أدب الحرب وسمات التجديد الشعري

"السابعة حـ(ــر) بًا بتوقيت دمشق" (6)

د. السيد العيسوي عبد العزيز – ناقد وأكاديميّ مصريّ


مدير النشاط الثقافي بمتحف أمير الشعراء أحمد شوقي

في الحلقة السابقة/الخامسة من القراءة الكاشفة لديوان الشاعر السوري عمر هزاع "السابعة حـ(ــر) بًا بتوقيت دمشق" قلنا إنّ في أدب الحرب، وفي حياة المنفى، تعبر بعض اللقطات عن فلسفة الحياة الغاربة، وتبدو الحياة كقطعة غروب مستمرة، حيث يأخذ الوطن والذكريات موطن الشمس الغاربة باستمرار، ويأخذ الجانب الآخر من الحياة مشهد الظلام، والنور العابر، واللقطة المختفية. هذا ما عبر عنه الشاعر بصدق وعمق في نص يبدو –ظاهريًّا- غزليًا، ولكنه يمكن أن  يخضع لقراءة تأويلية على نحو ما.
وكان من الطبيعي ألا تنفصل قصائد ديوان السوري عمر هزاع عن الهم العربي ولا معجمها عن الاصطلاحات السياسية:
أَنا مُنذُ عامِ النَّكبَةِ الأُولَى
وَمُنذُ النَّكسَةِ الأُولَى
أَلُوكُ الشِّعرَ
مِن تِسعِينَ جُرحًا
مُنذُ عَهدِ الثَّورَةِ الكُبرَى
مُرُورًا بِاتِّفاقِيَّاتِ "كَلِمَنصُو"
وَ"كامَبْ - دِيفِيدْ"
و"شَرمِ الشَّيخِ" - "خارِطَةِ الطَّرِيقِ"
وَمُنذُ مُصطَلَحِ التَّوَحُّدِ وَالتَّحَرُّرِ وَالشِّعاراتِ التِي صارَتْ دُعابَةْ
أَنا مُنذُ ذاكَ الوَقتِ مَسكُونٌ بِأَوجاعِ الكِتابَةْ
وَاليَومَ أَعتَزِلُ الكِتابَةْ
وهي لغة تذكرنا بلغات الثوريين الساخرين من أمثال سميح القاسم وأحمد مطر وغيرهما، إيقاعا، وانخطافًا، وسخرية. وكل هذا يضفي الحيوية على النص الشعري ويجعله قريبا من واقعه، وعصريًا بدرجة ما، ومن ثم يعبر عن رصيد حياة المتلقي في النص، خلاف بعض النصوص المنغلقة على ذاتها وذات أصحابها، وكأنها تنتمي إلى بيئة أخرى، أو تُكتَب ظلًّا لبيئات ليست بيئتنا.
ويبلغ تفجر النص في نهايته على هذا النحو:
يا أُمَّةٌ...
ثارَتْ جَحافِلُها, وَما قَتَلَتْ ذُبابَةْ.
ليتحقق فيه كل ما سبق، وأكثر، وهو أمر يدل على سمة مميزة في شعر عمر هزاع، ألا وهي الانتهاء بأبيات قوية عادة، ذات شاعرية عالية، كما هو الأمر في المطلع، محققا قيمة بلاغية ستظل تصاحب القصيدة في كل مراحلها، ألا وهي حسن المطلع والختام.
والديوان هو –في مجمله- نداء حنين لا يكف عن استدعاء المواضع الأولى التي نشأ فيها الشاعر المرسومة في أنصع مناطق الذاكرة ، ومن ذلك "دير الزور" مسقط رأسه:
ذِكرى
وَمَقبَرَةٌ هُناكَ بَعيدَةٌ
وَمَدافِعٌ دَوَّتْ عَلى حِيطانِها
كَيفَ السَّبيلُ إِلى زِيارَتِها؟ إِذا أَلقَتْ قَذائِفَها عَلى سُكَّانِها!
وَحَرائِقٌ شَبَّتْ؛ بِدَيرِ الزَّورِ؛ قَد صَبَّتْ بِأَحشائِي لَظَى نِيرانِها
فالمدينة تحترق، بينما هو يحترق بدلا منها، حتى تفوح من كلماته وجسده رائحة الدخان عبر معجم شعري متفجر بأدخنة الحرب. وحالة التمزق هذه والاحتراق والموت المتكرر تستدعي من الشاعر تركيبات ومعاني عجيبة:
أَنهَكتَني يا مَوتَها
وَقَتَلتَني
وَتَرَكتَني نَسيًا بِلا نِسيانِها
فَشَكَوتُ لِلنَّاسِ اتِّهامِي أَنَّني قَتَّالُها
وَمُقَتَّلٌ
بِذَهانِها
إِمَّا بِتِيهِ الدَّمعِ خارَتْ مُقلَتي
أَتبَعتُ إِنساني خُطَى إِنسانِها
وَفَتَقتُ جُرحي لِلوَرى مَرثِيَّةً
وَشَخَبتُهُ نَزفًا عَلى آذانِها
أُمِّي هُناكَ
وَأُمِّيَ الأُخرى هُنا
تَحتَ الشَّغافِ تَنامُ في أَوطانِها
ولنركز على تعبيرين فريدين، الأول:
إِمَّا بِتِيهِ الدَّمعِ خارَتْ مُقلَتي
أَتبَعتُ إِنساني خُطَا إِنسانِها
