أدب الحرب وسمات التجديد الشعري

"السابعة حـ(ــر) بًا بتوقيت دمشق" (5)

د. السيد العيسوي عبد العزيز – ناقد وأكاديميّ مصريّ
مدير النشاط الثقافي بمتحف أمير الشعراء أحمد شوقي

 

في الحلقة السابقة/الرابعة لاحظنا كيف اشتغل الشاعر على جدلية شديدة التعقيد وثلاثية الأبعاد (الأنا - الوطن - الأبناء) وكيف كانت الأبيات تعبر عن تحولات رهيبة في إيقاع عمر الشاعر، وتعكس صراعًا رهيبًا مع النفس، كما تعكس هواجس وأفكارًا يصعب التعبير عنها، إن جمال الشعر أنه يتولى الحديث عن اللاوعي، حيث يصعب التعبير والتنفيس والترجمة إلا شعرًا، حين يتولى الشعر –كما الحلم- مسؤولية التخفيف عن ضغط اللاوعي، فينفجر من أضعف قشرة، منفسًا عن الكثير، وكانت أضعف قشرة هنا هي الأبناء، حيث تلتهب مجموعة من المشاعر المتناقضة من الصعب التعبير عنها.
وفي أدب الحرب، في حياة المنفى، تعبر بعض اللقطات عن فلسفة الحياة الغاربة، تبدو الحياة قطعة غروب مستمرة، حيث يأخذ الوطن والذكريات موطن الشمس الغاربة باستمرار، ويأخذ الجانب الآخر من الحياة مشهد الظلام، والنور العابر، واللقطة المختفية. هذا ما عبر عنه الشاعر بصدق وعمق في نص يبدو –ظاهريًّا- غزليًا، ولكنه يمكن أن  يخضع لقراءة تأويلية على نحو ما، وهو نص (إلى قمر فراتي)، يقول فيه الشاعر:
  ما زِلتَ تَنبِضُ؛ مِلءَ القَلبِ؛ مُذ نَبَضا
قَوسُ اشتِياقِيَ؛ عَن مَعناكَ؛ وَانتَفَضا
يا ابنَ اختِلاجِيَ...
يا ابنَ الوَجدِ...
يا قَمَرًا يَحُجُّ فِي اللَّيلِ دَمعًا
وَالطَّوافُ فَضا
أَكُنتَ تَهتِفُ بِي؟
وَالماءُ مُغتَسَلٌ!
أَم كُنتَ مَن أَضرَمَ النِّيرانَ؟
ثُمَّ مَضى!
من القمر الفراتي هنا؟ هل هو معادل الوطن الجميل الضائع، أم الحب الأول الهارب في شتات الحرب؟ أم الحلم الأول، وقد رأينا سقفه يتهدم في أرض القصيدة:
(رَفَعتُ لَهُ قَصِيدِي سَقفَ حُلمٍ
بِمِعوَلِ غُربَةٍ؛ يا ابنَيَّ؛ خَرَّا)؟
ولم جعله الشاعر (قمرا فراتيًا)؟ هل يظمأ الشاعر لري من نوع ما، فخلط بين الماء والوجه الحسن في الصورة الشعرية؟ هل الغربة تدفع إلى كل هذا الظمأ حين يصبح الجمال نهرًا؟ أم أنه يرى صورة الوطن الجميل وهي تنعكس على لجة نهر الفرات الذي نشأ الشاعر على ضفافه وارتوت روحه من فيوضاته؟
وما هذه الألفاظ عبر تراكيبها (تَنبِضُ، قَوسُ اشتِياقِيَ، يا قَمَرًا يَحُجُّ فِي اللَّيلِ دَمعًا، الطَّوافُ فَضا، تهتف) إن المجال الدلالي للنص يتراوح بين أفعال الحياة والقداسة والاشتعال، لكأن الشاعر يحاول أن يحيا من جديد عبر هذا الرمز، ويبحث عن جو من القداسة يشبع به ظمأه الروحي، ويتأوه من جراء الاشتعال. لذا سار النص بين النداء الذي يعبر عن التلهف، والاستفهام الذي يعبر عن الحيرة والدهشة، كي يتركنا نحن على شاطئ الدهشة والاشتعال والنداء، نبحث عن هذا (القمر الفراتي) بينما هو قد مر وتركنا مشتعلين على شاطئ الجمال، كحياة هاربة عبر المنفى، وهكذا يُنفَى الشاعر مرتين، مرة من وطنه، ومرة من أرض الجمال، من المجال الروحي لهذا القمر الفراتي.
ومع كل هذا التسلل الروحي والهمس والوشوشة الشعرية والبوح الذي قد يعبر عن إيقاع الهمود عبر الغربة، أو التأمل العميق في الأحداث نجد من حين لآخر ضجيج الحرب وزحام بعض المشاهد التي تعبر عن المرحلة:
يا أَيُّهَذا النَّاعِقُ الثَّورِيُّ...
ما سَقَطَ الرَّفِيقُ؛ عَلى الطَّرِيقِ؛ لِتَخدَعَهْ
يا أَيُّهَذا الخائِنُ الرَّجعِيُّ...
ما صامَ الأَنامُ؛ عَنِ المَنامِ؛ لِتَجرَعَهْ
