التحديد المفاهيمي لمصطلح (المثقف) (5)

عبد الجواد خفاجي – ناقد وروائي مصري


الإشكالية الآن أننا نناقش دور المثقف الملتزم، أو ما يُسمى الحقيقي أو صاحب الدور النبوي أو الرسولي .. نناقشه في الإطار الكوني بوصفه مثقفاً كونيا يحمل رسالة إنسانية عامة.
لقد سمحت الظروف الكونية بعد الحرب العالمية الأولى بظهور هذا النوع من المثقفين ، ولكن تميل النظرة الحديثة إلى اعتبار هذا النوع من المثقفين منعدماً، لأن مثل هذا المثقف الذي ننشده يظل عاماً وعائما في التاريخ، وربما أن دوره قد انتهى نسبياً، أو كما يقول ميشيل فوكو: "إن ما يُسمى بالمثقف العالي قد أخلى مكانه للمثقف المتخصص، وهو شخص يمارس عمله داخل مبحثه الخاص ولكنه قادر على استعمال خبرته على أية حال" (7)
ثمة نظرة واقعية متخففة من النظر إلى المثقف بوصفه نموذجاً بشريا عالياً له مميزات تجعله اقرب إلى صور الأنبياء، وتقترب من صورة المثقف المتخصص، فالمثقف حسب النظرة الواقعية هو كل من له دور ويمتلك لغة متخصصة، من محرر الكتاب إلى مؤلفه، ومن واضع الاسترتيجية العسكرية إلى المحامي الدولي، كلٌّ  يتكلم ويتعامل بلغة أصبحت متخصصة.
ولعل الخروج من هذا التعميم يجب أن يكون باتجاه مثقف بعينه، في زمان ومكان محددين وقومية وهوية محددتين، مثل هذا المثقف يتسم بفوارق نوعية تميزه عن غيره، غير أنه يتأثر بمجتمعه وظروفه مثلما أنه يؤثر فيه، أو بالمعنى: تنسحب عليه ظروف مجتمعه وعصره فيصيبه ما يصيب مجتمعه بوصفه ـ أي المثقف ـ إنتاج هذا المجتمع، حيث  نشأ وتربي في أحضان مؤسساته الطالحة أو الصالحة، وكثيراً ما تحاول المؤسسة الفصل بين المثقف وبين قيمه النبيلة، كما تحد من درجة تثقفه أو بالمعني تحد من تغوله الثقافي، وانجرافه نحو القيم الحق والخير والعدالة المطلقة، أو تحد من سلطته بوصف المعرفة والتعبير عنها سلطة، أو بوصف القدرة على إقناع الجماهير والتأثير فيها سلطة، مثل هذه النظرة الأخيرة نظرتها على سياق اجتماعي بعينه.
وعلى هذا فعلاقة المثقف بالمؤسسة توصف بالتعقد والتعدد والنسبية إلى حد كبير، والخضوع لاعتبارات كثيرة تحدد أهمياتها أو عدم أهميتها، والأمر بحاجة إلى إيغال من نوع آخر نحو إعادة التأصيل لمفهوم المثقف في الإطار الحضاري الذي يحتويه زمانياً ومكانياً، وفي إطار الدور المأمول منه بالنظر إلى ملابسات مجتمعه سياسياً وحضارياً. ومن ثم فنحن مضطرون إلى خوض الجدل حول "المثقف" في إطاره المفهوماتي الذي يحتضن ظروف نشأة المصطلح، من جهة، وإطاره الاجتماعي الناجز والعملي، عندما يكون عربياً منتمياً إلى عصرنا من جهة أخرى.
أولاً:  المثقف في إطاره المفهوماتي:
مصطلح "المثقف" رأى النور بعد الحرب العالمية الأولى وفي خضم معركة سياسية وأيديولوجية هي الأعنف من نوعها في تاريخ فرنسا الحديث، وأعني بها قضية (دريفوس) أو (فضيحة دريفوس) الضابط الفرنسي اليهودي الذي حكم عليه بالسجن والطرد من الجيش بتهمة الخيانة والتجسس لصالح ألمانيا عام 1896 قبل أن تعاد محاكمته ويبرأ نتيجة تدخل الروائي (إميل زولا) والحملة التي قادها موقِّعوا العريضة الذين تجاوز عددهم الألفين، والتي وصفها "جورج  كليمونصو" الذي كان في حينها زعيم اليسار السياسي الراديكالي بأنها "تعبئة عامة للمثقفين"، وكانت المرة الأولى التي يُستخدم فيها المصطلح.
