"إنوما إليش.. شفّة على الأرض والأخرى في السماء" للقاصّة منّة الله سامي

الإثم والمقدّس.. إعادة تفكيك الأسطورة

...
...
...

محمد حيّاوي – ناقد وروائي - العراق


قلّما نطالع نصوصًا سرديّة تستلهم الأسطورة وتوظفها في جسد السرد بواسطة تفكيك الفعل الدرامي وإعادة تركيبة بما يتلائم والنص الجديد، من دون أن يفقد النصّ التاريخي بنيته، أقصد لجهة الاحتفاظ بروح اللغة الأصلية والصور والأجواء والإيقاع، وعلى الرغم من اختلاف المصادر والترجمات لتلك الأساطير الساحرة التي وصلتنا بشكل متراكم عبر آلاف السنين، فقد تمكنّت القاصّة المبدعة منّة الله سامي من النجاح على هذا الصعيد في مجموعتها "إنوما إليش.. شفّة على الأرض والأخرى في السماء" الصادرة حديثًا عن دار غراب المصرية للنشر والتوزيع.
فقد حافظت القاصّة في نصوص هذه المجموعة على روح النص الأسطوري بطريقة خلاقة، بما في ذلك أسماء الآلهة والأماكن والأحداث، بل حتى تركيبة الجملة التاريخية القديمة كما وردت في المصادر والألواح من حيث تأخير الأفعال وتقديم الأسماء والموصوفات، (الغبار الكوني الكثيف ينقشع عن مياه أزلية هائجة، "يمّو".. بكلمة منها تستحيل إلى كيان ضخم، "شمتم".. سرعان ما ينشقّ عن سماء "شاميم" وطمي "أدمة".. يتلاقحان.. تولد الآلهة: "إيل"، "عمورو"، "بيتبل"، "داجون"، "أطلس"، "عشيرة"، "عشتارة"، "ريا"، "بعلتيس"، "أنوبرت")، أو (يضطجع "إيل" عند منبع النهرين قرب مصدر المحيطين "شمتم".. يصطفى "عشيرة" ليهبها ذرية إلهية مجيدة.)  
في الواقع لا يقتصر الخلق في هذه النصوص على تلك الدقة والموائمة بين بنية الأسطورة كنصّ تاريخي وبنية السرد الحديث، بل يتجاوزه إلى وصف الأحداث ومحاولة إعادة تركيبها وعصرنتها، لتبدو كما لو كانت حدثًا معاصرًا وموصوفًا بلغة جديدة ومتماسكة. لنتأمّل هذا المقطع من نص "شبق" على سبيل المثال: (اقترب قليلًا حتى أطلعك على سر خطير.. يقف أمامها في وقار حذر.. تشدّه من ذراعه اليسرى.. تطبق بشفتيها على فمه في جوع.. في نهم.. تمد كفها الأيسر لتقبض على جمرته التي اشتعلت من فورها بأتون من نار.. كل خلية في جسدها تستيقظ بعد سبات طويل.. وتتشبث بجسده في عنف.)، إن هذه الصورة الناتجة عن تداخل الأسطوري مع النص الحديث من شانها الإمساك بتلابيب القارئ واستدراجه لمواصلة القراءة بلهفة وفضول كما يحدث في النصوص الجديدة التي تعتمد تكنيكًا مبتكرًا على صعيد الفعل السردي. (وفجأة ينتفض إله الطقس.. ينتزع جسده من بين نيرانها المشتعلة.. "اتركيني".. يقولها في حدة ولا تزال ضربات قلبه تضطرب في صدره الذي ألهبته الغريزة المحمومة.
"أيها الملعون.. أترفض حبي؟! أضع جسدي بين ذراعيك وتلقي بي كفضلات الطعام؟.. سألقنك درسًا لن تنساه".) من هذا النص أعلاه ندرك قدرة الكاتبة على مسرحة الأحداث والوقائع الأسطورية وترتيب الحوارات من أجل ضمان المزيد من الإبهار والتأثير على مخيلة القارئ وتحفيزها على تجسيد الصور والمشاركة بصنعها.

