مدينة "مطرح" في ثلاث قصص عُمانية معاصرة (2-3)

د. إحسان اللواتي – جامعة السلطان قابوس


ثمة تأثير لمدينة "مطرح" في إيقاع الحدث معنى آخر ، هو أنَّ انصراف القاص إلى وصف المكان " يفترض دائماً توقفاً زمنياً لسيرورة الحدث ، لهذا يلتقي وصف المكان مع الانقطاع الزمني " (13) 0 فالحـدث يمضي هادئاً حتى يكاد يتوقف – في " قناديل مطرح "-  حين يعتني القاص بوصف المكان :
" يصنع تمثالاً ضخماً بظل قامته المغروزة في شواطئ مطرح 0 يقعد معه ذلك الذي يتأجج في أعماقه 0 يلتصق به كجلده ، فيتقاذف قدامه الزبد الذي يحمل الصرخات الآتية من الأعماق0 يرقب بلهفة موج البحر والامتداد 0 تتناثر الأسمــاك بكثرة على الشاطئ كجثث جنود خلفوا إثر معركة بحرية طاحنة " (14)0
بيد أن وتيرة الحدث تتصاعد وتقوى حين يصب القاص اهتمامه على ما يجري لا على المكان :
" ذاك هو الآن يتأهب لعودة خاوية ، يتقدم قطيعاً من الأحزان 0 وقبل أن يهم بركوب صهوة الرحيل ، حين كان يزف أحزانه المرة ويتكئ على صخرة شاهقة أمام البحر ، داهمه صوت ضعيف محشرج ، يخرج مخنوقاً بحدة : يا ناس ، يا ناس قوموا ، هذي حبيبتكم " (15) 0

والأمر يبدو أوضح لدى يونس الأخزمي في قصته الأخرى " يوم صمت في مطرح " ، فاهتمامه الواضح  بوصف جزيئات مشاهدات السارد في مطرح يترافق مع بطء إيقاع الحدث وتوقفه تماماً أحياناً 0 يقول مثلاً :
" كانت المحلات التي اعتادت فتح أبوابها مع صلاة الفجر مغلقة ، المخبز اللبناني لا تنبعث منه رائحة رغيف كالعادة ، ودكان الحاج علي بائع المرطبات وعصير البرتقال الطازج والخضراوات بدا ساكناً هامداً 0 مصطبة العجوز مياء بائعة الحمص والفول خالية ، حيث اعتدت على شرب شاي الحليب الساخن وتناول رغيف مملوء بالفول تارة وبالجبن تارة أخرى قبل توجهي للعمل كل صباح " (16) 0
ويختلف الحال كثيراً في مقطع آخر من القصة ، عندما تتسارع الأحداث وتتعاقب متتالية غير تاركة مجالاً أمام القاص ليسهب في أوصافه المكانية :
" برحت سوق الظلام ، وولجت سككاً ضيقة ، واكتشفت – وأصواتهم القميئة تبتعد تدريجياً- أنني أملك ساقين سريعتين " (17) 0

ومثل هذا ما يمكن أن يقال عن " بوابات المدينة " أيضاً ، فحين يغيب وصف المكان يتسارع إيقاع الحدث :
" شيخ القبيلة أمر بالثأر لأن شاة أحد رعاياه قتلت يوم أمس 0 ثلاث رصاصات تمرق في الهواء باحثة عن جسد آدمي تكتب النهاية على حوافه 0 أخطأته الرصاصات إلا من جرح يجري به في الوادي المحاذي للقرية البائسة " (18) 0
ويحدث العكس لإيقاع الحدث الأصلي للقصة عندما يميل القاص إلى التأمل في بعض جماليات المكان :
" مطرح00 إذن هذه هي المدينة تستقبل القادمين بصور ساحلها القديم وساحلها المزدان بمراكب الصيد وسفن التجار ، بقلعتها التي تطل بكبرياء العاشق للبحر وللنوارس تحوم حول مركب البوم وذلك السنبوق الآتي من صور العفية " (19) 0
القضية هنا إذن هي أنَّ الحرص على وصف مظاهر الجمال أو القبح في أي مكان من الأمكنة يجب أن يرافقه حرص آخر على مدى اتساق سرعة إيقاع الحدث مع ما يقتضيه المقام ، وهذا ما لربما يغفل عنه بعض الكتّاب الذين يطمحون إلى أن تكون قصصهم ذات صبغة شعرية ، ويقودهم طموحهم هذا- على الرغم من وجاهته في حد ذاته- إلى تناسي السرد وخط سير الأحداث ، والوقوع في إسار جاذبية الوصف ورسم الصور الفنية البديعة المتتابعة 0

