السياسة الخارجية العمانية وإدارة الأزمات (4)

د. عيسى الصوافي – سلطنة عمان
دكتوراه في إدارة الأزمات

 

في المقالة السابقة تحدثنا عن المرتكزات النظرية والمعنوية للسياسة الخارجية العمانية وقلنا إنها تتمثل في مجموع الموجهات التي تنبثق من المنظومة القيمية التي تسير عليها سلطنة عُمان وهي تكون حاضرة توجه بشكل غير مباشر القرار السياسي للتعامل الخارجي، وفي هذه المقالة سنتحدث عن المرتكزات الواقعية للسياسة الخارجية العمانية والتي تشكل في مجملها من مجموع الإحالات التي تؤثر في مواقف السلطنة وتحدد اتجاهها، فتفرض حضورها عند اتخاذ القرار الخارجي وتوجهه بشكل منتظم يجعله يسير في خط مستقيم لا يتعرض للانكسارات ويعبر عن نفسه بكل انسجام أمام أية متغيرات خارجية أو مستجدات على المستوى الدولي. وبهذا فهي تقبل التصنيف على الشكل التالي:

(1) الواقع الجيو ــ استراتيجي:
لقد أتاح الموقع المتطرف جغرافياً لعُمان في أقصى الجنوب الشرقي من شبه الجزيرة العربية وإحاطتها ببحرين وبصحراء، حماية طبيعية متميزة(2). ناهيك عن أن منافذها البرية المتاحة تمر عبر كتل من السلاسل الجبلية الوعرة (في الشمال جبال الحجر، وفي الجنوب جبال ظفار) مما زاد من مناعة الدفاع عن الدولة. وبذا أصبح وصول القوى التقليدية إلى عُمان أمراً محفوفاً بالمخاطر.
قامت جغرافية عُمان على أساس التفاعل بين ثنائيات عجيبة، فهناك بر وبحر، وجبل وسهل، وواحات وصحراء، وهناك شمال وجنوب، ولقد أدت هذه الثنائيات إلى إقامة حالة تكيف لدى الإنسان العُماني جعلته طائعاً لها أحياناً، ومطوعاً لها أحيانا أخرى(..).
غير أن موقع عُمان على مدخل الخليج العربي والمحيط الهندي، وإشرافها على الشق الغربي من مضيق هرمز شديد الأهمية، فرض عليها قراراً سياسياً أمنياً دولياً ذا خصوصية وحساسية، وذلك بسبب وجود إيران على الشاطئ الشرقي للمضيق، وبسبب الجوار العُماني للبحر المفتوح على الهند والشرق الأقصى، وبسبب ما يحيط بالخليج من مصادر للنفط.
لذا، وجدنا أن السياسة الخارجية العُمانية في تعاطيها مع القضايا المفروضة ضمن ثابت الجغرافيا قد اتسمت بالهدوء، والتأني، وبالموضوعية، وذلك لأن السلطنة قد أدركت أن موقعها الجيواستراتيجي قد حملها مسؤولية كبيرة، تمثلت في المساهمة بشكل رئيسي في تأمين حماية مدخل الخليج العربي الذي يعد من أهم خلجان العالم. فعلى شواطئه تقوم دول نفط الشرق الأوسط، وعليه تتراحم دول القوة، وتقوم حوله مذهبيات دينية بارزة أصبحت تأخذ دوراً هاماً في صناعة العديد من جوانب السياسات الخارجية لدول المنطقة.
بسبب هذا كله، اتخذت عُمان سياسة خارجية ركزت كل التركيز على صيانة الأمن والسلم في الخليج، وقد تفردت في كثير من التوجهات والقرارات، الأمر الذي جعلها في بعض الأحيان متفردة، بعد أن ذهبت معظم دول الخليج العربية إلى اتجاهات سياسية أخرى مختلفة.. إلا أن ذلك لم يؤثر في الموقف العماني، إذ غالباً ما كانت الدول المنازعة لها والمختلفة معها تعود إلى الأخذ بالرأي العُماني، فحين رأت عُمان أن الهم الأمني يجب أن يكون له الأولوية بين دول الخليج رأت هذه الدول أن البعد الاقتصادي السياسي والاجتماعي هو الأهم، وقد ثبت صحة الرأي العماني خاصة بعد غزو العراق(..).

