بدون عنوان!

د. سيف المعمري

ما أكثر الأزمات التي يُتطلب من الدول النامية مواجهتها، إنها إن كانت مُتفوقة في شيء على بقية دول العالم، فهي متفوقة في صناعة الأزمات التي تتوالد وتتكاثر وتبُث اليأس في معالجتها، خاصة حين تتعود عليها هذه المجتمعات، وتدير الحكومات لها ظهرها؛ لأنّها ليست من الأولويات لتضع فيها ثقلها، كما تضع ثقلها في قضايا أخرى، ومن هذه الأزمات التي حذَّر منها البنك الدولي في تقرير عن التنمية في العالم في العام 2018م هي "أزمة التعلم"، التي يرى هذا التقرير أنها ستقود إلى مآلات خطيرة جدا على الأطفال والشباب وتمكينهم من حقوقهم في كثير من دول العالم، هل بالفعل تعاني كثير من دول العالم من أزمة في التعلم رغم هذا الانتشار الكبير المتنامي للمدارس، ورغم حالة التجييش لعدد كبير من المعلمين والإدرايين والأسر كل صباح من أجل تعليم أطفالهم، هل بالفعل لا يتعلمون كما يجب أن يتعلموا؟

إنَّ البنك الدولي لديه من البيانات المتراكمة عبر العديد من السنوات ما قاده إلى دق ناقوس الخطر في المجتمعات التي لا تزال لديها آذان يمكن أن تسمع بها، ولديها إيمان أنه لو طالت اللامبالاة والفساد كثيرًا من القطاعات فيجب أن يظل قطاع التعليم منيعا عصيا؛ لأنه خط العبور بين عوالم فاصلة تفصل فئات عن أخرى، بين ثنائيات التمكين والتهميش، بين العمل والبطالة، بين الاكتفاء والاستقلالية وبين الاعتماد والاتكالية، بين الوعي واللاوعي، بين المطالبة بالحقوق والإصلاحات وبين الصمت، بين المستقبل واللامستقبل، بين الوجود والضياع، إنَّها أزمة أخلاقية كما وصفها في هذا التقرير جيم يونج رئيس مجموعة؛ لأنها تعني وجودَ تعليم بدون تعلم، أو كما وصفها الخبير السابق لليونسكو الدكتور نخلة وهبة -في كتاب صدر له العام الماضي- بأنه "تعليم الجهل"، أي طالما لا يحدث تعلم يتقدم العالم ويظل هؤلاء الذين يقصدون مؤسسات لا تعلمهم جهلة بكثير من المهارات التي تتطلبها الحياة في القرن الحادي والعشرين، كما تتطلبها الأزمات الاقتصادية التي تعيشها البلدان النامية، وهو ما يقود هذه الأزمة إلى توسيع الفجوات الاجتماعية بدلاً من تضييقها.

... إنَّ أزمة التعلم في مجتمعاتنا تظهر في كثير من المظاهر، لعل أوضحها انتشار الدروس الخصوصية بشكل لا محدود؛ فالإعلانات موجودة في الصحف المحلية، وأمام المحلات التجارية في الشوارع الراقية وفي الحارات، كما تظهر في البطالة المتزايدة للشباب الذين خرجوا من مؤسسات التعليم بدون مهارات حياتية أو مهارة تقنية أو تحليلية، أنها الفرص المهدرة التي تضيع على هؤلاء الأطفال الذين يقضون جزءا من وقتهم اليومي وحياتهم يساقون إلى هذه الأماكن التي -كما يصفها البنك الدولي- تمارس ظلما كبيرا عليهم، وتحرمهم من الحياة التي يحياها آخرون في أماكن أخرى توفر فرصًا حقيقية للتعلم؛ وبالتالي هم يُواجهون الفشل في الحياة أكثر من غيرهم، ويعطِي البنك الدولي في تقرير أمثلة على ذلك العجز؛ حيث يذكر أنه طلب مؤخرا من تلاميذ الصف الثالث الابتدائي في كينيا وتنزانيا وأوغندا قراءة جُملة مثل "الكلب اسمه بوبي" إما باللغة الإنجليزية أو باللغة السواحلية، ولكن ثلاثة أرباعهم لم يفهموا ما تقوله الجملة، ومثال آخر كان عن الطلاب البرازيليين الذين تصل أعمارهم إلى 15 عاما الذين حسب التقرير يحتاجون إلى 263 عاما لكي يصلوا إلى متوسط درجات في الرياضيات والقراءة في البلدان الغنية، فكم من السنين ستحتاج مجتمعانا أيها الرفاق المهتمين بالتعليم في هذا المجتمع لتصل إلى هذه المجتمعات، أم يا تُرى أننا لا نفكر في ذلك؛ لأنَّ الله بث فيهم إرادات أكثر إصرارا من تلك التي بثها فينا، أو أنه وهبهم التقدم لأنهم أكثر صدقا وإخلاصا منا؟!

إنَّ أزمة التعلم هي أم الأزمات التي تقود لخلق الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، جيل متعلم بشكل جيد لن يفشل ولن يتفرج على مجتمعه وهو يفشل؛ لأنَّ الفشل ليس حالة حتمية والدليل على ذلك صعود قوى نامية لتنامس الدول الغنية في مؤشرات التعليم ومنها فيتنام وأيضا بربادوس...وغيرها من الدول التي تعمل بجد وصمت وإخلاص لمعالجة الإخفاقات، وتحاسب بدون هوادة؛ فلا شيء يتطلب المحاسبة الصارمة مثل الإخفاق في التعليم، فهل سيقود هذا التقرير إلى محاسبة حقيقة في الدول النامية المعنية التي تمارس الظلم من خلال تضييعها فرص التعلم على عشرات الملايين من الأطفال؟ إن مثل هذا السؤال قد يقود لوضع إجابة محبطة جدا جدا؛ فالتقرير يشير إلى أن الحكومات -وليس العمليات الفنية التدريسية- هي المسبب الأول لأزمة التعلم، فهل ستعمل الحكومات على محاسبة نفسها، ورفع قضية عاجلة ضد نفسها أمام شعوبها، تُعلن لهم أنها تضيع عليهم فرصَ التعلم، وتقودهم لتنمية فاشلة؛ لأنها لا تهتم بإصلاح التعليم، ولا ترفع سقف طموحاتها منه، ولا تصون حق التعلم الأصيل كأحد حقوق الإنسان؟!

لا شك أن أزمة التعلم تتطلب معالجة كبيرة، وتتطلب تقديمَ الحقائق بدون تدخل أو تشويه؛ وذلك يعد الخطوة الأولى للبدء في طريق طويل من السنوات لبناء أنظمة تعليمية تضاهي أنظمة الدول الغنية التي حققت مؤشرات عالية، ويطالب البنك الدولي في التقرير بثلاثة أشياء عاجلة؛ أولا: تقييم مستوى التعلم وقياسه بشكل صحيح وصارم، ثانيا: جعل المدارس تعمل لصالح الأطفال لا ضدهم، ثالثا: حشد كل من له مصلحة في التعلم وعلى وجه الخصوص خلق إرادة سياسية لإصلاح التعليم.. فهل يُمكن أن تلقى هذه التوصيات آذانًا صاغية من قبل المعنيين في الدول النامية؟ هذا سؤال للحكومات، كما هو سؤال للوزارات التعليمية، وسؤال للخبراء والأكادييمين والأسر، وكل من يؤلمه أن يذهب طفله إلى المدرسة لكنه لا يتعلم.