الجنس والمقدّس:
تشتغل القاصّة على قضية مهمة للغاية طالما أهملتها النصوص الحديثة، سواء كانت إبداعية أو تاريخية، ألا وهي موضوعة الجنس المقدّس الذي طالما مثّل المحرّك الخفّي للصراعات المقدّسة، او تلك المتداخلة بين الأسطورة والواقع أو بين الآلهة والبشر، وهو الأمر الذي يضفي بدوره السمة السحرية لتلك النصوص، وهذا المحور وحدة يلزمه دراسة كاملة من وجهة نظري، لتسليط الضوء على هذا الجانب المهم الذي طالما أُغفل أو جرى تغافله، على الرغم من أهميته المحوريّة، وعلى هذا الصعيد التقطت الكاتبة نصوصًا غاية في الروعة والتصعيد الدرامي والجرأة، نصوص يرتبط الجنس فيها بالانتقام والرغبة بالتشفي وإذلال الخصوم فتتحول، كما ذكرت، إلى محرّك حقيقي لفحوى تلك الأساطير، خصوصًا عندما ندرك بأنّ الخصوم وأطراف الصراع هنا في الغالب من الآلهة المقدسة أو أنصاف الآلهة.
(مولاي وإلهي "إيل عليون".. أتصبب عرقًا ولا أعرف كيف أبدأ حديثي؟.. يا للعار.. الإلهة "عشيرة" راودتني عن نفسي في مخدعها.. ولكني أبيت أن أكون من الخائنين.) أو (يبتلع "إيل" الصدمة.. لا يظهر على محياه أثر النبأ.. بل يربّت على ظهر "تيشوب" قائلًا: "أريد منك أن تستجيب لرغبتها.. أن تروي ظمأها.. اجعلها عبدة لجسدك القوي حتى تمتلك أمرها.. ثم انقلب عليها واحرمها لقياك.. تجدها ذليلة خاسرة.)، أو هذا المقطع من نص "شقائق النعمان": (عندما يقترب منها تكاد "مورها" تقفز من المخدع.. ترتعش.. تنهمر الدموع ساخنة.. وعندما تشعر بشفتيه على جلدها تذيب حرارتهما ما تبقى من مقاومتها السابقة.. فتنهل من فورة جسده وتثمل من دون خمر.)


الكون الفسيح مكانًا:
تتخذ نصوص إنوما إيلش" من الكون المفتوح كلّه مكانًا لأحداثها، فليس ثمّة مكان محدّد يمكن أن يشكّل منصة واقعية يستند إليها السرد، طالما أن العمل كلّه مُداف مع الأساطير، وهو الأمر الذي منح القاصّة فضاءً شاسعًا لاستخدام الخيال، فمن أقصى الكون إلى أقصاه، تتخاطف الرسل وتتناقل أخبار الصراعات ويعتمل الغضب في نفوس الآلهة. لنتأمّل هذا المقطع من نص "شفة": (نحو جبل "صافون" يطير الرسولان.. يبلغا "بعل" بالأهوال في "همري".. مولاي.. الإله "موت" غاضب.. فكاه عطشى لدماء جديدة.. شفّة على الأرض والأخرى في السماء.. ولسانه يصل إلى الكواكب.)
ومن منظور آخر نرى الكون المفتوح مكانًا للضغينة (عندما تعود الحياة إلى "بعل".. فيرى إخوته يتقاسمون ملكه.. "فـ" يعمل فيهم سيفه.. "و" يقتص لخيانتهم.. ثم يستوي على عرشه.. وتسترد الأرض لونها الأخضر.. ويتراقص العباد تحت المطر المنهمر الذي يملأ ما جفّ من روافد الأنهار.)

