصيل اجتماعي يعارض سياستها.
يمكننا أن نجادل باتجاه المثقف العربي نفسه الذي آثر أن يدخل بيت السلطة الآمن، كمستوظف تستعمله السلطة، ليقول بكلمته رأيها، أو ليدبج بأسلوبه التخييلي مدائح لمذماتٍ ناجزة.
ولن نجادل بعيداً عن مقولة صدام، بوصفها مقولة جدلية تمثل الحقيقة في عالمنا العربي، ولا تمثل أية حقيقة في الوقت نفسه ! .. فهي ليست بحقيقة إذا تصورنا أن فوهة البندقية محشوة بالرصاص، وأن المثقف وحده من يجابه المؤسسة الحاكمة، لتبرز أمامنا فوهتان متعارضتان اتجاهاً. وفي رأيي أن هذه الحالة تبدو تخيلية إلى حد كبير أو مضى زمانها بعدما أصبح تدجين المثقف ظاهرة عربية بامتياز.
وفي الوقت نفسه هي حقيقة إذا تصورنا المثقف يقف في خانة المؤسسة السلطوية الحاكمة وكلاهما يطلق الرصاص باتجاه "الإرهاب" مثلا .. في هذا المعسكر تتحد الفوهتان في فوهة واحدة، وتتساوى كلمة المثقف ودوره مع رصاص السلطة ودورها ويأخذان نفس الاتجاه.
 الحقيقة إذاً فاضحة لدور المثقف، لأن رؤية المثقف الحقيقية الواجبة يجب لا تتبنى ما تراه السلطة إرهاباً، بل تراه فيما تصنعه المؤسسة الحاكمة من إرهاب في غياب الديمقراطية. ربما كان من الواجب هو النظر إلى الطرف الذي تنعته المؤسسات بالإرهاب، بوصفه صنيعة هذه المؤسسات نفسها، لأنه تربي في كنف المؤسسات، وهذا نتاجها .. المؤسسة إذن مدانة لأنها أنتجت ما تسميه إرهاباً.
كيف تمثل المقولة الواحدة الحقيقة واللا حقيقة في ذات الوقت؟.. تلك إذن إشكالية عربية خاضعة لسيطرة السياسي على الثقافي وتشغيله. من المؤكد أن هناك خللاً في المفاهيم، أو ثمة تواطؤ من المثقفين ينتج عنه اختلال المفاهيم، وفي هذه الحالة يمكننا أن نعلن موت المثقف، لا لشيء إلا لأن دوره قد مات.. إننا وكيفما كانت المؤسسة لا ننتظر منها ضبط المفاهيم، فهذا دور المثقف الذي تستعمله.
الحقيقة تبدو هنا ـ على نحو مزعوم ـ مستديرة، أو بالمعنى: من يملك الحقيقة اليوم هو الجالس على رأس المؤسسة، وعليه فالحقيقة محتكرة، ومتعددة بعدد من جلسوا على قمة المؤسسة، إنها دكتاتورية الحكم واحتكار الحقيقة وغياب لدور المثقف المعارض أو الناقد أو المثوَّر للجماهير، لذلك تنعم المؤسسات بالكسل طالما أنها تعمل في ظل الحقيقة المملوكة، وطمأنينة العصبة أولى القوة، لينتهي الأمر بتغول تلك المؤسسات وفسادها وسيطرة القوى الرأسمالية عليها الداعمة لاستمرار المؤسسة الحاكمة. وفي حالة كتلك يصح القول إن الحقيقة مستديرة، فكل الذين جلسوا هنا متساوون في امتلاك مزعوم للحقيقة.
أحيانا تبدو الحقيقة واضحة ولكننا نتجاهلها، لا لشيء إلا لأننا نبحث عن دور غير حقيقي نفعله، تنشغل به المؤسسة الحاكمة ومن تستعملهم من المثقفين، عندما تتأكد المؤسسة أنها بلا خطة وبلا استراتيجية وأن مهمتها هي الجلوس هاهنا، حتى ترى ما يمكن أن يُرى !!، ثم وإمام إفلاسها تعلن أن مشروعها هو مكافحة الإرهاب.. ثمة نوع من المزايدة على ما أسمته المؤسسات العربية "قضية الإرهاب" .. أحيانا تتجاهل المؤسسات أنها بغير دور حقيقي وأنها منحرفة وليست حقيقية، وإننا كشعوب عربية نسير في عماء، لكن المثقف الذي تستعمله السلطة يعرف أنه مضلِّل (بكسر اللام الأولى وتشديدها) ، وأن الشعوب تسير في ظلام ... كيف يمكننا أن نواجه ـ كجماهير ـ هذا المثقف والمؤسسة معاَ؟.. فليس عيباً أن نوجه الانتقاد للمثقف والمؤسسة معاً، لأننا شبه متفقين على أننا طموحنا هو إعادة مأسسة حياتنا على أسس جديدة، وهذا معناه أننا أمام تغول وانحراف مؤسساتي وخيانة مثقفين.. للأسف إن ما نطمح إليه لن يتم بغير مثقفين أحراراً ، ومن ثم يطفر السؤال من جديد: كيف نحرر المثقف؟.