ما زالَ فِي المَيدانِ مَلحَمَةٌ
وَما زالَتْ هُتافاتٌ تَصُدُّ مُدَرَّعَةْ
ما زالَ قَنَّاصُ السُّطُوحِ يَعُدُّ قَتلانا
وَما زِلنا نَعُدُّ؛ هُنا؛ مَعَهْ
فالإيقاع هنا متسارع، والصور المتزاحمة تعبر عن زحمة الزحف الثوري الذي يقف في وجه المدرعات وآلات القمع الضخمة، وحركة القناصة السريعة تظهر في ذلك الإيقاع السريع للصورة الشعرية. وكلها أجواء تنقلنا إلى هذه الفترة الزمنية عبر تقنية التفاصيل التي تقرب التجربة من تقنية العرض الروائي، وإن افتقدت الطبيعة البنائية للرواية، وبهذا تخدم هذه التقنية تصوير هذا الواقع، باضطرابه وجزئياته المتداخلة.
وكان من الطبيعي أن نجد (المنفى) وقد شكل دالًا محوريًّا أو مجالًا دلاليًّا محوريًا في هذا الديوان بلفظه أو معناه، وهذا طبيعي لأن الشاعر ينقل معه تجربة مضطربة تشبه الزلزال، ذات توابع ليست بسهلة:
حَتَّامَ نَبشُ الذِّكرَياتِ النَّازِفاتِ؟
وَما الدَّوافِعْ؟
حَقًّا؛ تَعُودُ إِلى الجَحيــمِ؟
وَأَنتَ في الفِردَوسِ قابِعْ!
تَرتَدُّ لِلمَنفَى الكَبيـرِ...
مُصَفَّدًا بَينَ القَواقِعْ؟!
حيث يغدو الكون كله منفى، وتبدو فراديس الغربة قواقع يُصفَّد فيها المرأ مقارنة بالوطن وجنته، مهما كانت صغيرة وفقيرة. وهذا هو معنى (المنفى الكبير) الذي يساوي كل ما سوى الوطن على امتداد الكرة الأرضية بصرف النظر عن الرخاء والنعيم من عدمه، فالجرح نازف، والغربة هم محمول على الأعناق في كل طريق.
ولعل الترفيل الزائد في تفعيلة (متفاعلن) إضافة إلى العين الساكنة يعبران عن سقوط الشاعر في درب الغربة مرة بعد مرة ثم روح الجزع المستمرة، فالإيقاع إيقاع عرقلة وصمت عبر طريق طويل (و التّرفيل هو إضافةَ سببٍ خفيفٍ إلى التّفعيلةِ المختومةِ بوتدٍ مجموع، وبذلك تكون مُتَفَاعِلُنْ بعد دخول التّرفيل (مُتَفَاعِلاتُنْ ///5//5/5). أمّا إذا كانت مُضمرةً فهي (مُتْفَاعِلاتُنْ /5/5//5/5) فكل زيادة في الغربة نقصان نفسي.
ولا تنفصل الغربة عن مواقف تتفجر فيها المشاعر الوطنية، فأينما رحل الشاعر يحمل على كتفيه هموم وطنه وأطنان حضارته في نفس الوقت، ولذا يبدو الوضع معكوسًا حين تهاجمه من لا تعرفه:
فَأَطرَقَتْ...
ثُمَّ رَدَّتْ فِي مُكابَرَةٍ:
(ذَنبِي؛ نَزَلتُ مِنَ العَليَا... لِمَغمُورِ!
مَن أَنتَ؟)
قُلتُ:
(اتِّقادُ "التِّيهِ"؛ دَربُكِ لِي؛ إِذا التَمَستِ شُعاعَ الضَّوءِ مِن "طُورِي"
تَقَحَّمِيهِ, فَلِلنِّيرانِ مَوعِدَةٌ؛ إِذا استَطَعتِ؛ وَفِي ثاراتِهِ فُورِي)
(مَن أَنتَ؟) - كَرَّرَتِ التَّسآلَ – قُلتُ:
("أَنا" - وَلَيسَ يَصلُحُ غَيرِي لِلعُلا - "سُورِي"
وَهْيَ "الشَّآمُ"!
وَمَن مِثلُ "الشَّآمِ"- إِذا تَطايَرَ العِشقُ مِثلَ الرَّملِ – "أُحفُورِي"؟!)
فالشاعر يُعرِّف بنفسه بوطنه وحضارته، فالوطن منجز قومي نصطحبه في أي مكان، مثل أي منجز شخصي، بل ربما هو أثقل حملًا وأبعد أثرًا في الشخصية. لذا نجد الأبيات هنا متفجرة، وقد ساعدها على هذه الحيوية التفجر الدرامي بين شخصين يتحاوران، بكل ما في الحوار من طاقة وصخب ومشاعر متصادمة ووجهات نظر وامتلاء حيوي ودراما كونية، لذا لجأ الشاعر هنا إلى حديث غير عادي يوازي قيمة بلده غير العادية، حيث لجأ إلى رموز ذات دلالات كبرى متفجرة بالحيوية تغني عن أي شرح، وتسعفه في التعبير عن تفجره الداخلي (التيه – الطور- سوري- الشآم) وهي رموز ومفردات توحي بالعظمة والارتقاء، ومن ثم تسعف الشاعر في وضعه في وضعيته اللائقة أمام السائلة المستعلية.

تعليق عبر الفيس بوك