(2) الحوار كنهج عملي:
التزمت السياسة الخارجية العُمانية بمبدأ اعتماد الحوار، وتعزيزه بين الأطراف المتنازعة لحل الخلافات بروح الوفاق، والتفاهم، والتنكر لفكرة الحرب ومقاومتها كوسيلة لفض الخلافات، وانهاء الصراعات بين الدول.
يذهب هذا الموجه الذي أشرنا إليه آنفاً في الفكر السياسي الدبلوماسي العُماني إلى أن الحوار يجب أن يكون هو اللغة السائدة بين الأعراف والأجناس والشعوب، وذلك لأن هذا الموجه لا يقر أي شكل من أشكال الحروب واستخدام القوة والسلاح إلا ما كان دفاعاً عن النفس.
من هذا المنطلق، جاء الفهم العُماني للعلاقات الدولية، وبالتالي لمفهوم السياسة الخارجية وذلك تأكيداً علي أن المصالح المشتركة بين الدول هي الأساس الذي يجب أن يُرتكز عليه، إضافة إلى ضرورة البناء على الإيجابيات. وقد تنامى هذا التوجه مع مكونات النفس العُمانية الجانحة للسلم والتفاهم على الصعيدين العام والخاص(iv)، وذلك حين تبنى الفكر السياسي العماني مذهبية الالتزام بالحوار كوسيلة مُثلى للحصول على الحقوق المشروعة، على أن يكون هذا الحوار هادفاً، وليس من أجل ذاته، أو من أجل إضاعة الوقت وتوكيد النفاق السياسي وإشغال الرأي العام وإضاعة الوقت دون فائدة(..).
لقد عرفت المنطقة العربية على اتساعها واتساع قضاياها، ودول الخليج على وجه الخصوص، مصداقية الرؤية العُمانية، وذلك عندما اكتوت هذه الدول بنيران ثلاثة حروب مدمرة، كات إحداها حرباً عالمية، بمواصفات العددية الدولية المشاركة فيها، وبقياسات الأضرار التي لحقت بدول العالم من جرائها دون تفرقة بين قريبة وبعيدة.
أدى الافتقار إلى لغة الحوار والارتهان إلى حل المشاكل باللجوء إلى لغة الحرب والقتال إلى نتائج مرعبة، خاصة وأن العالم العربي كان يعيش في تلك المرحلة حالة من التمزق والتشرذم والشتات، والعجز عن بلورة موقف موحد، الأمر الذي جعل من الحرب العراقية ــ الإيرانية، ثم حرب تحرير الكويت، وبعدها حرب الاستنزاف العراقية ــ الأمريكية البريطانية، وما تلا ذلك من تداعيات أدت إلى احتلال العراق في التاسع من نيسان 2003م، أمراً واقعاً دون أن يكون للعرب في طبيعته أو في اتخاذه أي دور(..).
في هذه الظروف استطاعت السياسة العُمانية أن تسجل موقفاً يحب لها حين أقامت حالة حوارية بين إيران والعراق، واستطاعت بالفعل أن تهيئ لجمع الطرفين على فكرة بدء مفاوضات مباشرة وذلك عبر تهيئة لقاء قمة كان وشيكاً بين الرئيسين العراقي والإيراني، إلا أن دخول العراق إلى الكويت في 2 أغسطس 1990م أفشلت هذه المحاولة(..).
وكذلك فعلت عندما حلت كل قضاياها الحدودية، وقضية ظفار، وقضية علاقاتها مع الاتحاد السوفييتي السابق وعلاقاتها مع إيران(..).
إن منهجية الحوار في الفكر السياسي العُماني قد رفضت، دائما، سياسة الأمر الواقع، وتبنت وبكل اقتدار الواقعية السياسية المبدئية دون الانحياز إلى جانب أي طرف من أطراف النزاع. وقدمت الدبلوماسية العمانية طروحات لحل المشكلات التي واجهتها أو قامت حولها تعتمد الحوار والمفاوضات المؤدية إلى السلام. وإن الحوار المباشر بين جميع الأطراف والهيئات هو السبيل الآمن الوحيد لإنهاء الأزمات(..).
لقد جعلت الضبابية العربية حول حرب الخليج الأولى ما رسخته عُمان وطلبته مخرجاً ممكناً وموضوعياً وحقيقياً، رغم أن بعض الأصوات، حتى الخليجية، رأت غير ذلك فقالت: إن في الموقف العُماني تراجعاً عن قومية المعركة، إلا أن ذلك لم يستمر طويلاً، وعادت كل الدول تأخذ بالرأي العُماني.
التزمت عُمان منهجية الحوار، حتى في القضايا الحساسة كالقضية الفلسطينية، وذلك بالدعوة إلى حوار عربي ــ عربي، ثم حوار عربي ــ دولي في إطار القانون الدولي والقراءات الدولية، وأكدت أنه عبر الأخذ بمبدأ الحوار كأحد ثوابت السياسة الخارجية ومرتكزاتها، يمكن الحصول على الحقوق المشروعة في أي خلاف دولي.
تمكنت سلطنة عُمان من أن تحقق مشاركة فاعلة وإيجابية في تمهيد الأرض لحل العديد من الأزمات التي جنبت المنطقة، أو أنها كانت قادرة على تجنبيها صراعات كثيرة. وما تفجر الكثير من الحروب في المنطقة إلا ويعود إلى رفض التوجهات العُمانية والتقليل من أهميتها: تلك التوجهات التي اعتمدتها القيادة العُمانية الحديثة منذ تأسيسها(..).
ومع كل ذلك، يجب أن ندرك أن الأخذ بدبلوماسية الحوار حسب الفكر السياسي العُماني لا يعني اللجوء إلى الحوار بشكل مطلق، بل إلى ذلك الحوار المثمر والإيجابي الذي يؤدي إلى نتائج جيدة. ومن هنا تأتي الدعوة العُمانية إلى ضرورة التنبه والاستعداد والتمكن مع الميل إلى الأخذ بالحوار(..).
وعلى هذا الأساس تكون قراءة الموقف العُماني من كل النزاعات العربية ــ العربية والعربية ــ الدولية، مرتكزة على ضرورة وجود التوازن بين الأخذ بأسباب الحوار، وعدم إغفال إعداد القدرة المقاتلة والمدافعة عن الحقوق العربية.

