أيّام في الهند

د. يوسف حطّيني

 

تلقينا دعوة كريمة من قسم اللغة العربية في جامعة كيرلا الهندية للمشاركة في مؤتمر حول مناهج تدريس اللغة العربية، بعد أن قدّمنا ملخصات وبحوثاً، وأوراقاً رسمية تقتضيها المشاركة في هذا النوع من المؤتمرات.. وها نحن نحزم أمتعنتنا ونصل أخيراً إلى طائرة الخطوط الجوّية الهندية في مطار الشارقة.. أقول: "أخيراً" لأنّ دون الوصول تدخّلات متعدّدة من متبرعين، و"فاعلي خير"، تؤكّد لنا أنّ هذه ليست طائرتنا الصحيحة، ذلك أننا لم نأخذ طيران الاتحاد أو الإماراتية، بل كان لدينا إصرار على أن نعيش اللحظة (كما يقول صديقي د. أحمد عفيفي). وبينما كنا على وشك دخول الطائرة، قبل البوابة الأخيرة التي تسبقها، حدّثني رفيق رحلتي الجميل، حول ما يجري، فسمعته امرأة مصرية تجلس على الأرض مع بناتها (وكانت على ما يبدو مبكّرة على موعد طائرتها)، فحملت حقائبها بسرعة والتزمت الصف معنا، قبل أن يخبرها "أبو سهيل" أنّ هذه الطائرة ليست ذاهية إلى القاهرة.
أربع ساعات، جعلها الدكتور أحمد دقائق قصيرة بحلاوة حديثه، وخفة دمه، واستطراداته المثيرة، نزلنا بعدها إلى مطار تريفندرام في كيرلا، وعلمنا فيما بعد أن اسمه (ثيروفانانثابورام)، فعرفنا أنّ الهنود كانوا يسهلون علينا؛ لأنهم يدركون أنّنا غير قادرين عى ترقيص لساننا بالراء التي طالما تغنت بها أفواههم، وقسنا على ذلك كثيرا من أسماء الأمكنة في مناطق أخرى.
وإذا كان الحظ قد ابتسم لنا حين حفظنا كلمة سهلة (مثل نانّي التي تعني شكراً) فقد كان علينا ألا نغترّ بثقافتنا اللغوية؛ لأننا حالما ابتعدنا عن موقعنا قليلاً، وقلنا لمن قدّم لك كأس الشاي (نانّي)، فغر فاه مندهشاً ولم يفهم علينا، لأننا انتقلت من بيئة لغوية إلى أخرى، وصار علينا أن نحفظ كلمة جديدة هي "شكريا".
ها هي ذي الهند العظيمة: مجتمع ساحر أليف متآلف، تتعدّد فيه اللغات، حتى ليصدق عليه قول المتنبي: "تجمّعُ فيهِ كلّ لِسْنٍ وأمّةٍ .. فما تفهمُ الحدّاثَ إلا التراجمُ".. ومثلما تتعدد اللغات، تتعدد الأعراف والأزياء والطوائف والأديان الوضعية والسماوية: الهندوسية والبوذية والجاينية والسيخية، والإسلام، والمسيحية وغيرها.... فسيفساء متنوعة تراها وتلمسها لمس اليد في دولة تمتدّ على مساحة قارّية، ويربو عدد سكانها على مليار وربع المليار.
ثمانية وعشرون ولاية، تمتد على تلك المساحة الشاسعة، كان نصينا أن تصافح عيوننا منها لدى الوصول ولاية كيرلا التي تشكّل البيئة الثقافية المعرفية العليا في الهند؛ إذ يبلغ التعليم والإقبال على القراءة نسبة تتعدى 90%، وذلك قبل أن ننتقل إلى دلهي.
استبقنا بدء المؤتمر برحلات قصيرة كانت إلى بعض الأوابد والمعابد، وتعلمنا من الهنود كيف يكون الإخاء، وكيف يكون الاجتماع تحت راية واحدة؛ وإذ تصادف وجودنا مع مناسبة يحتفل فيها الحزب الشيوعي الحاكم في كيرلا امتلأت الشوارع بالرايات الحمراء والقمصان الحمراء، وعلّق أحد زملائنا من المسلمين الهنود: إننا نختلف معهم كثيراً، ولكنهم أغلبية جاءت بالانتخابات.