ثمة ملامح لحقيقة ما تخصنا، يمكن أن نتلمسها لو اتجهنا شرقا صوب عدونا الإسرائيلي، لنتأمل قليلا المجتمع الإسرائيلي.. إن "حزب شاس" الإسرائيلي ككينونة اجتماعية ساسية دينية متطرفة تمارس دورها، ولها نشاطها، بل وتحدد خطوات السياسة الإسرائيلية في توجهها نحو نسف السلام مع العرب، أو تحديد شروطه بما يتفق مع معتقدها. هو حزب له صحيفته وممثلوه في الكينست ، وله منابره ومثقفوه في مجتمع ديمقراطي يستوعب فصائله ويؤمن بحقها في التواجد والممارسات السياسية وغيرها.. هكذا يمكننا أن نتجه صوب الديمقراطية لنؤكد أنها هي الضامن لعمل المثقف والمؤسسات والاستقرار السياسي والأمني.
الحقيقة إذن أن المثقف العربي يسير سير الأنظمة العربية متجاهلا حق حزب شاس العربي الذي يبحث عن تمثيل نفسه سياسياً واجتماعياً، غير أن هذا المثقف يتناسى أن غياب الديمقراطية هو ما يؤدي إلى العنف عندما تٌحرم كيانات ثقافية في الأساس من حق تمثيل نفسها سياسياً واجتماعياً، وأن عنفها الذي يبدو كرد فعل أقل بكثير من عنف السلطة ضد الديمقراطية والمعارضة.. ليس الحقيقة إذن ما نبحث عنها، إنها في الغالب تلك التي نتعامى عنها.
يمكنني أن أجادل باتجاه المثقف الحزبي، أو صاحب الولاءات الحزبية التي توصف ـ عربياً ـ بأنها ديكورية أو شكلية بلا دور حقيقي، مهمتها التخلي عن القضايا الأساسية.. هي أحزاب لازمة لاستمرار الدور الشكلي للمؤسسة الحاكمة، وتقوم بهذا الدور مقابل بعض المزايا والامتيازات، فكيف يمكننا أن نثق في دور المثقف الحزبي وما حاجة المجتمع إليه؟.. هو نوع من المثقف الذي تم إفساده بفعل الأحزاب نفسها، فالأحزاب السياسية تريد أسماء المثقفين وخبراتهم؛ لاستخدامها في مشاريعها السياسية، شأنها شأن الأنظمة المؤسساتية السلطوية الحاكمة، الأحزاب تشتري المثقفين وتفسدهم من خلال إبعادهم عن العمل الثقافي الحقيقيّ؛ هي تريدهم أبواقاً ومرتزقة، وهتّافين، فأصبح المثقف محبوسا في القفص الذهبي للحزب لا يستطيع أن يغرد إلا على أغصان وسائل إعلامه ومؤسسته الثقافية، فخسرت الثقافة أولا، والسياسة ثانيًا، إذ لم تعد فاعلة في الوسط الاجتماعي أو قائدة للتغيير بل متخلفة كثيرا عنه، وقد أصبح المثقف مساهما فعالا في خلق رأي عام مهادن للسلطة مثل حزبه تماماً ، بل عمل على تدجين المشهد الاجتماعي وتوطينه على الاستبداد والاستسلام، وكان الفاعل المؤثر في عملية منح الشرعية للسلطة، فلم يكن حصة للمجتمع بل حصة للسلطة التي ابتلعت كل شيء. (20)
إن ما يعيب مثقفينا العرب أنهم يتنازلون عن سلطتهم المعنوية والأدبية ليتحول عملهم إلى ما يشبه "شرطة المرور" مهمتها تنظيم مشاعر الجماهير الجارفة، لصالح المؤسسات السلطوية الحاكمة، الأمر يعيد إلى أذهاننا ما اعتبره "باندا" ـ سابقاً ـ خيانة من المثقف، لنفسه قبل أن يكون خيانة للمجتمع.