  كانت  قضية (دريفوس) قد قسمت الفرنسيين إلى معسكرين: الدريفوسيين من مناهضي النزعة العسكرية وسلطة الكنيسة الذين انضووا - للمرة الأولى - تحت لواء "رابطة حقوق الإنسان"، واللادريفوسيين من أنصار الجيش والملكية والكنيسة ومن مناهضي الجمهورية والديمقراطية، ومن دعاة اللاسامية ممن اجتمعوا تحت لواء "رابطة الوطن الفرنسي" ثم "لجنة العمل الفرنسي" الناطقة بلسان اليمين القومي المتطرف. (8)
نشأ المصطلح إذن وتطور في الأزمنة الحديثة، في اللغة الفرنسية حصراً، قبل أن تنتقل عدوى المفهوم إلى اللغات الأخرى، وكان لا بد من الانتظار حتى أواخر القرن التاسع عشر 1898 كي يكتسب المفهوم دلالته السياسية والاجتماعية الفعلية.
ويُعد مفهوم المثَّقف من أكثر المفاهيم تداولاً في العلوم الإنسانية، لاسيما الاجتماعية منها، وقد لا يحجب الشيوعُ بداهاتٍ تقوم أحياناً مقام الإجابات العلمية، الأمر الذي يحتم طرح السؤال من جديد: ما الذي نعنيه بكلمة "مثَقَّف"؟ (9)
لا أظن أن محاولة التحديد المفاهيمي لمصطلح (المثقف) محاولة ممكنة، خاصة أن المراجع التي تعرضت للمصطلح جميعها لم تتفق على تحديد مفهوم عام للمصطلح، ليس هذا فقط بل أنها رسمت حول المصطلح دائرة واسعة من شتات الرؤى والمفاهيم التي بدا معها المصطلح غائماً وإشكالياً بدرجة كبيرة.
فهل هو المفكر المتميز بمفهوم فيبر، أم هو المفكر المتخصص في أمور الفكر والثقافة، البعيد عن الحياة بمفهوم بارسونز، أم هو المثقف التخصصي بمفهوم جرامشي، أم هو المتعلم بمفهوم الأفغاني؟ .. هل المثقّف هو فقط الممارس للفعل الثقافي والفكري كمنتِج للأفكار ولضروب الثقافة عموما، المتميّز بنزعته العقلانية النقدية الاحتجاجيّة، والمنحاز إلى الجماهير والميّال  إلى الاستقلالية في اتّخاذ المواقف، أم هو المتعلّم المستهلك للثقافة أم هو ذلك المشتغل في المجال الثقافي الواسع، الذي يمتدّ من حماية التراث إلى الإنتاج الفنّي والفكري وصولا إلى نشره وتوزيعه وتوثيقه ونحو ذلك.  
ولعل من أشهر تعريفات المثقف في القرن العشرين ما طرحه أنطونيو جرامشي، حيث يؤكد أن الذين يقومون بوظيفة المثقف يمكن تقسيمهما إلى نوعين: الأول يضم المثقفين التقليديين مثل المعلمين والكهنة والإداريين، وهم الذين يستمرون في أداء ذلك العمل جيلاً بعد جيل، والثاني يضم من يسميهم (المثقفين المنَسِّقين أو المتخصصين) الذين يرتبطون في الأساس بالطبقات أو المشروعات التي تستخدم المثقفين في تنظيم مصالحها، ومن ثم اكتساب المزيد من السلطة، فمن الطبيعي أن يأتي منظم العمل الرأسمالي إلى جانبه بالفني الصناعي أو بالمتخصص في الاقتصاد السياسي، وبمن يتولون تنظيم ثقافة جديدة، ووضع قانون جديد. وعليه فكل من يتولى ابتكار السبل الجديدة الكفيلة بترويج أحد المنظفات أو الترويج لمبيعات إحدى شركات الطيران من المثقفين، وهو في المجتمع الديمقراطي من يحشد الرأي العام لدى المستهلكين والناخبين على السواء. (10)   
ولعلنا قد لاحظنا أن نموذج جرامشي للمثقف يتسم بالحركة الدائمة، والإنتاج الدائب، غير اتصافه بالواقعي، خصوصاً في عصرنا، حيث نشهد مهناً جديدة كثيرة تؤكد صحة رأي جرامشي، مثل العاملين بالإذاعة والصحافة الجماهيرية، والمهنيين الأكاديميين، والمحامين ومستشاري الإدارة، وخبراء السياسة، والمستشارين الحكوميين، ومؤلفي تقارير السوق المتخصصة، وكل من يعمل في مجال يتصل بإنتاج المعرفة ونشرها.
