الحياة الفكرية والثقافية في عـُمان في النصف الثاني من القرن الثامن عشر:

لغة وأسلوب المخاطبات الرسمية: (8/11)

د. صالح بن عامر الخروصي – سلطنة عُمَان

 

    ارتبطت عمان بعلاقات سياسية واقتصادية مع القوى المحلية والإقليمية المجاورة لها ومع القوى الدولية ذات التأثير على مجريات الأوضاع في المنطقة. وتبادل حكام عمان وزعماء تلك القوى المراسلات لرسم معالم تلك العلاقات. ونحن إذ ندرس أدب تلك الفترة يجدر بنا أن نلقي نظرة على لغة وأسلوب تلك المخاطبات باعتبارها مظهرا من المظاهر الأدبية النثرية بشكل عام. وتحتفظ دور الإرشيف في فرنسا وبريطانيا وتركيا بمعظم المراسلات التي تمت بين قادة تلك الدول وممثليهم في المنطقة مع حكام عمان خلال الفترة التي تناقشها هذه الدراسة، ومن خلال إطلاعنا على البعض من تلك الوثائق أمكننا الخروج بالملاحظات التالية:

أولا: تتصدر الخطابات ألقاب المرسل والمرسل إليه، وفي العادة فإن الألقاب تكون ذات صيغة تفخيمية وتتشكل من ألفاظ مترادفة، ومن نماذجها الخطاب الذي وجهه الإمام سعيد بن أحمد البوسعيدي إلى القنصل الفرنسي في بغداد جون فرانسوا إكزافي روسو Jean Français Xavier Rousseau  ومما جاء فيه : " ... من المتوكل على الله سبحانه إمام المسلمين سعيد بن الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي الأزدي العماني إلى حضرت الأكرم المكرم المحب الناصح موسى رسل باليوز الفرنسي سلمه الله تعالى ". وهذا الخطاب مؤرخ في 24 من ذي الحجة 1200هـ/ 18 أكتوبر 1786م. ويشيع الخطأ عند كاتب الرسالة في إسم روسو إذ يكتب (رسل) كما يسبقه خطاءً إسم آخر هو موسى تحريفا للقب (السيد أو مسيو بالفرنسية Monsieur) ، أما لقب باليوز فهندي الأصل ويعني مسؤول الوكالة الانجليزية التي تتباحث مع السكان المحليين. وجاء في نموذج مؤرخ في 6 ربيع الثاني 1202هـ/ 16 يناير 1788: " إلى عمدة المحبين وتاج المؤدبين الخالصين الأمجد الأنبل، عيون أعيانه، ورئيس أمثاله، موسى رسل  قونصل طائفة الفرنساوية ساكن حالا في مدينة بغداد دار السلام، من عبد الله الواثق بالله المتوكل على الله المعتصم به إمام المسلمين سعيد بن الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي الأزدي العماني ". والملاحظ هنا أن الإمام يذكر في ألقابه أصله القبلي فهو البوسعيدي أزدي عماني، وهذا النوع من الاعتزاز بالنسب شائع في مراسلات ذلك العصر. وقد ورد في خطاب وجهه السيد خلفان بن محمد الوكيل والي مسقط إلى روسو أيضا ما نصه : " حضرت الأكرم المكرم سنيور موسى رسل باليوز الفرنسي سلمه الله، سلام سليم وثناء عميم ودعاء مستقيم، وعلى شروط المحبة والمودة مستقيم، يهدي ويتحف، ويجلي ويزف، إلى جناب عالي الجناب، الأكرم المكرم، الأوحد الأسعد، المحب الناصح، والود الوفي الراجح، سلمه الله شر كافة الأشرار، ونجـّاه الله تعالى من كيد الفجار، بجاه محمد وآله وصحبه الأبرار". ويقدر تاريخ الرسالة بحوالي فبراير 1788، والملاحظ هنا أن الشيخ خلفان يستخدم لقب سنيور الذي يعني السيد باللغة الاسبانية Senior وهو لقب غير مستخدم لدى الفرنسيين بطبيعة الحال. كما ذكر الشيخ خلفان لقبا آخر هو (عالي الجناب) الذي يشيع استخدامه عند العثمانيين ويطلق على كبار المسؤولين والوجهاء.

ثانيا: بعد سلسلة الألقاب والتفخيم التي تتصدر تلك الرسائل اعتاد حكام عمان ـ كمدخل للحديث ـ أن يطمئنوا المرسل إليه عن صحتهم وأحوالهم، وأن يظهروا بالمقابل تمنياتهم للمرسل إليه بدوام الصحة والعافية. ومن بين الأمثلة على ذلك ما ورد في رسالة الإمام سعيد إلى القنصل الفرنسي روسو، إذ جاء فيها : " ... مهما تحرك الخاطر بالسؤال عنا ورام كيفية الحال منا، فإنا نحمد الله الذي لا إله إلا هو على ما مـّن به علينا من فضايله العظام والآية الجسام...، ونسأل الله الكريم المولى الرحيم أن يتم لك النعيم والخير المقيم" . والرسالة مؤرخة في 7 من ذي الحجة 1204هـ الموافق 19 أغسطس1790، و تتعدد الأمثلة في هذا الشأن.