الشوارع تخبرنا عن الفقر، والأحياء تخبرنا عن ضعف البنية التحتية، والناس يعملون ويسترزقون ويتعبّدون ويضحكون في وجه الغريب، والطبيعة تقول: انتبه أنت في كيرالا؛ حيث القنوات المائية والغابات الاستوائية والجبال الملتفة بالأشجار، وحيث كوماريكوم التي أخذتني مع صديقي د. أحمد في رحلة بحرية من العمر، على متن (سفينة فندقية ـ يخت ـ سمّها ما شئت)، وجدنا فيها كل وسائل الراحة: صالة وغرفتا نوم ومطبخ وطعام وشراب ومناظر تأسر الألباب: تأكل البرياني والسمك وتشرب الشاي وشراب جوز الهند، وتراقب طيور الماء والعصافير التي تقف على الأغصان الطافية، وتنزل في محطة قريبة ليقابلك بائعو السمك والجمبري، وعارضو خدمات المساج، كل ذلك في رحلة تؤكد جمال الطبيعة وسحر البحر وطيبة الهنود الذين يستزرقون ويحصلون لقمة العيش بكل وسيلة ممكنة.
في المؤتمر قابلنا الدكتور تاج الدين المناني رئيس قسم اللغة العربية في جامعة كيرلا، ونائبه الأستاذ نوشاد فالاد الذي كان منسّقاً بارعاً للأنشطة والندوات، ورأينا في الرجلين ما يرى الأخ في أخيه والصديق في صديقه والظمآن في قطرة الماء.. قابلنا أيضاً باحثين هنوداً من طراز رفيع وعلى رأسهم الأستاذ الدكتور محمد أسلم إصلاحي، وشهد المؤتمر حضور وزراء وأساتذةٍ جامعيين من أقسام اللغة العربية في جامعات مختلفة (من جامعة كالكوت وجامعة جواهر لال نهرو)، وطلابٍ يدرسون اللغة العربية، وشعرنا بمدى الاحترام والتقدير الذي يحملونه لهذه اللغة، فهي لغة أهل الجنة، ولغة الحشر والنشر، كما قالت (حليمة زوجة صديقنا نوفل) في وقت لاحق.
وفي المؤتمر تعرفنا إلى باحثين وباحثات من مختلف أرجاء وطننا العربي الكبير، وتعرفنا إلى رؤى ثقافية وفكرية جديرة بالاحترام، رأينا الأديب الأريب، والمفكر الألمعي والناقدة المتحمسة للعروبة، والباحث المتحمس لتطبيقات المنصات الإلكترونية الحديثة على اللغة العربية، وقدّمنا ما لدينا (تجربة جامعة الإمارات في تعليم العربية للناطقين بغيرها).
بعد انتهاء أعمال المؤتمر ودعنا (تريفندرام) إلى (دلهي) وتعرفت مع صديقي د. أحمد إلى دلهي القديمة ودلهي الجديدة، قبل أن ننطلق إلى آغرا حيث "تاج محل" والقلعة الحمراء؛ لنعود مرة أخرى إلى دلهي؛ حيث الجامع الكبير وقبر غاندي وحديقة البهائيين وبوابة الهند وقطب مينار، ممتلئين بمشاعر الرهبة والعظمة والإجلال والحيرة:
هل هؤلاء الفقراء الهنود هم الذين بنوا هذه الأوابد الشامخة؟
هل كان لديهم وما زال كل تلك المقدرة على العشق؟
عندما رأينا تاج محل تذكّرنا قصص العشق في تاريخنا.. عشنا لحظات خالدة مع قيس وليلى وعروة وعفراء وجميل وبثينة، ورأينا كيف تبنى قصائد العشق من الكلمات.. أما أن تبنى هذه القصائد من الحجر فهذا ما لا يحدث إلا في الهند.
أيام لا تنسى في كيرالا ودلهي، تملأ النفس بالمهابة والإجلال.
ثمة جراح تملأ القلب بين لحظة وأخرى بسبب خيبة هنا وأخرى هناك: كأن تصدمك في المؤتمر ألسنة عربية تتحدث اللهجات العامية التي لا يفهمها الهنود، أو كأن تصدمك مظاهر الفقر المدقع والتسول، في دولة نووية ذات قوة اقتصادية لا يستهان بها، أو كأن تتذكر (حين تلمسُ وحدة الأمة الهندية) أنّك تعيش في أمة متفرقة يجمعها لسان واحد وتاريخ واحد، أو كأن يجرحك حسن ظنّك في شخص ما.
من حسن طالعي أن الدكتور أحمد عفيفي كان إلى جانبي دائماً؛ ليزيل عني كدر الخيبات الطارئة بجمال اللحظة الحاضرة. وفي حسابات الربح والخاسرة ربحت الكثير جداً في هذه الزيارة: ربحت اتحاداً وانسجاماً مع المكان قلّ أن تعيشه النفس البشرية، وربحت أصدقاء لا يمكن أن يمروا في ساحة الذاكرة مرور الكرام.

تعليق عبر الفيس بوك