على العكس من نموذج جرامشي يأتي نموذج "جوليان بندا" الذي يرى أن المثقفين الحقيقيين هم الذين لا يتمثل جوهر نشاطهم في محاولة تحقيق أهداف عملية، بل هم الذين ينشدون المتعة في ممارسة أحد الفنون أو العلوم أو التأملات الميتافيزيقية، وباختصار في الظفر بمزايا غير مادية، ومن ثم يستطيع كل منهم أن يقول بأريحية تامة: إن مملكتي لا تنتمي لهذه الدنيا، وربما لذلك يبدو نموذج بندا ضيقاً ومحدوداً؛ فمثقفوه هم شريحة الأنبياء والفلاسفة وأصحاب المبادئ العليا، ومن ثم تتردد في كتاباته أسماء محدودة من عينة سقراط، والسيد المسيح عليه السلام، وتتسع قليلا لتشمل نماذج أقرب عهداً مثل: سبينوزا وفولتير وأرنست رينان.
وربما أن نظرة مثالية كهذه للمثقف بوصفه ملتزماً برسالة إنسانية على الدوام، وبوصفه صادقاً مع نفسه على الدوام، يعيش في برج عاجي، منزوياً في عالمه الخاص مكرساً حياته لموضوعات عويصة غامضة، وحيث تدفعه المشاعر الجياشة الميتافيزيقية وإخلاصه للمبادئ السامية إلى فضح الفساد والدفاع عن الضعفاء وتحدي السلطة الغاشمة.. هذه النظرة المثالية كانت وراء ما كتبه بندا تحت العنوان "خيانة المثقف" وقد تناقلت الأجيال تلك الدراسة بوصفها هجوماً على المثقفين الذين يتخلون عن رسالتهم ويفرطون في مبادئهم. ليظل المثقف عند بندا هو من يبدو مستعداً لأن يُحرَق أو يُنبذ من المجتمع، أو يُصلب. (11)  تماماً كما يُنظر إلى الحلاج وابن رشد وأشباههم في التراث العربي. وليظل المثقفون شخصيات رمزية، يتصفون بالكمال ويبتعدون عن الشئون العملية ابتعاداً لا يقبل تنازلا.
وفي الوقت الذي يرى البعض أن نموذج المثقف عند "بندا" أقرب إلى نموذج دون كيشوت الذي قدمه الأسباني سرفانتس، يضرب "بندا" أمثلة يؤكد بها انتماء نموذجه للحياة والتاريخ والإنسانية، فهو يقول: "تراني بحاجة إلى تذكير القارئ بمعارضة فينيلون وماسيون لبعض حروب لويس الرابع عشر؟، أو كيف أدان فولتير تدمير الحكومة القائمة في مقاطعة الراين البلاطينية؟ أو كيف أدان رينان ما لجأ إليه نابليون من أعمال عنف، أو كيف استنكر المؤرخ البريطاني السير تومس هنري ما أبدته انجلترا من ضيق وتعصب في معارضتها للثورة الفرنسية؟ أو ما أبداه نيتشه من شجب للأعمال الوحشية التي ارتكبتها ألمانيا ضد فرنسا. (12) ولنا أن نضيف إلى نماذج بندا مثالا أخر هو "سارتر" بسبب مواقفه السياسية والفكرية، كمقاوم فرنسي ناضل ضد النازية، وكمثقف سياسي ملتزم رفض اشتراك فرنسا في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، كما رفض الاحتلال الفرنسي للجزائر، وكمقاوم إنساني وقف ضد التدخل في كوبا.