(3) تبني أسلوب التخطيط المدروس:
من خلال الإطلاع على مرتكزات السياسة الخارجية العُمانية وممارساتها العملية، نجد أنها في واقعها التطبيقي ترتكز على منهجية التخطيط(..). وذلك ضمن أسس انطلقت من الالتزام بما رسمته الدولة لنفسها من خطط تم وضعها منذ اليوم الأول الذي تسلم فيه السلطان قابوس السلطة، ومن أهما ضرورة التوجه نحو التعاون، وبناء علاقات صداقة مع الدول العربية ودول الجوار الجغرافي وبقية دول العالم.
وعلى صعيد آخر، فقد وضعت السلطنة منهجاً ارتكزت عليه منذ بداية عملها السياسي الدولي الحديث إلى الآن، وهو الالتزام بالموضوعية والإيجابية وعدم الإنجراف تجاه القرارات والمواقف المتسرعة والطائشة وغير المدروسة والمحكومة بالعاطفة والمباشرة.
ومن المبادئ، أيضاً، التي منهجت السياسة الخارجية العُمانية عدم الانحياز إلى أي طرف دون حق والأخذ بالحوار وأسبابه والحيادية وذلك بعد أن رأت أن معظم التوترات والنزاعات العالمية، بل والحروب في جميع حالاتها قد تأتت نتيجة الابتعاد عن المدارسة العلمية والموضوعية.
وتمسكت السلطنة في كل حراكها السياسي الخارجي بالإيمان بضرورة الوصول إلى حلول لكل القضايا على وجه يؤمن السلامة لكل الأطراف.
إن القراءة الواعية والمتعمقة لجميع أحاديث السلطان قابوس، التي مثلت في كثير من جوانبها مجمل السياسة الخارجية العمُانية، تصل إلى حقيقة اهتمام السلطنة بالالتزام بالتخطيط الواعي وفق ما تمليه المفاهيم الحديثة للمجتمع الدولي، ووفق التماهي مع التطورات والتغيرات التي يشهدها هذا المجتمع.

