مواقف وشخصيات:

الشيخ صقر بن سلطان القاسمي (4)

الشيخ سالم العبري – سلطنة عمان


أود في هذه السطور أن أقف مع مجموعة الشيخ صقر الشعرية الكاملة، فقد حرص – رحمه الله- أن يجمع كل شعره ودواوينه في مجموعة واحدة، صدرت في نوفمبر 1989م عن دار العودة في بيروت بمجموع  682صفحة من القطع المتوسط، وكان الشيخ صقر حينها يقيم فترة بـ(أبي ظبي) في جناح بأحد الفنادق، ويشرف على بناء بيت خاص له، ثم ما تلبث أن  تراه يقيم في القاهرة، وقد حرص حينها على إعطائي كمية من نسخ ديوانه لأقوم بتوزيعها له وذلك لدرايته بأنني على صلات وثيقة بالوسط الثقافي والإعلامي آنذاك وفعلا قمت بنشرها، ويبدو أن توجّه للشيخ بجمع أشعاره - إلى حين الصدور- لم يوافقه عليه صديقه المخلص ووفيه الذي لازمه بالقاهرة إبان فترتي إقامته الأولى والأخيرة وهو الأستاذ الدكتور مصطفى الشكعة – رحمه الله- أستاذ الأدب العربي بكلية الأداب بجامعة عين شمس وعميدها السابق، وعميد الدراسات العليا بجامعة الإمارات العربية المتحدة، والذي انتهى من كتابة مقدمته التحليلية وتعليقاته الأدبية للمجموعة الشعرية الكاملة للشيخ صقر القاسمي في 10 رمضان 1405هجرية / 26 مايو 1985م، في بيته بمصر الجديدة الكائن رقم 50 بشارع جسر السويس والذي لا يبعد كثيرا عن الجامع الذي بناه الزعيم الرئيس جمال عبدالناصر ودفن به - رحمه الله- .
وشرع الدكتور الشكعة بتقديم الشيخ صقر شاعرا كالتقليد المتبّع فقال: "صاحب هذا المجلد الديوان هو الشيخ صقر بن سلطان القاسمي حاكم إمارة الشارقة السابق الذي عرفته في وطنه الكبير بأنه أول من خطط لربط ساحل عُمان بالأرض العربية الأم سياسيا وثقافيا من منطلق إيمانه بأن منطقة الخليج العربيّ هي الجناح الأيمن للأرض العربية مثلما المغرب هو الجناح الأيسر لها وإذا كان الطائر يظل أسيرا عاجزا لإذا تعطل أحد جناحيه فكذلك الوطن العربي يبقى بطيء الحركة مقيد الحرية إذا ما ظلّ أحد جناحيه بمعزل عن جسده".
ثم يشير الدكتور الشكعة إلى أن الشيخ اعتمد طريق الربط بين الوطن القطري والوطن العربي الكبير هو طريق التعليم "وكان سبيل شاعرنا إلى ربط وطنه الصغير بأرض وطنه الكبير أن عمل على نشر التعليم في إمارته فأنشاء بها المدارس وكان صاحب ريادة في ذلك ففتحت أبوابها للناشئة وحاول أن يشجّع الفتيات على الالتحاق بها فلما أحجم أهلوهن عن الإقدام على ذلك سارع إلى الحاق ابنته الكبرى وصديقة لها بأولى مدارس الإمارة فكانت هي وزميلتها أول فتيات في المنطقة تنتظمان في سلك التعليم وترتقيان سُلَّمه حتى نالتا الدرجة الجامعية وصارتا بفضل الشيخ صقر أول جامعيتين في ساحل عُمان" وأظن أنهما أول خريجتين جامعيتين بالمنطقة".
ثم يقول الدكتور الشكعة لقد فزع المستعمر الإنجليزي وكانت المنطقة كلها خاضعة له من تيار التعليم الذي بدأ يتحرك في المنطقة فهو يعلم أنه بقدر ما ينشط العلم ينحسر ظل الاستعمار فأخذ يتربّص بشاعرنا حاكم الشارقة وأميرها ويتابع خطواته التي تجهد في بناء العقود وربط الأرض الخليجية بأمها العربية وما إن انتهى الشيخ من بناء فرع بجامعة الدول العربية في إمارته وتحدد اليوم التالي لإفتتاح البناء حتى انقضّ المستعمر عليه وأبعده عن إمارته وموطنه ميدان نشاطه وساحة بنائه فعاش منفيا من ذلك الحين بين.. السجن والإبعاد على أن تلك الأحداث لم تباعد بين الشاعر وبين أحداث وطنه الكبير فلقد غنى أفراحه وبكى أحزانه وأسهم في حراكه بالقول والعمل وسجَّل ذلك كله شعرا رائعا وغناءً تمده ملكة معطاءة سخيّة موروثة في رهطه: فقد كان أبوه شاعرا وكذلك أولاده من بنين وبنات مكتسبين التهذيب بالقراءة ومتابعة التيارات الثقافية وإطالة الجلوس في المكتبة الغنية وإقامة ندوات الشعر والأدب في سكناه بالقاهرة يختلف إليها المجيدون من شعراء مصر والعالم العربي فكان حصاد ذلك أصالة في شعره ومتانة في سبكه وسلامة في صوغه وإيقاعا في قافيته وتمكن من القول على القوالب الأساسية للشعر العربي وتحديا للشارد منها التي يصعب قيادها ويستعصي ترويضها وتبعا لذلك فلم يعمتد إلى قول شعر التفعيلة طالما أنه مقتدر على صوغ ما يريد من خلال البحور العربية العروضية في تمكن ويُسر وسلامة وإبداع"