   وعن مفهوم "المثقف" عند سارتر، فمن المؤكد أن سارتر هو صاحب مفهوم المثقف الملتزم والذي أصبح شعارا له، ولعل تحوُّل سارتر من دور المُنَظِّـر المراقب إلى دور المشارك المباشر كان له أثره على ازدواجية النظرة إلى المثقف ودوره؛ فمنذ تحالف سارتر مع الشيوعيين وشارك شخصيا في مظاهرات 1968وسافر إلى الكثير من الدول والتقى بأبرز الفاعلين السياسيين، طفر السؤال الذي كان يطرح نفسه بقوة على المفكرين: هل دور المثقف يتحدد بمجرد التفكير والتأليف والطرح النظري، أم أن المطلوب منه أن يطبق أفكاره على أرض الواقع بمعنى أن يشارك في الحراك العملي ويباشر الاهتمام بالقضايا المعاصرة التي يعيش وسطها.
 الإجابات مختلفة ومتباينة لكن إجابة سارتر هنا واضحة، حيث أكد ـ في أكثر من موقف ـ أن المثقف الملتزم هو المثقف الذي يتخذ مواقف واضحة من القضايا المعاصرة وعليه أن يشارك فيها ويلتزم بتبعات هذه المشاركة، لا يجب أن تكون هذه المواقف ثابتة وجامدة ولكن يجب أن يشعر المثقف بمسئوليته تجاه الواقع من حوله، في المقابل هناك رؤى ترى أن المثقف ليس مطلوبا منه المشاركة في النشاطات الحركية ويكفيه دور الناقد والقارئ والمفكر، وكيفما كان الخيار بين الإجابات  فسيظل مثقف سارتر ضميرا شقياً لأنه لا يرتاح للأمر الواقع، ويسعى لتفسيره وتغييره ولا يقف عند حدود معرفته وتخصصه العلمي، بل يتسع ذلك ليشمل كل ما هو وطني وإنساني. (13)  
ولا يمكننا أن نتحدث عن موضوعة "المثقف" دون أن نعود إلى إدوارد سعيد ومفهوم المثقف عنده ، فهو بداية يعرب عن تخوفه من اختفاء صورة المثقف أو احتجاب مكانته في خضم التفاصيل الكثيرة.
ولعله تخوف حقيقي فحتى الآن تتنازع الآراء صورة المثقف حتى بدا صورة مشتتة تتنازعها رياح كثيفة تشكل خطراً على المفهوم نفسه، ويؤكد سعيد" ذلك بالقول: "إنه خطر النظر إلى المثقف باعتباره أحد المهنيين وحسب، أو مجرد رقم تحسبه في حساب تيار من التيارات الاجتماعية" (14)
ثم يوجه انتقاده لصورة المثقف عند جرامشي، رغم واقعيتها، يقول سعيد: " لا يمكنني اختزال صورته بحيث تصبح صورة مهني مجهول الهوية، أي مجرد فرد كفء ينتمي إلى طبقة ما ويمارس عمله وحسب"
ثم يقدم تصوره للمثقف كما يراه؛ فيقول: "وأعتقد أن الحقيقة الأساسية هنا هي أن المثقف فرد يتمتع بموهبة خاصة تمكنه من حمل رسالة ما، أو تمثيل وجهة نظر ما، أو موقف ما، أو فلسفة ما، أو رأي ما، وتجسيد ذلك والإفصاح إلى مجتمع ما وتمثيل ذلك باسم هذا المجتمع"(15)
 ولا أرى "سعيدا" بذلك قد بَعُـد كثيرا أو قليلاً عن نموذجي سارتر وبندا، فمفهوم المثقف عنده يشترط الرسالة ، والدور، والرأي والموهبة والإفصاح والتمثيل. وهي الأرضية ذاتها عند بندا وسارتر.

تعليق عبر الفيس بوك