ثالثا: بعد ذكر مضمون وتفاصيل الموضوع ينتهي الخطاب عادة بالتأكيد على الرغبة في دوام العلاقات الحسنة، مع طلب إبلاغ التحية والسلام لكبار القوم، كما يهدي تحيات عائلته وكبار مسؤولي دولته إلى المرسل إليه. ويذيـّل الخطاب بتاريخ كتابته بالتقويم الهجري، ومن نماذج ذلك ما ورد في خطاب الإمام سعيد إلى روسو، وقد جاء فيه : " ... وخص أكمل التحيات وأزكى الدعوات إلى جهة الأجل سلطان طائفة الفرنساوية، والأمراء والوزراء، لا سيما من عندك الأكرم الأعز الباشا في بغداد وجميع المحبين والأصدقاء، وخص نفسك منا ألف ألف تحية وألف دعاء، ومن لدنا يخصونك بالتحية الكاملة أولادنا وإخواننا والشيخ خلفان بن محمد وأولاده المحبين، وإن بدا غرض من هذا الجانب أم شيء من الحوايج فإنها مقضية إنشاء الله تعالى على الوفاء والكمال، والحمد لله رب العالمين، آمين يا رب العالمين. حرر يوم السادس من ربيع الثاني سنة 1202"، ويصادف هذا التاريخ في التقويم الميلادي 16 يناير 1788.

رابعا: يشيع استخدام المحسنات اللفظية والبديعية من جناس وطباق ومترادفات في خطابات الحكام،إذ كانت لغة العصر مما يستوجب تطريز الخطابات وزخرفتها. ونشير هنا إلى ما ورد في الرسالة التي وجهها الإمام أحمد بن سعيد إلى السلطان عبد الحميد الأول (1773- 1789) حول استعداد الدولة العثمانية لاسترداد البصرة في عام 1779 بعد تعرضها للإحتلال الفارسي، وقد جاء في الرسالة: " ... وصلت الرسالة الهمايونية البارعة في بلاغتها وأسلوبها، فعطرت المجالس والمحافل بطيب فحواها، وأنقذت النفوس والمسامع من شوائب ظلمات الأحزان والأكدار، وحملت الأخبار السارة من أن الدولة العلية أعدت قوة عظيمة للثأر".  

خامسا: حفلت تلك المخاطبات بأخطاء إملائية ونحوية وشاعت فيها مصطلحات من اللهجة المحلية وأخرى أجنبية. فمن الأخطاء كلمة "الآية الجسام " والصحيح " آلاءه الجسام "، كما وردت كلمتا " الحيات" و"الممات" بالتاء المفتوحة، وظهرت مصطلحات عامية مثل " طريشك " وتعني: رسولك أو مبعوثك. وكلمة " الطروش " وتعني الرسائل أو الأغراض المرسلة. أما المصطلحات الأجنبية التي وردت في تلك المخاطبات فمنها على سبيل المثال (باليوز) التي يقصد بها رئيس الوكالة الانجليزية
ج: التأثير اللغوي الأجنبي على اللغة العربية

    نتج عن القرب الجغرافي بين عمان والبلدان المجاورة كالهند وفارس تبادل حضاري على أصعدة مختلفة، وما يهمنا في هذا الجانب التأثير اللغوي الأجنبي على لغة أهل عمان اللغة العربية، فمن المصطلحات الفارسية التي ظهرت في الأدبيات العمانية مصطلح (سركار) التي تعني رب العمل أو رئيس العمال، ومصطلح (الغراب) الذي يعني المركب أو السفينة الشراعية ذات الصاريتين أو أكثر وهي مبنية على طراز سفن شركة الهند الشرقية السويدية إلا أن قيدومها منخفض وحاد ، و (بيشكار) التي تعني المستخدم في الأعمال المنزلية والتجارية، و (دروازة) وتعني بوابة.

كان تأثير اللغات الهندية ملحوظا على المناطق الساحلية في عمان والخليج أكثر منه على المناطق الداخلية في هذه البلدان، ويرجع ذلك لاستقرار التجار الهنود على السواحل، فيما كان الكثير من أهل الخليج يزورون الهند لقضاء مصالح متعددة. وكان من نتائج ذلك أن ظهرت بعض المصطلحات الهندية في المعاملات التجارية العربية منها على سبيل المثال الدانة (Danna) التي تعني اللؤلؤة الكبيرة غالية الثمن، و جيوان Jiwan)) وتعني اللؤلؤة المستديرة البيضاء، والبوكا (Buuka) وهي اللؤلؤة الصغيرة رخيصة الثمن، و (التشاو) أو (الجو) وهي الوحدة المستعملة في بيع اللؤلؤ وهي حساب تقريبي وليست وحدة وزن. وشاعت أيضا كلمة (راتي) وهي وحدة وزن تستعمل في تجارة اللؤلؤ. أما وحدة وزن البضائع فكانت تسمّى المن  (Mund). ولا زالت هذه الوحدة تستخدم في بعض أسواق عمان حتى اليوم. وفي إطار التعامل التجاري أيضا شاعت العملة الهندية المعروفة بالروبية (Rubbe) حتى منتصف القرن العشرين. وظهرت عملات هندية أخرى مثل: الآنة (Aana) والبيزة أو البيسة (Baisa) ووجدت مصطلحات للأرقام الهندية ومنها: (لكّ) وتعني مئة ألف، و (كرور) وتعني ملايين. كما شاعت مسميات هندية للكثير من أصناف المواد الغذائية والأقمشة بحكم استيرادها من الهند. وشمل التأثير الهندي أيضا مجال الملاحة، فقد عرف الهنود بركوبهم البحر وبنائهم الاساطيل، كما اشتهر العمانيون بأنهم ربابنة مهرة، إلا أن عمان لم تمتلك الأنواع المناسبة من الأخشاب لبناء السفن، فاستوردوها من الهند، كما استوردوا منها بعض المسميات لأنواع من السفن مثل:  (البلم) و(الهوري) و(الكوتية) و (الداو). 

تعليق عبر الفيس بوك