العصر الأورآسيوي القادم: روسيا – الصين – الهند (2)

ماهر القصير – السعودية
باحث في السياسة الدولية


لعب الرئيس الروسي بوتين دورا كبيرا في تحسين العلاقات بين الهند والصين ونجح بالفعل في إقناع الصين بوقف تعاونها العسكري مع باكستان، والآن أصبحت العلاقات الهندية الصينية في أفضل وضع لها في تاريخ البلدين، وأصبحا أكبر المستوردين للسلاح والتقنيات العسكرية الروسية، حيث يستحوذان وحدهما معا على 70% من صادرات السلاح الروسي.
حيث نرى في المستقبل حسب منطق الأحداث و التحولات الحالية الاقتصادية و العسكرية و مستوى القدرة على الاستقطاب و خلق محاور و تكتلات دولية أن روسيا هي التي ستقود هذا النظام بالشراكة مع الصين والهند . حيث أن لدى القيادة الروسية قناعة أن وجود عالم متعدد الأقطاب يشكل بيئة اقتصادية ملائمة لتحقيق المصالح القومية لروسيا، وتدعيم مكانتها الإقليمية والعالمية.
إن نظرية تعدد الأطراف والتعددية القطبية من فصيلة واحدة. فنظرية تعدد الأطراف هي نقيض لنزعة التفرد ، وهي نوع من اليات معالجة الشؤون الدولية واحكام وقواعد اللعبة ، وتؤكد على المصالح المشتركة لكل الاطراف وتقاسم الحقوق والتناسق فيما بينها . ففي تاريخ العلاقات الدولية ، كانت الدول الضعيفة نسبيا كثيرا ما تتخذ من نظرية تعدد الأطراف وسيلة في النضال ضد دول سياسة القوة، وتستخدمها لحماية سيادتها ومصالحها القومية. عندما دعت الصين في السابق إلى التعددية القطبية، لم تكن تهدف استراتيجيتها على المدى القريب لان تصبح قطبا عالميا ، بل كانت تسعى الى كبح نزعة القطب المنفرد، وفي ظل التعددية القطيبية الوقاية من الضغوط الخطيرة والعراقيل الكبيرة التي تشكلها نزعة التفرد الأمريكي على الصين , إن نظرية تعدد الأطراف هي ضمن التعددية القطبية بل وتشكل جوهرها.
إن نظرية تعدد الأطراف تساير مجرى تيار تطور التاريخ . فان اول ما تطالب به هو تعزيز التعاون الدولي ، وتمثيل مصالح جميع دول العالم بما فيها الولايات المتحدة، ولا يوجد حولها اي خلاف ، لذلك تتميز بخاصية " الإبرة في شوال تبن " في النضال ضد الهيمنة الأمريكية. وبالتالي، فان نظرية تعدد الاطراف لم تأت من تفكير الدول الكبرى للمسائل فقط ، بل تبرز بشكل نسبي مصالح ومطالب الدول النامية الغفيرة وغيرها من الدول الضعيفة نسبيا ، كما ويمكن للدول الكبرى كروسيا وفرنسا وألمانيا استخدامها أيضا. وأخيرا إن تزايد عدد أنصار نظرية تعدد الأطراف مع تطور العولمة جاء تمثيلا للاتجاه العام لتطور التاريخ . لذا ، فان الدعوة الى نظرية تعدد الاطراف وتعزيز الدبلوماسية متعددة الأطراف على نطاق واسع، سوف تشكل كبحا قويا للتفرد الأمريكي.
بالإضافة إلى وجود خطر مشترك واضح لهذه الدول الثلاث، وهو الوجود العسكري المكثف للولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو في القارة الآسيوية، وخصوصا في منطقة وسط آسيا المشتركة بينها، وارتباطا بهذا الخطر ظهر خطر جديد في المنطقة وهو الإرهاب المتطرف "العابر القارات"، والذي يستهدف أمن دول المنطقة واستقرارها، ولدى الدول الثلاث اعتقاد مشترك يرقى لليقين بأن واشنطن هي إن لم تكن