أدب التزفين (ترقيص الأطفال) (5 -5)

أ.د/ إيمان محمد أمين الكيلاني - الجامعة الهاشمية – الأردن


تذكر كتب الأدب العربي أن التزفين في بني هاشم كان عادة ,ظاهرة .وجدير بالإشارة أن الزبير بن عبد المطلب من أكثر المزفنين من الرجال الذين كثر تزفينهم،  فقد تعدد مزفنوهم، إذ يذكر له صاحب المنمق سبعاً في ابن أخيه محمد، صلى الله عليه وسلم، وفي أخيه العباس وأخيه ضرار، وابنته ضباعة، وابنته أم الحكم،وهذه الأخيرة زفنها بثلاث.  
 وكان عمه الزبير بن عبد المطلب يزفنه صلى الله عليه وسلم فيقول:  
                           مُحَمَّدُ بـْنُ عَبـْدَمِ               عِشْتَ بِعَيْشٍ أَنْعَمِ
                       ل  ازِلْتَ في عَيْشٍ عَمِ               وَدَوْلـَـةٍ وَمَغْنَمِ
                         يُغْنيكَ عَنْ كُلِّ العَمِ             وَعِشْتَ حَتّى تَهْـرَمِ
فهذه التزفينة تبدأ بـ"اسمه" الذي انفرد به، والذي نزل من السماء"محمد" اسم المفعول من الفعل المضعف"حمّد"، على وزن" فعّل" للمبالغة والاستمرار، فهو محمد لا المحمود فقط، لايحمده قومه العرب فقط، أو البشر فقط، بل هو المحمد في السماء  وفي الأرض. وواضح من الابتداء بالاسم أن التزفينة ابتكرت له خاصة دون غيره من الصغار إذ ذكر فيها اسمه ونسبه الذي يعود إلى عبدالله بن عبد المطلب بن عبد شمس، أما الخطاب هنا فهو موجه لمحمد نفسه، الذي صرح بلفظه بدءاً ثم استعمل ضمير الخطاب عائداً عليه، ولعل السبب أنه -صلى الله عليه وسلم - كان في هذه المرحلة أكبر منه عندما كانت حليمة وابنتها تزفنانه، فقد كان إذ ذاك رضيعاً، ونحسب أن تزفين الزبير له كان بعد فترة الرضاعة، وعندها تكون استجابة الطفل أكبر، وتواصله مع مرقصه أقوى، وإن كان الدعاء هنا حاضراً، ولكن من خلال المخاطب المدعو له، فالألفاظ "عشت، ولا زلت، يغنك،          وعشت" كلها جمل فعلية تتضمن الدعاء. ونلحظ أن مادة (عيش) تتكرر أربع مرات في التزفينة، إذ مناط اهتمام المزفِّن هو الدعاء لمحمد - صلى الله عليه و سلم- بالعيش عمراًً طويلاً، وبأن تكون عيشته في خير عميم، بل ودولة ومغنم .وقد كان ما تمنى له من عمر يمتد بعد موته، ودولة لا تفنى، وقوة لا يعقبها ضعف.  إنه دعوة بالقيادة والسلطان تتأتى من شجاعة يتبعها "مغنم"، وهي دعوة يراد له بها التعويض عن اليتم من جهة والديه، حتى ليتمنى أن يكون من العزة والقوة والدولة بمكان حتى يغنيه ذلك عن أقرب الأقربين بعد أبيه وهو العم، وأن يطول به العمر والتنعم حتى يهرم .
     إن هيمنة الألفاظ الدالة على العيش والعمر ما هي إلا ترجمة لذلك الشعور بالألم والخوف في داخل نفس الزبير، الخوف على الصغير الذي مات أبواه؛ لذا تراه يتمنى له عكس ما يخاف عليه، وقد استجاب رب العالمين لدعائه، فحفظ محمداً وآتاه من عيش الدنيا ما يكفيه و من عيش الآخرة ما يغنيه، ومن دولة وسيادة ومغنم مالم يكن لغيره، وعاش الطفل اليتيم ليكون أعظم البشر حياً وميتاً، دنيا وآخرة.