(4) أولوية المصلحة الوطنية:
من هذا الباب تنطلق الرؤية العُمانية لمفهومي السياسة الخارجية والعلاقات الدولية من الذات إلى الآخر، ومن المحلي الخاص إلى الدولي العام، مع الالتزام بمنظومة القيم الأخلاقية القائمة على الحوار السياسي وتبادل المنافع، على أسس مبدأ المصالح المشتركة. لذا، فإن عُمان ترى أن من حق كل دولة، ولكن من دون تجن أو استكبار، أو خروج عن مبادئ القانون الدولي، أن تبحث عن مصالحها، فإن توافقت هذه المصالح وتقاطعت فيجب الذهاب إلى دائرة التعاون لحل كل الأزمات والخروج من كل الاختناقات. وتدرك عُمان أن أية سياسة لأية دولة هي قائمة على أساس المصالح(..). ومن هنا، جاءت الدعوة العُمانية للأطراف العربية التي تتحاور مع الغرب أن تستخدم الخطاب السياسي واللغة التي يفهمها الآخر دون استفزازه، حتى يصبح من الممكن كسبه إلى الجانب العربي، ومناصرة قضاياه، خاصة وأن كثيراً من أوراق اللعبة بيد هذا الآخر المتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا. ومن هنا، ترى عُمان أن الدولة الراشدة هي التي تستطيع مخاطبة الرأي الدولي العام بطريقة علمية مدروسة على صعيد الفكر والواقع، مع الحرص على بناء الثقة مع الآخرين، وإشعارهم بأن مصالحهم مصانة إن هم أرادوا التعاون معنا، وأن مصالحنا المشتركة والمتشابكة معهم هي المرجعية التي يجب علينا وعليهم اعتمادها.
إلا أن هذا التوجه لم يُخرج السياسة العُمانية عن الضوابط الأخلاقية، إذ وضعت السلطنة جملة من الضوابط التي حكمت مسار الوظيفة السياسية للحكومة وللمؤسسات الوطنية. وتنصرف هذه الضوابط، في مجملها، إلى الاهتمام ببناء الفكر السليم للمواطن العماني، ومن ثم الإنطلاق نحو المشاركة في الصياغة العالمية للحضارة.
إن أهم مكونات هذه الضوابط هو استيعاب العصر مع المحافظة على القيم الدينية والأخلاقية، والاهتمام بمصالح الشعوب على أساس أنها الأطراف الرئيسية المكونة للمنظومة الإنسانية الخيّرة. ومن هنا جاء الموقف العُماني من قضية الحرب العراقية الإيرانية، حيث رفضت الانزلاق في متاهة التحالفات غير المنطقية، وقالت: إن إيران دولة إقليمية مسلمة، ولها ثقل أمني وعسكري واقتصادي وعقائدي في المنطقة، لذا رفضت قطع الاتصال معها وتصنيفها كدولة عدو، وبدأت بالفعل بقراءة واعية للقضية. في نفس الحين، لفتت عُمان انتباه الدول الأعضاء في مجلس التعاون إلى ضرورة إشعار إيران وغيرها من الدول أن مصالحها هي محط اهتمام، وأن الدول العربية لم تسع أبداً إلى تحقيق أهدافها على حساب هذه الدول(1)، خاصة بُعيد تشكيل مجلس التعاون.

تعليق عبر الفيس بوك