هل فهمنا ديننا؟ (المصالح المرسلة)

د. صالح الفهدي

المصالح المرسلة

إذا كان عقد الزواج يتم بتوثيق رسمي، وبحضور غفير من الشهود في مجتمعاتنا، ولا يُكتفى فيه بـ"شاهديْن"، فإن من الأحرى أن لا يُعتد بالطلاق إلا عند القاضي، أو من يُوثقه؛ سعياً لدفع ضرره أولاً، وبيان أثره. ولطالما تساءلت في نفسي عن الأسباب التي تحول دون جرأة الفقهاء المعاصرين للوقوف بحزم حين تقتضي بعض أهم المصالح المرسلة للناس ذلك، وهذا من أهمها.

فالزواج يتم ولما يحدث بعد اقتران، وبناء، وأسرة، بينما قد يقع الطلاق بعد البناء، والخلفة، فإذا كان عقد الزواج لازماً شرعاً، فإن وقف انهيار أسرة، وشتات أبنائها، وتفكك صلاتها هو الواجب الأعظم الذي لا يقل قيمةً عنه.

أقول لست أفهم لِمَ لا يُبادر الفقهاء المحدثين بمثل هذه الأحكام التي لا تمس شأن عقيدة، وإنما تقويها، وتعظم شأنها، بتقوية قواعد المجتمع، حين أصبح الزواج ألعوبةً لدى البعض يتلاعب بها كما يشاء بكلمة يتلفظ بها بأنانية مفرطة، ودون شعور بالمرأة، ولا وجل من الله، ولا تدبر في حال أبنائه من بعد الطلاق، إنها لحظةً تتجاوز فيها النفس حدود الأنانية، وتفرط عن منطق العقل الرشيد. كيف للفقهاء أن يتركوا شأن الطلاق بيد أناس لا يقدرون قيمته، ولا يكترثون لأبعاده، ولا يحسبون لعواقبه؟! كيف يقفون مكتوفي الأيدي وهم يشاهدون بيوتاً تهدم، وعلاقات مقدسة تنتهك، وأسراً تتداعى؟! أليس ذلك هو المجتمع الذي يراعون مصالحه، ويحفظون له تماسكه، ويحرصون على بقاء تآلفه، واستدامة قوته، وتعاضده؟!

لقد وجدت ما أنشده في فكر الإمام المجدد محمد عبده (1905-1849) الذي سبق عصره، إذ وجدته يدعو قبل أكثر من مائة عام إلى ما ندعو إليه اليوم؟! إذ يقول: "نحن في زمان ألف رجال فيه الهذر بألفاظ الطلاق، فجعلوا عصم نسائهم كأنها لعب في أيديهم يتصرفون فيها كيف يشاؤون، ولا يرعون للشرع حرمة ولا للعشرة حقا"، وهذا هو ما يحدث في أغلب الأحوال في مجتمعاتنا، فيعبثون بالطلاق عبث الجاهل الأحمق، ولهذه يرى الإمام المصلح أن "كل زوج يريد أن يطلق زوجته؛ فعليه أن يحضر أمام القاضي الشرعي أو المأذون ويخبره بالشقاق الذي بينه وبين زوجته"، ثم يفصل في ذلك حازماً فيقول: "لا يصح الطلاق إلا إذا وقع أمام القاضي أو المأذون، وبحضور شاهدين ولا يُقبل إثباته إلا بوثيقة رسمية".

... إنَّ المصالح المرسلة هي التي دفعت الإمام محمد عبده وغيره من العلماء للحزم بالتوثيق في مسألة الطلاق.. قائلاً: ((مع ظهور الفساد فى الأخلاق والضعف فى العقول وعدم المبالاة بالمقاصد، فلم لا يجوز أن يؤخذ بقول بعض الأئمة من أن الاستشهاد شرط فى صحة الطلاق، كما هو شرط فى صحة الزواج، كما تشير الآية فى سورة الطلاق التى جاء فى آخرها: "وأشهدوا ذوى عدل منكم")). تلاه بعد ذلك أئمة من المطالبين بإلغاء الطلاق الشفهى؛ منهم: الشيخ محمد الغزالي الذي قال فى كتابه "قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة": "أضمُّ صوتى إلى من رفض الطلاق الذى ليس عليه إشهاد؛ فالشاهدان لا بد منهما لقبول العقد والرجعة والطلاق على سواء، وخير لنا نحن المسلمين أن نقتبس من تراثنا ما يصون مجتمعنا ويحميه من نزوات الأفراد".

