كيف نحمي المؤسسة من الانقلاب ضد أهدافها (4)

عبد الجواد خفاجي – ناقد وروائي مصري


يمكننا أن نقول إن غرض المؤسسات يظل شريفاً ما لم تُصب بأدواء الفساد السياسي والانحراف الأخلاقي وما لم تتأثر سلباً بالصراع الطبقي والجشع الرأسمالي. وإذا كان الناس على دين ملوكهم فإننا لا نتوقع صلاح المؤسسات واستمرارها في دورها الإنساني مع غياب الديمقراطية وفساد المنظومة السياسية بوصفها منظومة مؤسسية مهيمنة.
ومن ثم فإن المؤسسات بحاجة إلى الحماية السياسية، وإلى المال اللازم لقيامها وضمان استمرارها ونموها وتقدمها، غالبا تسارع الطبقية المنحرفة إلى الدخول في المؤسسات بغرض السيطرة عليها والاستئثار بها، مثلما أن جماعة يؤسسون محلات تعاونية لغرض إيصال البضاعة إلى الناس بالقيمة العادلة، وإذا بالرأسمالية المنحرفة تدخل أنفها في المؤسسة وتتوسع حتى تأخذ المؤسسة بيدها، وتكون المؤسسة حينئذ آلة لامتصاص المزيد من أموال الفقراء، لتكون دُولة بين الأغنياء. وفي بعض الدول التي يشيع فيها الفساد والدكتاتورية كثيراً تتغوَّل مؤسساتها، وتعلو بسلطتها وامتيازاتها وهيمنتها على مقدرات الشعب، وقد تحولت إلى دولة داخل الدولة وربما بسلطات أوسع.
وكذلك أحياناً تُنشأ مؤسسة لتثقيف أبناء الشعب، وإذا بالديكتاتورية تدس أنفها في المؤسسة، لتحتكرها لأجل دعايتها، ولأجل أن تمتص منها الدم الجديد، ليكون وقوداً للمزيد من كبت الناس وإرهابهم وتقوية سلطانها. ولذا يجب على أصحاب المؤسسات الخيرية، أن يهتموا بجعل الشروط والمواثيق؛ لئلا تنقلب المؤسسة إلى ضد أغراضهم الشريفة.
ومع تغَوُّل المؤسسات وانحرافها عن مسارها الإنساني والاجتماعي تُحرم فئات اجتماعية كثيرة من حقوقها وقد أصبحت خارج اهتمامات أو خارج عدالة المؤسسة ، وهذه الفئات تنسحب رويدا من المؤسسة مصابة بالشعور بالنبذ وغياب العدالة ومن ثم تصاب بكثير من الأمراض الاجتماعية مثل : اللا انتماء ، والحقد الطبقي وعدم  الرضا عن الحياة وسائر الأمراض الاجتماعية الأخرى في مقابل أمراض الجشع الرأسمالي والسلطوي الناشئ عن تَغَـوُّل المؤسسات ووقوعها تحت سيطرة أصحاب المصالح والرأسماليين الجشعين.
ومن نتائج ذلك أيضاً حرمان الطبقات الفقيرة من مؤسسات المجتمع الرفيعة وقد أصبح الطقس غير مناسب لها والتحكم في المؤسسات مملوك لغيرها، فمؤسسة البنوك من نصيب الأغنياء، ومؤسسة الجامعات، من نصيب كبار المثقفين، ومؤسسة استخراج السلاح وتنظيمه من نصيب كبار العسكريين.
المثقف ودوره الواجب عندما تنحرف المؤسسة:
مع استمرار انحراف المؤسسات فإن الطبقات الفقيرة ـ التي ظُلِمتْ بتحالف الدولة مع الرأسمالية، أو باستيلاء الدولة على رأس المال ـ تنسحب عن ميدان تأسيس المؤسسات أولاً، وعن ميدان البقاء في المؤسسات بعد أن أسسوها، وذلك لأن اشتغال هذه الطبقات بأمور معاشها لا يدع لها وقتاً للاشتراك، فلا تؤسس وإذا أسست تنسحب بسرعة لتملأ مكانها الطبقة الغنية التي يسير أمر معاشها بيسر.
وإلى هنا نكون قد وصلنا إلى أهمية المثقف ومسئوليته كضمير حي نابض بالإنسانية يوجه وعي الجماهير نحو الخير وقيم العدل والمساواة والعدالة الاجتماعية وما إلى ذلك من قيم إنسانية واجتماعية، وكرقيب على عمل المؤسسات وفاضح لأي انحراف أو تَغَـوُّل لهذه المؤسسات، وهو يشير بقوة إلى جوهر العمل المؤسساتي وما يمكن أن يصيبه من انحراف عن الأغراض العامة والخاصة لقيام المؤسسات.
في كثير من حالات المجتمعات التي تقع فريسة لانحراف عمل المؤسسات المتغولة وسيطرة الطبقية وجشع الرأسمالية عليها تكون الحاجة أكبر من مهام المثقف وقدراته، لأن العمل الواجب في مثل هذه الحالة هو إعادة مأسسة المجتمع من جديد على أسس جديدة عادلة ونزيهة ووطنية وهذا غالبا ما ينتج عن الثورات الجماهيرية التي تسعى إلى اجتثاث الفساد وتنصيب المؤسسات وفق قيم إنسانية عادلة وأهداف حقيقية تعيد للمجتمع شكله الاجتماعي الطبيعي ، وقيمه الحضارية الضائعة وحقه في الحياة والرفاهية.