2- إبراز مكنونات الشخصيات :
  من الحقائق الأدبية التي لا يتطرق إليها شك أنَّ المكان " سواء أكان واقعياً أم خالياً يبدو مرتبطاً بل مندمجاً بالشخصيات " (20)0 فالشخصيات تحيا في المكان ، وغالباً ما تربطها به وشائج وصلات تتصل بذاكرتها ، وتؤثر في حاضرها ، وتسعى إلى رسم ملامح مستقبلها0
وبدهي بعد هذا ألاّ يكون المكان محايداً معزولاً عن كل المكنونات  الرؤيوية والعاطفية للشخصيات ، فهو مؤثر فيها ومتأثر بها، وهو أداة مهمة بيد الأديب لإبرازها للقارئ بنحو تعبيري مؤثر ، ففي وسع الأديب " أن يحّول عنصر المكان إلى أداة للتعبير عن موقف الأبطال من العالم  "  (21)0
الشعور الغالب على السارد في " قناديل مطرح " هو القلق والتوجس ، وقد انعكس هذا على رؤيته للمكان ، فصار لا يرى من حوله إلا الموات :
" هذه الشوارع الساكنه ، هذه الأجساد المبذورة على الأرصفة ، هذا الشخير0 كلهم ميتون"   (22)0
واللافت للنظر هنا أنَّ هذه النظـرة السوداوية القاتمة أرادها المؤلف أن تكون عارمة شاملة ، لا ينجو منها شيء ، حتى ما كان أثراً تاريخياً مهماً ، كقلعة مطرح:
" مطرح الممتدة حتى الأفق ، المشربة تلالها الصلبة بالأسماء الموشومة كالنجوم ، كالحفريات الناطقة ، كالشموخ0 إيه أيها البرتغاليون ، لماذا حين ارتحلتم ، لم تحطموا كل أدرانكم النتنة في عيوننا؟ "  (23) 0
أحسب المؤلف هنا أراد أن يلجأ إلى طريقة الإدهاش وتغريب المألوف حين جعل قلعة مطرح- إن كانت هي المقصودة فعلاً كما يظهر – من " الأدران النتنة "0 وهذه طريقة لا نملك أن ننكرها عليه ، فلها أهميتها وأثرها في تلقي القارئ وملامسة " أفق التوقع " لديه0 هذا إذا أحسن استعمالها ، وهنا مكمن القضية 0 لقد كان في وسع المؤلف أن يجعل نصه أقرب إلى الموفقية لو أنه حافظ على السواد طاغياً تماماً على كل شيء ، مثلما أراده أن يكون ، دون أن تتخلله منافذ نور أو مواضع إعجاب0 وعندئذ ستكون قلعة مطرح غارقة في ذلك السواد ، كشأن غيرها ، وسيكون هذا أدعى إلى إدهاش القارئ والتأثير فيه0 لكن الملاحظ أنَّ المؤلف لم يستطع أن ينتزع مظاهر الإعجاب والفخر من عيني سارده وهو ينظر إلى ملامح مطرح الأثرية ، فجاءت رؤيته غير متمحضة وغير غارقة في التشاؤم والقلق ، وهذا ربما يكون قد نال من تماسك البنية الشعورية في النص وسبَّب فيها بعض التهافت 0
والنظرة السوداوية الملأى بالألم والتوجس من الموت نجدها مبثوثة أيضاً لدى السارد في " بوابات المدينة "، فمطرح الواقع المرير غير مطرح الأمل المنتظر :
 " وها هي مطرح التي تفاخر بصاغتها تهدي أبي حواجيل  من حديد ، بوزن كل السنين التي عاشها "  (24)0
صحيح أنَّ السارد أحس بشيء من الألفة في بعض المراحل :
  " وحين أفقت كان المثعاب وهو الباب التوأم لدروازة مطرح يوزع شيئاً من الألفة ، الحطابون  يكومون حطب السمر ، وقود البيوتات المطرحية الفقيرة  ، والحمالون يصنعون بقطرات قـرب الماء على ظهورهـم ممرات ذكرتني بظلال سعف نخيل قريتي "  (25)0
لكن هذا لم يكن سوى مرحلة طارئة استثنائية ، يعود بعدها الإحساس بالموت والقتامة ليغلِّف كل شيء ، وليدعو السارد إلى أن يقول عند موت أمه:
" فكلانا ميتان ، الفرق أنها نامت مغمضة العينين ، وأنا نائم بعيون مفتوحة أرقب بوابة كوت مطرح حتى تفتح" (26) 0
إنَّ هذه المرحلية هي التي تجعل هذه القصة في مأمن من المأخذ الذي سبقت ملاحظته في " قناديل مطرح" ، ففرق كبير بين أن تمر الحالة النفسية للشخصية في مراحل متنوعة تتراوح فيها المشاعر وتتفاوت مداً وجزراً، وبين أن تكون اللحظة الواحدة واللوحة المعينة مشوبة بشيء من عدم استواء البنية النفسية والشعورية0
ويُحسب لهاتين القصتين أنَّ المشاعر السوداوية الناقمة إزاء مطرح كانت فيهما وليدة التجربة ذاتها، ولم تكن مقحمة متصنعة بدافع تقليد الأدباء الغربيين في نقمتهم على المدينة – أية مدينة – حين يضيقون ذرعاً بكل ما تمثله من تعقيدات الحضارة الحديثة ، فيصبون عليها لعناتهم ورفضهم0 القصتان إذن في منجى من المأخذ الذي أخذه كثير من الباحثين على الأدباء العرب، والذي يتلخص في أنهم لا يتحدثون عن الغربة والقلق والضياع في المدينة إلاّ لمحاكاة أدباء الغرب (27)0
إذا ولينا وجوهنا بعد هذا شطر القصة الأخيرة " يوم صمت في مطرح" ، وجدنا القضية مختلفة تماماً عما وجدناه في القصتين السالفتين 0فهنا العلاقة مع مطرح علاقة محبة وعشق جارفين :
" أخبرته أنني مسكون بمطرح ، وأنَّ مطرح  الحلوة في دمي " (28)0
وهذه العلاقة ليست جديدة طارئة ، فهي قديمة موغلة في القدم:
" عشقتها منذ نعومة عقلي "  (29) 0
والحق أنَّ القاص لم يكن في حاجة إلى التصريح بحقيقة مشاعر بطل القصة وساردها ، فكل كلماته وتعبيراته التي يستعملها في وصف مطرح مغنية عن هذا التصريح ، فهي تشي بل تجأر بمحبة بالغة لمطرح ولكل ما فيها ، وفي المقاطع التي سبق نقلها من القصة كفاية لبيان هذا0

تعليق عبر الفيس بوك