الداعم والمحرك لهذا الإرهاب الدولي فإنها لاتتعاون معهم لدرءه عنهم ، ولهذا توافق ثلاثتهم على تسميته "العابر القارات" كتسمية مرتبطة بالمؤسسات الأمريكية العملاقة، وكل من الدول الثلاث يشعر بأنه مستهدف آجلا أو عاجلا من هذا الإرهاب، وقد ورد هذا في تصريحات قادة الدول الثلاث أكثر من مرة. وفي إطار هذا التحول جاء بناء علاقات مميزة مع الهند والتقريب بين كل من بكين ودلهي، ومنذ لقاء وزراء خارجية الهند والصين وروسيا (2 يوليو 2005) بدأ الحديث عن ولادة محور ثلاثي في آسيا. ولعل روسيا سعت، إلى بناء تحالف من هذا النوع، وما تشير إليه خطوات وتصريحات القيادة الروسية بهذا الشأن، تدل على أن روسيا تسعى إلى تحقيق أمرين:
الأول: ضمان الاستقرار والهدوء والتفاهم في العلاقات بين مراكز القوى الرئيسية الكبرى في آسيا (موسكو، بكين، دلهي).
والثاني: تحييد الهند كحد أدنى عن الانخراط في خطط أمريكية تهدف إلى توسيع النفوذ الأمريكي في منطقة آسيا الوسطى، وغيرها من مناطق آسيا التي تعدُّها روسيا مناطق نفوذ تقليدي لها.
ونرى أن روسيا قررت تبني سياسة خارجية (متعددة المسارات والأوجه) حسب تعبير الرئيس بوتين، أي أنها لن تكون موجهة نحو الغرب أو الشرق فقط، بل ستكون سياسة خارجية هادفة إلى تقوية العلاقات مع الجميع، وفتح حوار مع مختلف القوى الدولية والإقليمية.
ويرى المراقبون أن الدبلوماسية الروسية تركزت على المحورين الشرقي والجنوبي، أي آسيا التي تضم دولا كبرى مثل الصين والهند، وتقع فيها أيضا مناطق النفوذ السوفيتي سابقا، التي يدور حولها في السنوات الأخيرة تنافس روسي أمريكي.
وقد أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن استراتيجيته قبيل الانتخابات الرئاسية عام 2012، التي تتجاوز مجرد إعلان نوايا انتخابية حيث كتب : "إن العالم على وشك الدخول في مرحلة من الاضطرابات ستكون مؤلمة وطويلة".ولهذا وبلهجة تقطع الشك باليقين يؤكد على أن لا انصياع لروسيا وراء الأوهام حيث ينهار نظام القطب الواحد الذي لم يستطع إقامة الاستقرار العالمي فيما مراكز التأثير الجديدة ليست مستعدة بعد للقيام بذلك، أي أننا أمام مرحلة طويلة من المواجهة مع النظام القطب الواحد ريثما يتم تبلور قوى التأثير، وبالتالي النظام الجديد الذي نرى روسيا تقود مشروعه بالتحالف والاستقطاب والتدخل للدفاع عن المصالح المشتركة مع ولصالح شركائها بشكل دقيق ومدروس وهذا ما كانت تفتقده روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي ونسيه عالم ما بعد الحرب الباردة و بدأ بتشبيك المصالح ليس على المستوى الإقليمي أو القاري بل على المستوى العالمي لتشكيل المصالح الدولية بشكل وآلية جديدة. ولهذا سعت روسيا خلال السنوات الأخيرة لبناء شبكة من التحالفات مع القوي الكبرى المحتمل أن تتحول إلى أقطاب عالمية خلال العقد أو العقدين القادمين، مثل الصين، والهند، والاتحاد الأوربي، والاستفادة من هذه التحالفات لتعزيز وضعها ومكانتها الإستراتيجية، والحد من تغلغل الوجود الأمريكي في مناطق النفوذ الروسي التقليدية, ويمكن تسمية العصر القادم بـ(العصر الأوروآسيوي).

تعليق عبر الفيس بوك