الإثم كفعل إلهي
المدهش في نصوص "إنوما إيلش" قدرتها على سبر أسرار الأسطورة وتجريدها من غلاف الحياء أو العفّة التي حاول الكثير من المؤرخين ومترجمي النصوص القديمة إضفائها عليها، إما بدافع العقلنة أو بسبب الوازع الديني والتربوي الذي تسبب في الكثير من الأحيان في تجريدها  من قدرتها الساحقة على تجسيد الخيال الخلاق، لكن للنصّ الإبداعي القدرة على التقاطها بحذاقة وإعادة تقديمها بطريقة آسرة، غير عابئ بأيّة حدود أو عقلنة، فكاتب الأسطورة القديم أو مجسدها أو واصفها وناقلها لا فرق، لم يكن يدرك، آنذاك، مفهوم الأخلاقيات والمثالية التي تكبّل متعاطي النصوص المعاصرة، كما أن إخراج تلك الأساطير من مناخها وزمانها الافتراضي ومحاولة عقلنتها، سيفسد أو يبدد معجزاتها الخيالية، لهذا انطلقت الكاتبة في عالم تلك الأساطير مخلصة لعذريتها ومجردة من أيّة مفاهيم معاصرة من شانها أن تعيقها أو تحدّ من قدرتها على تفكيك تلك الأساطير وإعادة تركيبها بما يتناسب ورؤيتها، وظلت وفية للمصادر والترجمات على هذا الصعيد، لتقدّم لنا، من بين ما تقدّم، تحليلاً واعيًا لقضية ما يمكن أن نسميه "الإثم الإلهي" الذي لا يختلف عن مفهوم الإثم المطلق اوالمتعارف عليه في زماننا، لكنّه إثم فاعل على صعيد متانة السرد وتماسكه وتقديم الصور الصادمة والمحفزة للمخيّلة في آن واحد. لنتأمل هذا المجتزأ من نص "شقائق النعمان" السابق ذكرة والذي حرصت الكاتبة على تقديمه بمجتزأ من سفر التكوين عن حكاية لوط وابنتيه: (ترى الجارية ذبول "مورها".. فهي ترفض الطعام.. وتترك الخطيئة تقتات على جسدها الضامر.. قلبها لم يعد يقوى على مقاومة الحب الآثم.. بينما تدفعها اللعنة إلى أحضان والدها كل ليلة بلا هوادة.). ويعود أصل الحكاية إلى سخرية "مورها" من الآلهة "فينوس"، فتأمر الأخيرة "كيوبيد" إله الحب والعشق، بأن يلقّن "مورها" درسًا قاسيًا (صوّب سهام حبّك القاطعة إلى قلبها، ولتغرس حبّ والدها في قلبها دون سائر الرجال)، فيتحير "كيوبيد" من أمر مولاته الغريب أوّل الأمر، لكنّه يرضخ في النهاية وينفذ ما أمرته به، فتبدأ معاناة "مورها" من هذا الفعل المشين واضحة حارقة حين تخاطب جاريتها: (لا أعرف ماذا دهاني.. أريده بشدّة.. لا ترسلي له نساءً أخريات.) فتستبدل الجارية، نزولاً عند رغبة مولاتها الحارقة تلك، المحظية وتبرقع بدلها "مورها" بوشاح وتدخلها على ابيها.