ثم يبين الدكتور مصطفى الشكعة أنه يقدم شعر الشيخ صقر كله ثم يوضح تحفظه على التسوية وعلى معاملة الفكر والشعر – حين نشره وتقديمه للجمهور - كسلعة استهلاكية- "فإذا كان لنا أن نمضي في هذا الحديث فقد يجمل بنا أن نقرر أننا نهدف إلى تقديم شعر الشيخ صقر القاسمي كله وليس تقديم بعضه ذلك أن هذا الديوان الكبير الذي نقدمه في هذا التقرير قد نشرت مختارات منه قبل عامين تحت عنوان (صحوة المارد) وكُتِب في أعلاه عنوان أخر هو الأعمال الشعرية الكاملة ولمناسبة شيوع عنوان الأعمال الشعرية الكاملة لعدد من الشعراء المعاصرين نود أن نسجل تحفظا هنا خطر لي في هذا المقام فهذا العنوان لا يمثل الحقيقة في قليل أو كثير بالنسبة إلى أي شاعر محدثا كان أو قديما وإنما هو تحليل تجاري ابتكره الناشئون الغربيون لترويج بضاعتهم فالأدب عندهم تجارة وهو عندنا تراث ولا يجمل بالتراث أن يعامل تعامل السلع الاستهلاكية".
ثم إن الدكتور الشكعة يدعم حجّته بالقول بعدم تأييد الشيخ الشاعر صقر القاسمي في ما ذهب إليه من جمع شعره المتضمن بدواوين أو المتناثر بالكراسات والمسودات والمحفوظات والمناسبات في مجلد واحد ويسند توجهه هذا ليس برأي نقدي فقط؛ بل بتوجهات وتصرفات فحول الشعراء كالبحتري والمتنبي، ونحن نورد هذا الجزء لما لذلك من فوائد قد تهم الدارسين والمتأدبين والمقارنين فيقول: "ولو أن الصديق والأخ الشيخ صقر استشارني لما وافقنا على إطلاق ذلك العنوان، وحجّتنا في ذلك متعددة الأسباب، أولها ما ذكرنا من وجوب تنزيه الأدب عن أن يكون سلعة يستغلها التجار للإثراء. وثانيها أن صديقنا الشاعر - أمد الله بعمره- لا يزال يعطي من فيض وجدانه ونبع ملكته وسوف يستمر في ذلك إلى ما شاء الله له أن يفعل. وثالثها أن شاعرا ما من المحدثين أو القدامي لم تنشر له أعماله كاملة إما بكامل رغبته وحرصا منه على ذلك، وإمّا بفعل خارج عن إرادته حين تصبح آثاره الأدبية تراثا بعد وفاته فإنها تخضع لاجتهادات الدارسين وجامعي الدواوين وإنني أعرف عشرات من الشعراء المحدثين نشروا دواوينهم وقد حرصوا على أن تسجل بها قصائد بعينها؛ إمّا لخصوصيتها الشديدة أو لأنها استنفدت غرضا لا يرغب الشاعر أن يعرض له، أو لأنها مما لا يجمل نشره على الناس هذا ما كان من أمر الأعمال الكاملة للشعراء المحدثين. وأما القدامى من الشعراء فهناك اتفاق كامل على أن أيًّا منهم لم يصل شعره إلينا كاملا وكثير منهم قاموا بحذف قصائد بعينها وهم يراجعون شعرهم في أواخر حياتهم فالبحتري على سبيل المثال أمر ولده أبو الغوث بأن يجمع ما قاله في الهجاء ويحرقه وقد وجّه إليه هذا القول الجميل: "يا بني هذا شيء قلته في وقت فشفيت به غيظيي وكافأت به قبيحا فعل بي وقد انقضى إربي في ذلك وإن بقي روي وللناس أعقاب يورثونهم العداوة والمودة وأخشي أن يعود عليك شيء من هذا في نفسك أو معاشك لا فائدة لك ولا لي فيه".
والرأي نفسه يقال عن شاعر العربية الأشهر أبي الطيب المتنبي فإن ما وصل إلينا من شعره أو بصيغة أدق أن ما أوصله إلينا من شعره لا يتجاوز ثلث ما أنشأه من قصائد فقد روي أبو القاسم على بن حمزة البصري صديق المتنبي ومضيفه في بغداد وجامع ديوانه ما يفيد أن الشاعر الكبير خرج من الكوفة وهو في معية الصبا وله ثلاثمائة قصيدة، وعاد إليها بعد ثلاثين سنة وله مئة قصيده ونيف ومعنا ذلك أن الأعمال الشعرية الكاملة للمتنبي تبعا للغة عصرنا لم تصل إلينا" لعل الحديث دفع بنا اضطرارا إلى هذا الاستطراد الذي نأمل أن يكون استطرادا مفيدا"
وبعد هذه الإطاله نكتفي بهذا، لنأتي بالحلقة القادمة إلى تساؤلات الشيخ حول شعره في موضوعات أخرى.

تعليق عبر الفيس بوك