ولَكَم دارَ في خلدي أهمية ذلك الإجراء بعد تزايد حالات الطلاق نتيجةً لضعف الفهم بمشروع الزواج، وقلة فهم طبيعة الجنس الآخر، وضعف ثقافة قوامة البيوت، وهزالة الحصيلة اللازمة للتربية، على أننا هنا لا نناقش أسباب الاختيار، وبواعث الطلاق، إلا في إطار الحديث عن قضية مراعاة الفقهاء وأهل القرار للمصالح المرسلة التي يتوجب وضعها موضع الاهتمام.

أجل إنَّ قضية الطلاق مُؤرِّقة حقاً، بَيْد أنها واحدة من القضايا التي نضرب بها مثلاً في المصالح المرسلة التي تدل على سعة الشريعة، ومقاصدها الأصيلة في تحقيق مصالح الناس، وجلب النفع لهم أو دفع الضرر أو رفع الحرج عنهم، وهي مصالح تتزامن مع المتغيرات الاجتماعية وفق منظور ديني واسع، وفهم مرن يدلل على اتساع الدين وقدرته على مسايرة اختلاف البيئات، والأوضاع الاجتماعية في إطار العقيدة.

والتشريعات المحدثة التي تقصد ضبط الأحكام، وإعادة الأمور إلى نصابها، وترسيخ قواعد الحكمة، وإسناد الغايات، هي تشريعات ضرورية لا يُمكن التسليم فيها بما تم القول به وإن كان في عصور متأخرة جداً؛ فالمتغيرات التي حدثت في القرن الأخير هي الأسرع والأعظم في تاريخ البشرية.

لهذا؛ إنْ لم يبرهن الفقهاء على عقلية عصرية، متوقدة الذهن، لماعة الفكر، فإنهم سيضربون المثال على ركود الشريعة، وعدم قابليتها لمسايرة المتغيرات التي تحدث في المجتمعات المسلمة التي تتغير سريعاً، نتيجة للمتغيرات العالمية اجتماعيًّا، واقتصاديًّا، وتقنيًّا.

لا يُمكن أن يركد الحراك الاجتماعي على إرث قديم، قام على اجتهادات سابقة فرضتها ضرورات محددة في قرون سالفة، وإنما عليه أن يستمر بفاعلية مع استمرار الحياة الإنسانية على وجه الأرض، يقول د.محمود محمد طه (1909-1985) "الشريعة الإسلامية ليست خالدة، وأول ما ينبغي التنبيه إليه أن الشريعة الإسلامية ليست خالدة، وإنما هي خاضعة لسنة التطور"؛ وبالتالي فإن ذلك يستوجب العمل الحثيث مع المصالح المرسلة التي تتغير بحسب المكان والزمان؛ إذ إن "من الخطأ الشنيع أن يظن إنسان أن الشريعة الإسلامية في القرن السابع تصلح بكل تفاصيلها للتطبيق في القرن العشرين" كما يقول المفكر الإسلامي ذاته في موضع آخر.

إن فهمنا لديننا يقتضي منا أن لا نضيِّقه بأفهام خلت كان لها دواعيها في وقتها، بل أن نبرهن على سعة الدين بتجدد الاجتهاد فيه، وقابلية النظر في مصالح العباد المرسلة؛ فليس الأمر مُقيداً بالشخوص، وإنما بالشريعة وسعتها، وفي ذلك يقول الفقيه القانوني عبدالرزاق السنهوري (1895م-1971م): "الشريعة الإسلامية في حاجة لحركة علمية قوية، تعيد لها جدتها، وتنفض ما تراكم عليها من غبار الركود الفكري الذي ساد الشرق منذ أمد طويل، وتكسر عنها أغلال التقليد الذي تقيد به المتأخرون من الفقهاء".