       ولما صار-صلى الله عليه وسلم- جداً لسيدي شباب الجنة الحسن والحسين -رضي الله عنهما- زفنهما فكان يداعبهما ويلاعبهما.
         "ومما يحفظ من مزحه - صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول لأحد ابني ابنـته وقد وضع رجليه على رجليه، وأخذ بيديه:"تَرَقَّ عَيْنَ بَقَّة"، وهذا الشيء كان النساء يقلنه في ترقيص الصبيان :
                                حُزُقّة حُزُقّة       تَرَقَّ عَيْنَ بَقَّة
ترق أي ارق من: رقيت الدرجة، والحزقة الذي يقارب خطوه، وشبهه في صغره بعين بقة"
و في لسان العرب: الحُزُقة: قصير يقارب الخطو، والضعيف الذي تقارب خطوه من ضعف.
أما بقة فقيل فيها: موضع بالعراق قريب من الحيرة كان به جذيمة الأبرش، ورقصت امرأة طفلها فقالت:              حُزَقَّة حُزَقَّة         تَرَقَّ عَيْنَ بَقَة
قيل: بقة اسم حصن.أرادت: اصعد عين بقة،أي اعلها . وقيل: إنها شبهت طفلها بالبقة لصغر جثته   .
     ونرى أن المعنى هو حصن يسمى عين بقة؛ ذلك أننا لو ربطنا بين وصف طريقة ترقيصه - صلى الله عليه وسلم- وهذا المعنى لوجدناه متطابقاً منسجماً، فهو يشجع الصغير القصير ضعيف الخطو على أن يصعد على رجليه، وهما ممدودتان على الأرجح فيرتفع عليهما رويداً رويداً باتجاه الركبتين فالفخذين، وهذا الصعود يعسر عليه كما لو كان يصعد حصناً، وهو نوع من تهيئة مبكرة للطفل على الارتقاء، و فتح الحصون بزرع الفكرة زرعاً بسيطاً على شكل لعبة في لاوعيهم، كما يعوّدهم حفظ توازنهم وهم يرتقون؛ أما تشبيهه بعين البقة لصغره فأراه بعيداً، ولو أراد صورة لصغره لشبهه بكائن صغير جميل كالعصفور أو فرخ صقر ونحو ذلك  بدل أن يشبهه بنوع من البعوض؛ بل بعين البعوض، فطرفا اللعبة هما الفارس الصغير متقارب الخطو الذي يتقاوى على ضعفه،و الحصن هو المزفـِّن الذي يأخذ بيده و يمثل دور الحصن الذي يرتقيه الصغير فيصل إلى هدفه، ونحسب أنه ينتهي غالباً إلى أعلى حضن المزفِّن الذي يضمه إلى صدره، ليشعره بنشوة النصر والارتقاء.
      وفي حديث فاطمة - عليها السلام - أنها كانت تزفن الحسن أي ترقصة.
وجاء في المحبر أنها كانت ترقصه فتقول :
                                                 وا بِأَبي شِبْهُ أَبي           غَيْرُ شَبيهٍ بِعَلي
     ونستبعد هذه الرواية، إذ لا يعقل أن تُفدِّي فاطمة ابنها بسيدها وسيد الخلق أجمعين، ثم كيف تفديه بأبيها وهي التي عرف عنها أنها أحب الخلق إلى أبيها، وأنه أحب الخلق إليها، ثم كيف تفديه بأبيها وهي في الوقت نفسه تشبهه به- صلى الله عليه وسلم، ورواية العقد أرجح:
                                 إِنَّ بـُنَيَّ شِبْهُ أَبي          لَيْسَ شَبيهًا بِعَلِي
فهي تفرح وتفخر بأن ابنها يشبه أباها - صلى الله عليه وسلم- لا يشبه علياً - كرم الله وجهه_ ليس انتقاصاً منه، ولكنها تداعبه حتماً بذاك، ولا نحسبه إلا أكثر افتخاراً ومباهاة منها بشبه ابنه برسول الله، صلى الله عليه وسلم.

تعليق عبر الفيس بوك