مناجم الذهب (الحلقة الثامنة)

عائشة البلوشية

مفتونًا بجهاز المورس، الذي رآه في إحدى سيارات الجيش الموجودة في عبري، وبتلك التكتكة الصادرة عن نقر ذلك الجندي على الجهاز.. كان العشقُ لاكتشاف الجديد الذي أصبحَ ساكنا في روحه قد تحول إلى صوت لحوح في عقله، عقد الأمر على مُفاتحة خاله في أمرِ البحث عن طريقة ليعمل في اللاسلكي في قوات السلطان المسلحة حينها، كان ذلك في العام 1967م. ومن فوره، قام الخال المحب بالتواصل مع أحد معارفه للمساعدة في سرعة التحاقه بأول فرصة تلوح في الأفق، وكان التوفيق من الله حليفا له، وحانت الساعة الصفرية لتنفيذ ذلك القرار المصيري، وهو لا يُدرك أن ذلك العشق اللذيذ للاتصالات وأجهزتها، وأن تسخير الله تعالى لجميع الأسباب له لترك كل شيء وراء ظهره والهرب، كل ذلك كان رصفا لطريق مستقبلي يوصله إلى أبعد من أحلامه بمسافات ضوئية، يأخذه إلى ما وراء التوقعات، يؤهله لاكتشاف المعادن الثمينة!

كعادته في حُبِّه للتطلع في صفحة السماء التي تعِد بالخير وتفِي بوعدها دائما، نظر نظرة في تلك الغيوم التي توشح صدر السماء لتضفي على جمالها جمالا آخر، ورسم صورة لمستقبله ورأى نفسه وراء جهاز الاتصالات، ينقر عليه بكل ثقة ويستقبل الرسائل من هنا وهناك، أخذ يعب ناظريه عبا ليخزن في ذاكرته صورَ الضواحي الخضراء الرائعة المحيطة بالمنزل، وإلى تلك الجدران السامقة من الجص، ولسعات من الحزن تحاول شق طريقها إلى عقله لترغمه على العدول عن قراره؛ فهو لا يعلم متى ستكون العودة إلى هذا المكان، كان حزينًا لأنَّ أخاه "علي" سوف يتحمل مسؤولية العمل كاملة بعد رحيله، وهو لا يزال ابن سبع سنين، سحب نَفَسا عميقا واستجمع شجاعته، فقد تحدَّدت لحظة الهروب نحو تحقيق الحلم، وكانت هذه اللحظة هي الفيصل، إما أن يبقى هنا ويودع حلمه، أو أن يكون شجاعا ويتحمل تبعات مسؤولية اتخاذه لهذا القرار.

اصطحبه الرائد دينيسون، والمرافق المترجم حينها محمود بن إبراهيم الرئيسي، حتى وصل الثلاثة إلى معسكر بيت الفلج في مسقط، أحسَّ بنوع من الطمأنينة؛ لأنَّ الأخير أسكنه في غرفته في المعسكر حتى ينتهي من إجراءات التسجيل، كان ممتلئًا بالحماس؛ لأنه ينتظر أن يجلس وراء ذلك الجهاز الأمنية على وجه السرعة، لكنه تفاجأ بما لم يتوقعه نهائيا، وهو أنه لن يستطيع الالتحاق بقوات السلطان المسلحة لأنه تحت السن القانونية ولا يمكن قبوله للعمل، فأحس بأن طامة كبرى حلت به، وأن أحلامه ذهبت أدراج الرياح، علاوة على أن حلمه تحطم على صخرة هذا الشرط، فلا بد أن والده قاتله ضربا بسبب هروبه وعودته بخفي حنين، لكنْ تأتي رحمة الله على هيئة شد وجذب بين الرائد دينيسون وكتبة التسجيل الذي تمكن من إقناعهم بأنه سيعمل في اللاسلكي ولن يكون جنديا؛ لذا فإن شرط العمر يمكن تجاوزه، انتهى من إجراءات التسجيل والغبطة والسرور حليفان له، فاستلم زي التدريب المتكوِّن من سروال قصير وقميص وخرقه صغيرة بيضاء اللون تلف على الرأس، وسُر برقمه رقمه العسكري أيما سرور، ثم انتقل بعدها مع زملائه إلى مركز التوزيع في نزوى، وهناك تفاجأ بأنه سينخرط في التدريب العسكري القاسي في غلا بعد مضي أسبوع، وعندما سأل عن اللاسلكي جاءه الجواب بأن هذه الأمور تحدد لاحقا، وهذا ما حمله على الصبر على قساوة ما مر به، فالوصول للحلم لا يأتي مناما أبدا، بل لا بد للإنسان أن يثبت لنفسه أولا أنه أهلٌ لبذل الجهد عيانا ليصل للحلم وما وراءه؛ بعد انقضاء ثلاثة أشهر من مدة التدريب كان على موعد مع المواجهة الحاسمة مع والده؛ حيث حصل على إجازة سريعة وسيعود إلى العراقي، وبسبب التدريب المضني تحت أشعة الشمس الحارقة فقد نحل جسده وتغير لونه، لدرجة أن بعض الأهل لم يتعرفوا عليه في البداية، خصوصا وأنه وصل العراقي مرتديا ذلك الزي العسكري الجديد على أهل القرية، ورغم صعوبة اللقاء وغضب والده الشديد، إلا أن الوالد الحنون رضخ لاختيار ابنه أخيرا على مضض، ليعود مودِّعا الأهل وهو بعد لم يروِ ظمأ شوقه لهم، وفخره بإنجازه لبداية الطريق يملؤه حماسا للاستمرار، وتمر أشهر التدريب الستة ليتم نقله إلى بدبد، لتتشكل النواة الأولى لكتيبة الصحراء، ومنها تم توزيعه على السرية الحمراء في الرستاق ليتلقى تدريباته هناك، وارتدى زيه العسكري الجديد المكون من البنطال والقميص الكاكي اللون والقبعة الحمراء (البريهه)، فكان كمن علق وساما عظيما.