مناجم الذهب (الحرب في ظفار)

عائشة البلوشية

بسبب الحرب التي تدور رحاها في ظفار، فقد تقرَّر نقلهم إلى هناك، كانت رحلة الذهاب إلى جنوب عُمان حيث ظفار الغالية، تئن من المناوشات الدائرة هناك، رحلة مليئة بالمشقة البالغة، فقد كان الحر شديدًا وكأن الشمس حارس سماوي وحيد لذلك الرتل العسكري، وكان الارتحال لمدة ثلاثة أيام في شاحنات نقل الجنود في ذلك الجو الصحراوي منهكًا، وبالطبع كان مصدر مياه الشرب عبارة عن براميل صدئة تحولت مياهها إلى لون برتقالي مشوب بحمرة، ولكنهم يزدردونه عندما لا يجدون لغيره سبيلا، أما الاستحمام فقد كان ترفًا بعيد المنال، لكن كل ذلك لم يفُت في عضده، كان يتأمل تلك الصحراء الممتدة وهو جالس مع بقية زملائه في الجزء الخلفي من ناقلة الجُند، تذكر الأمس القريب وتلك الرحلة على أسنمة البخت تتهادى بهم إلى الدمام، واليوم يُشاهد صحراء غير الصحراء، فتلك كانت مليئة بأنواع العشب والزهر والسمر، أما هذه فهي قاحلة ترتحل فيها دوامات الريح كما تبدو في أفلام الكاوبوي التي شاهدها لاحقًا، كانت التساؤلات تدور في خلده هل القرار الذي اتخذه كان صائبًا؟ أين جهاز اللاسلكي الذي هرب بحثًا عن تعلمه والعمل عليه؟ هل كان بقاؤه في العراقي أفضل؟ ولكن يستيقظ ذلك الشعور الخفي ليقول له: اصبر، واجتهد، ولا تتنازل عن حلمك، فقد اتخذت القرار، فكن أهلاً له.

وصل إلى ظفار وهو بعد لا يعي معنى أن يكون في وسط المعركة، لكنه أخذ بجمال جبالها الخضراء الساحرة، إنها تختلف تمام الاختلاف عن جبل كاواس في عبري، وعن جبل غلا في مسقط الذي انزلق زميل له من على علوه أثناء نزولهم إبان التدريب وكسرت يده، تلك جبال جرداء تخلو من الخضرة التي يراها هنا، ولكنها خضرة خادعة، فالطين ما أن تمسه رشات الغيث الناتجة عن انسحاب موسم الخريف في شهر سبتمبر تجعل منه منحدرات شديدة الانزلاق، يا لهذه الأجواء الاستثنائية، وهذا التباين اللوني البديع لموسم الصرب، لقد سمع هو وزملاؤه عن عقبة الحطب التي يجب عليهم تسلقها راجلين، وذلك لأنه من باب الحرص على سلامة الأرواح فإنَّ السيارات العسكرية المحملة بالعدة والعتاد لا يصعد معها إلا السائق، وسميت العقبة بذلك لأنَّ الطريق الوعر شديد الانحدار معزز بالحطب ليدعم إطارات السيارات ويمنعها من الانزلاق للخلف، لكن أن تسمع بالأمر يختلف تمام الاختلاف عن رؤيته وتجربته، رغم جمال الطبيعة الأسطوري، إلا أنه لا يستطيع الاستمتاع بذلك بعد، كانت الدوريات الراجلة تتحرك بحذر شديد حتى لا يكتشف العدو مكانها فيصب عليهم رصاصه صبا، وكان المشي في جبال ظفار في فصل الخريف وكل جندي يحمل عدته وعتاده وكل شيء يخصه على ظهره وحول خصره، أشبه بالمشي في أدغال الغابات الاستوائية حاملا جذع شجرة على كتفه، كانوا يقطعون المسافات وهم لا يعلمون ما الذي سيواجهونه من مخلوقات بشرية أو حيوانية، وفي إحدى المرات وهم يقومون بمهام دوريتهم هطل الغيث، فتزحلق غالبية الجند، ولكن أحد الجنود المسؤولين عن الطبخ تزحلق فوقع المسكين وأصيب إصابة بالغة، فزادت أعباؤهم ﻷنهم اضطروا أن يعينوه على المشي ووزعوا أحماله بينهم، ويتذكر بعد كل عودة للمعسكر كيف كان يتفقد رفاقه ويكتشف خسارته لأحدهم، بسبب إطلاق الرصاص المفاجئ من العدو، ولك أن تتصور الموقف في الرطوبة الموحلة بسبب هطول زخات المطر وفي ارتفاع العشب الذي يشبه السافانا، ولا أحد يدري من أي جهة ستكون الكرة القادمة، ويتذكر بألم كيف أخذ الإعياء منهم مأخذًا عظيمًا، وكان الماء قد نفد منهم وقت الظهيرة، ولكن عليهم التحرك فالوقوف قد يعني الموت، انطلقت رصاصات غادرة أصابت جذع الشجرة بجانبه تمامًا، كما أصيب زميل لهم حاولوا إسعافه على وجه السرعة، بربط مكان الإصابة بخرقة من عدة يحملها الجندي (المضمدة) حتى يتوقف النزيف، وأكملوا المسير بحذر، إلى أن وصلوا إلى ساقية فلج عين جرزيز في التاسعة مساءً، وهنا تأتيهم الأوامر بأنّه يمنع منعًا باتاً أن يشربوا أكثر من ملء الكأس المخصص في بندوري كل منهم، بل عليهم الاستمرار ومتابعة السير، ومن يفعل غير ذلك يتعرض للمحاكمة العسكرية، ورغم عطشهم الشديد إلا أنهم نفذوا التعليمات حرفياً؛ بعد مضي مدة زمنية ليست بالقصيرة، كان موعده مع القدر وبدأ الاقتراب من حافة الحلم.

في شهر أبريل، وبعد مضي فترة الشهور السبعة في جبال ظفار وتلك الظروف المخيفة، تقرر نقله إلى الشمال وتحديدا إلى بيت الفلج في مسقط، عاد من هناك بذاكرة مليئة بصوت الرصاص والمناوشات ليبدأ دورة التدريب على اللاسلكي، منحه الاستقرار المؤقت في بيت الفلج الفرصة للاستمتاع ببعض من جمال مسقط الساحرة، هذه المدينة المنيعة بجبالها الصخرية، كان يُمتع ناظريه أثناء الذهاب للتسوق من سوق مطرح، وكان يمر على الباعة وتلك الحوانيت المتراصة يعرضون بضاعتهم بطريقة جميلة، وأكثر ما انطبع في ذاكرته هو ارتباط الصور بحواس أخرى، فعلى سبيل المثال لا يزال يتذكر حبات التفاح والبرتقال ذات الحجم الكبير ورائحتها الزكية التي يجد ريحها من على بعد وقبل وصوله إلى السوق، ويتذكر تلك الكاميرا الصغيرة التي اقتناها لأول مرة، وسعادته الغامرة بأنه سيتمكن من التقاط الصور المختلفة للشخوص والأماكن، ولجمال البحر الناضح على سيف مطرح قصة أخرى، مدينة سكنت قلبه بأريحية واتخذت من عشقه لجمالها متكئا.

(يتبع)...

----------------------------

توقيع:

"بعينّي ظعن الحيّ لمّا تحّملوا.. لدى جانب الأفلاج من جنب تيمرا

فشبهتهم في الآل لما تكمشوا.. حدائق دوم أو سفينا مقيّرا"

(امرؤ القيس)