على حافّة الأسطورة.. عند أعتاب الحلم
تتوالى النصوص السحر ـ أسطورية إن جاز التعبير في هذه  المجموعة التي قُسمت إلى ثلاثة أقسام هي عوالم وكنعان وبابل، لتحاول الكاتبة بواسطتها، كما ذكرت في تقديمي للكتاب، الغوص عميقًا في نفس المرأة المتوحدة والمستلبة التي تصنع من عزلتها ووحدتها وانهزامها عالماً تحفه الأحلام المجنّحة والصور الآسرة، وهي تتعرى مانحة جسدها المقدّس للبحر الذي تعبر من بوابته الشاسعة إلى عالم طفولتها العذري.. "ليتها سمكة تقفز بين الأمواج المتلاحقة.. سابحة إلى آفاق جديدة.. ذاكرتها لا تحمل أكثر من بضع دقائق ثم تتفتت إلى أحاجي ملونة بالرمادي وقوس قزح".. أو  " ترنو إلى شمس تسكب أشعتها احمرارًا وهي تُذبح في الأفق في بلاد بعيدة.. تشاهدهم يستقلون الزورق المتهالك.. تختلط دموعهم بالمياه الهادئة"..
لقد نجحت القاصّة في إعادة قراءة النصوص المقدّسة وربطها بما سبقها من أساطير منفلته وممتدة على مساحة شاسعة من تخوم الخيال، بعد أن تماهى فيها المكان مع الزمان الموغل في عمق التاريخ، لتنتج لنا حكائية سردية مستندة إلى جذور الأساطير الفرعونية والسومرية والبابلية والأكادية، وهي عبر هذا كله لم تعبأ بالأطر العقلانية التي وضعها البشر في عقولهم المحدودة ما بعد الأسطورة، منتصرة لأبطالها وبطلاتها مانحة الحرية لأفكارهم ورغباتهم وطموحاتهم في تجسيدٍ قل نظيره في القَص المعاصر.
هذه النصوص باختصار تقترح تأويلاً مغايرًا لما وصلنا من أساطير الأولين، تأويل جرئ ومخلص لمناخات تلك الحكايا التي تبدو كما لو كنا نطلع عليها لأوّل مرّة، بعد أن نجحت الكاتبة في صقل شخصياتها، لا سيّما النسائية منها، وقدّمتها للقارئ المعاصر عارية تمامًا إلّا من حقيقتها الذاتية واعتمالاتها النفسية. وكي تذكّرنا القاصّة دائمًا بأنّ بحثها ذا الأبعاد الأسطورية يستند إلى جذور تلك الأساطير ومنابتها في الذاكرة البشرية البكر، حرصت على تأطيرها بما يناسبها من إحالات نصيّة مقدّسة أو أسطورية أصلية كما وردت في أصولها وترجماتها، فكانت النتيجة تلاقحاً مخيّلاتياً فذّاً ينتزع القارئ انتزاعاً من خموله ويلقي به في مهاوي الصراع واضطرام الأطماع والحيل السماوية وتقلبات أمزجة الآلهة ـ المرأة ومكرها وقدرتها على تجسيد الحُبّ ولوعته والكراهية وعماها.
وفي المحصلة فأن هذه النصوص تفتح لنا نوافذ الأحلام بكل ما للكلمة من معنى، أقصد الأحلام التي نثرتها من خلف ستائر السرد، فما أن نوشك على التمتّع بها حتّى تسدل الكاتبة عليها أستار النهايات، في دوامة تركتنا ضائعين في لجتها، على حواف الدهشة، أو على حواف الارتواء، لكن لا ارتواء يأتي في الحقيقة مهما أوغلنا في القراءة.. لا شيء سوى اللهفة للمواصلة حتى نُصدم في النهاية من دون أن نرتوي، كما لو كان حلماً أو كابوساً مخدراً نتمنى أن لا ينتهي، لكن لكل حلم نهاية، ولكل إيغال في المخيلة عودة للواقع الفادح حيث نقف وجهاً لوجه أمام انعكاس وجوهنا في المرايا وهي تدلق لنا لسانها وتتساءل، ماذا اعتقدتم؟.. أبدية الأحلام مستحيلة لمثلكم، فقد خلقكم الله على حافّة العطش والارتواء، وعلى حافّة الجوع والشبع، تماماً كما خلقكم على حافّة الحلم والكابوس.
 

 

تعليق عبر الفيس بوك