وليس معني ذلك أن قدرات المثقف ومهامه سوف تصبح منتهية الصلاحية أمام مجتمع مؤسسي صلد يحاول خلعه أو تسليعه، بل على العكس من ذلك سوف يصبح عمله أكبر بكثير بمعية الجماهير كصانع للثورات في ظروف مواتية.
ويصحح فولتير مقولة "الكبت يولد الانفجار" قائلاً: "ليس الكبت هو ما يولد الانفجار، ولكنه بالتأكيد ـ الشعور بالكبت" .. وكأنه كان ـ بمثل هذا التصويب ـ  يشير إلى مسئولية المثقف، الذي عليه أن يحمل هذا الكبت من أساس المجتمع ومن داخل النظام الاجتماعي  ليضعه في ضمير الناس ووعيهم حتى يثوروا على الكبت ويتجهوا نحو التغيير.
ويعتقد بعض المفكرين المعاصرين أنه حينما يحدث التناقض الجدلي في قلب مجتمع ما، فإن هذا التناقض والجدل بين الدعوات ونقائضها يجبر المجتمع على الحركة، ويسير به قُدما إلى الثورة، ويدفعه إلى الأمام ويحرره، وفي النهاية يدخل به في مرحلة أخرى.
يعترض "علي شريعتي" على المقولة السابقة في كتابه (مسئولية المثقف) قائلا: "وهذا الرأي خدعة كبرى؛ فلا يوجد مجتمع أبداً يتحرك ويتغير لمجرد أنه يحتوي على تناقض جدلي في داخله، أي أن فيه تناقض طبقي، فيه فقر وغنى بصورة مفجعة ومنحرفة، ومن الممكن أن يبقى الفقر أو التناقض الطبقي في أساس المجتمع لآلاف السنين دون أن يحدث أدنى تغيير، فليس للجدل حركة" (4)
ويدلل على صحة رأيه بالقول: "ولحد الآن في أفريقيا واستراليا قبائل تعيش في نظام اجتماعي ثابت منذ ثلاثين ألف سنة في حين أن الفقر والتناقض الطبقي يوجدان في هذه المجتمعات بشكل حاد، وهكذا يستطيع المجتمع أن يبقى في التناقض الجدلي، والتناقض الطبقي والفقر والانحطاط لمدة قرون ولا يحدث تغيير إلا إذا انتقلت هذه التناقضات من المجتمع إلى "وعي" الناس. (5)
وهكذا هو يؤكد على أن وجود الفقر لا يسبب الحركة،  لكن الإحساس بالفقر هو الذي يسببها. وهكذا علينا أن نعود دائما إلى مشاعر الناس وأحاسيسهم ووعيهم لنتأكد أنها عند الدرجة القصوى الكافية للانفجار الثوري والتغيير المفترض. ولعل هذه الدرجة الكافية تؤكد إن ها هنا جهد للمثقفين.. أو هاهنا مثقفون على قدر كافٍ من المسئولية في القيام بنقل التناقضات الموجودة داخل المجتمع إلى أحاسيس أفراد هذا المجتمع ووعيهم، ومن ثم يقوم المجتمع بحركته بنفسه.
وربما أن "كوبلز" وزير إعلام "هتلر" لنفس السبب قال: "عندما أسمع كلمة  (مثقف) أتحسس مسدسي" .. فأمام كل ثورة ـ وليس خلفها ـ مثقفون يلهبون المشاعر والأحاسيس، ويثوِّرون الوعي، وهذا أخطر ما في مهمتهم، وكأنهم يسحبون الخريف بزوابعه ليأتوا به إلى صقيع الشتاء، مبشرين في ذات الوقت بالربيع الذي سيقضي على جهامة الصيف. وقد يحدث العكس، فلم تنشب حركة مناهضة كبرى للثورة دون مثقفين ؛ فالمثقفون آباء الحركات وأمهاتها.
وعلى أية حالة لم ينكر أحد على المثقف أنه على وعي باحتياجات عصره، وجيله، ومسئول ـ مسئولية ضميرية ـ عن هداية مجتمعه إلى أول طريق الخلاص، من الوضع المتناقض المدان الذي يعيشون فيه، وتحديد الحلول والمثل المشتركة للمجتمع. ومنح نوعاً من العشق والإيمان المشترك الراسخ للناس الذين يعيشون في الخضم البارد الراكد لمجتمعهم التقليدي المنحط.
هو دور نبوي على أية حالة، فالمثقف الذي يقوم بهذا الدور المثالي، ملزماً نفسه به، هو صاحب رسالة ولا شك، وهو بعض نبي إذ يسير على درب الأنبياء، ليخلق المحبة والإيمان والحركة وهو يسير بالناس إلى الهدى والعدالة. (6)

تعليق عبر الفيس بوك