ولعل ما قاله "بندا" كان سابقاً لعصره، فقد كتبه عام 1927، أي قبل عصر أجهزة الإعلام الجماهيرية بزمن طويل، أو لكأنه كان يدرك مدى أهمية استعانة الحكومات بالمثقفين، لا في مواقع القيادة، بل لتدعيم السياسات الحكومية، وللدعاية ضد الأعداء الرسميين، ولوضع صيغ التلطف في التعبير، بل ـ وعلى نطاق أوسع ـ في وضع نُظم كاملة اعتمادا على لغة الأضداد" حيث تعني الكلمة عكس دلالتها، بحيث تستطيع إخفاء ما يحدث فعلاً باسم "مقتضيات" عمل المؤسسة الرسمية. (21)
وقبل أن ننهي لا يفوتنا النظر إلى ذلك المثقف المؤدلَج، العازف خارج السياق، والغالب في مجتماعتنا العربية أن المثقف كذلك، وهو على أية حالة نموذج خطر، ولا يخلو من ثنائية الـ (نحن والآخر)، والآخر هو صاحب الأيديولوجيا المغايرة، وفي حالات كثيرة هو خطِر لأنه يدعو إلى استئصال تلقائي للواقعين خارج المنظومة الفكرية التي وضِع فيها. ولعله من الضروري أن يعيش في حالة قطيعة مع الجماهير التي تتهمه وتخوِّنه وتكفِّره أحياناً، بوصفه خارج السياق الثقافي لها، وتلك حقيقة، فالساحة العربية منذ عقود مساحة مهيأة لاستقبال الأيديولوجيات الوافدة ولذلك تعيش المنطقة أزمة التخوين والتكفير لمثل هذا المثقف، وترى عمله خارج احتياجاتها الروحية والثقافية عموماً، ومن ثم هو يعمل في إطار حزب سياسي على النحو الذي وضحناه سابقاً، أو يعمل بمعية المؤسسة رافعاً شعارها، وأحياناً مُنَظِّرا للمؤسسة مستعديا إياها على الجماهير التي تتهمه والتي يتهمها هو بالمقابل من ذلك بأنها لا تستحق الديمقراطية أو غير مهيَّأة لها وأنها على نحو ما جماهير غبية وغير مؤهلة لاستقبال الثقافة التنويرية، وأحياناً هي ـ حسب وجهة نظره ـ لا تستحق الحياة، ومن هذا المدخل يتحول مثل هذا المثقف إلى عدو للجماهير. وكيفما كانت الحال فإننا يجب ألا نفقد الأمل فعصرنا وساحتنا العربية على وجه الخصوص  زاخرة بمثقفين حقيقين حققوا للساحة إثراءً حقيقيًا، والأمل يحدونا لنترقب مزيدًا من هؤلاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1 ـ انظر: المثقف والسلطة ـ إدوارد سعيد  ـ ت: محمد عنان ـ دار رؤية للنشر والتوزيع ـ القاهرة ـ  2008 ـ ص32
2 ـ انظر: المؤسسات الاجتماعية :
 http://alshirazi.com/compilations/sociology/alejtema/part2/2.htm
3 ــ انظر: وليد المسعود ـ المثقف والمؤسسة : جدلية الرفض والقبول :
 http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=51461
4ـ مسؤولية المثقف ـ علي شريعتي ـ ت: إبراهيم الدسوقي شتا ـ ط1ـ دار الأمير ـ بيروت ـ 2007م ـ ص 131
5 ـ السابق ـ نفسه
6 ـ السابق ـ ص 132
7 ـ  المثقف والسلطة ـ مرجع سابق ـ ص 41
8 ـ مفهوما المثقف في فرنسا ـ جورج طرابيشي ـ جريدة الحياة ـ العدد 14954 ـ 7/3/2004 ـ ص 19
9 ـ المثقف العربي: إشكالية الدور الفاعل ـ إسعاف حمد ـ مجلة جامعة دمشق ـ المجلد 30 ـ العدد 3+4 ـ 2014 ـ ص 339
10 ـ انظر : المثقف والسلطة ـ مرجع سابق ـ ص 33، 34  
11 ـ السابق ـ ص 35، 36
12 ـ انظر السابق ـ ص 37
13 ـ المثقف العربي نحو دور فاعل ـ حيدر إبراهيم على ـ ندوة الثقافة العربية وتحديات المستقبل ـ الشارقة ـ 1996 ـ ص 30
14 ـ صورة المثقف ـ إدوارد سعيد ـ ص 43
15 ـ السابق ـ نفسه  
16 ـالمثقف العربي: إشكالية الدور الفاعل ــ مرجع سابق ـ ص 347
17 ـ  انظر : السابق ـ ص 247، وحتى 349
18 ـ  محمد أركون ـ بعض مهام المثقف العربي اليوم محمد أركون ـ ت: هشام صالح، مجلة الوحدة ـ السنة السادسة ـ العدد 66 ـ ا990م ـ ص 12
19 ـ انظر: المثقف والمؤسسة والشاعر البهلوان ـ شمخي جبر ـ الحوار المتمدن ـ الحوار المتمدن- العدد: 2294 - 2008 / 5 / 27
20 ـ انظر: السابق
21 ـ انظر: المثقف والسلطة ـ إدوارد سعيد ـ ص 37

تعليق عبر الفيس بوك