هل صورة الشاعر في المنفى ما زالت تتبع إنسانها في موطنها، وكأنها لم تفارقه، إلا جسدًا، أم الإنسان السجين في دير الزور (إنسان عمر هزاع)، يتبع خطاه في الغربة باحثا عنه من حيث هو ظل لا حقيقة، فالحقيقة قابعة هناك؟ أم أن المدينة المحطمة تحولت إلى إنسان محطم يسير ويعرج ويتبعه الشاعر دون أن يفارقه؟ على أية حال هي صورة تذكرنا بعالم الذر، لكأن دير الزور؛ موطنه؛ هو جنته الأولى التي فارقها، لكنه ما زال يقبع هناك، فيها..
وهكذا ولدت حالة الحرب والانخراط في تداعياتها والشعور الوطني المصاحب هذه الحالة النفسية الغريبة: صورة الإنسان والظل، دون معرفة الأصل من الصورة.
والحق أن هذه الثنائية الإنسانية، أو فكرة الإنسان الأصل والإنسان الظل أو الإنسان الصوت والإنسان الصدى هي تيمة تسيطر على أعمال الشاعر، وتبزغ في أكثر من عمل متميز معبرة عن كون خاص من المشاعر طارحة دلالات عميقة في الرؤية الشعرية التي قد تعني التمزق أو تشكو الازداجية أو تخشى تلون الحياة، أو تعاني من الفجيعة الكبرى: الوطن الأم والوطن الغربة.
وإذا عدنا إلى النص سنجد صورة ثانية تعضد كل هذا، كما لو كانت مثالا آخر على نفس السمة، يقول:
أُمِّي هُناكَ
وَأُمِّيَ الأُخرى هُنا
تَحتَ الشَّغافِ تَنامُ في أَوطانِها
فالأم هي المدينة وهي الأم المنجبة، ولكن هنا نوع من التداخل يجعل الشاعر ينعم بالأمومة ويفتقدها معا، لأن الأم تهرب للموطن الأول، ولا يكاد يجدها الشاعر.
هكذا يولد أدب الحرب هذا المعجم الجديد من حيث التركيب، وهذه المعاني الفريدة. وهذه الزلازل التي تجعل الشاعر يفتقد الرؤية المركزة، ويبدو كما لو كانت عيونه مصابة باضطراب في الرؤية ليرى الأشياء مزدوجة مضطربة، ولا يكاد يفيق.
ومن نصوص الشاعر البديعة (برقية مستعجلة لقمة عربية)، التي قد تجمع كثيرًا من السمات السابقة في الديوان على اختلاف الدرجة رغم قصرها، لذا يحسن أن نقف أمامها تفصيلا لنختم بها هذه الدراسة، وهو يصدرها بقوله:
(في رثاء القمة العربية المستعجلة حول أطفال الغارات الكيماوية)
ثم تسير على هذا النحو:
ماذا يُقالُ؟
وَهَذا الصَّمتُ تِمثالُ!
وَالقاتِلُ الأَزَلِيُّ: (العَرشُ وَالمالُ)
لِلمَوتِ أَبجَدَةُ الأَحزانِ
تَنقُشُها "ياءُ" السِّيادَةِ
- يا اللَّهُ -
وَ"الدَّالُ"
يا سادَةَ العَصرِ
هَذا الجُرحُ قانِيَةٌ شُمُوسُهُ
وَضِمادُ الجُرحِ غِربالُ
أَكُلُّكُم لِدُمُوعِ الشَّامِ نائِحَةٌ؟!
وَمُطرِبٌ لِنَشِيدِ الحَربِ؟!
طَبَّالُ؟!
أَكُلَّما أَدخَلُونا فِي "تَفاعُلِهِم"
لِلكِيمِياءِ: (أَهازِيجٌ؟! وَمَوَّالُ؟!)
أَكُلَّما راوَدُونا عَن تَفاهَتِنا؟
مَشَى عَلى شَفَراتِ المَوتِ أَطفالُ!
القصيدة تعادل جرحًا نازفًا، وتعبر عن طعنة في ظهر الوطن، وهي تفتتح بمطلع يمثل أعلى درجات البلاغة:
ماذا يُقالُ؟
وَهَذا الصَّمتُ تِمثالُ!
فقد لخص المطلع كل ما يمكن أن يقال عن الواقع العربي الساكن إزاء بعض القضايا في هذا القطر أو ذاك.. عبرت الصورة عن حركة الفعل العربي الساكنة في الزمان والمكان، بل إن الصورة لتعطي معاني بعيدة عن طريق التداعي، لكأن الصمت صار يُعبَد، ويُقدَّس، ويصبح هو الدين...
وفي الجانب الآخر يلخص الشاعر –وفق رؤيته- سبب الأزمة:
وَالقاتِلُ الأَزَلِيُّ: (العَرشُ وَالمالُ)
فكأنه يقول: "حب الدنيا رأس كل خطيئة" كما ورد في الأثر، أو ما ورد في ختام حديث غثاء السيل المعروف: "حب الدنيا وكراهية الموت"
وهكذا تقدم القصيدة بلاغة الإيجاز، وتحقق نوعًا من الصدمة.

 

تعليق عبر الفيس بوك