مزارعو النجد.. و6 ملايين ريال سنويا!

د. عبدالله باحجاج

انتظر مزارعو النجد عقودًا لتسوية أوضاعهم الزراعية من حيث الحيازات الزراعية، ومن حيث وسائل دعمهم المالي والمعنوي من الجهات الحكومية المحلية والمركزية، وخلال الساعات الماضية، صدر القرار المنتظر، فهل كان في مستوى تطلعات المزارعين؟ وهل القرار يشجع الزراعة في النجد خاصة في شصر وهيلة الراكة؟ وهل راعى القرار مبدأ المساواة بين المزارعين في عموم البلاد، أم تعامل مع صحراء الربع الخالي بمعايير مختلفة؟ وما مدى قبولها لدى المزارعين؟

في البداية، لابد من القول صراحة إن القرار يشكل صدمة كبرى للمزارعين، ويحبط نفسياتهم، وقد يدفع بالكثير منهم إلى ترك الزراعة، وهذا يعني إشهار إفلاسهم -أي خراب بيوت- بعد أن استدانوا من البنوك على ذمة رواتبهم الشهرية، ورهنوا ممتلكاتهم من أجلها، فالقرار يمنح لكل مزرعة 100 فدان، كحق انتفاع، ويفرض عليها 50 ريالا على كل فدان سنويا، أي كل مزرعة عليها أن تدفع 5 آلاف ريال سنويا، ويحق لنحو 1196 مزرعة الاستفادة من هذا القرار.

هل تدرون حجم المبالغ السنوية المترتبة على هذه المزارع سنويا؟ إنها 5,980,000 ريال عماني، أي قرابة 6 ملايين ريال.. والسؤال هنا: ماذا تعني هذه الملايين؟ إنها تضع العربة أمام الحصان، حتى لا ينطلق، وكذلك، فشل تجربة الشباب الزراعية النجدية، وعلى الفور سارع مجموعة من المزارعين للالتقاء بنا، وقد عبروا عن استيائهم من القرار، وأكدوا أن القرار قد استند لمعلومات غير صحيحة أو دقيقة، وتساءلوا: كيف سيتمكن هؤلاء المزارعون من توفير تلكم الملايين؟ من هنا يُمكن القول إن القرار فوق الواقع، بل وفوق التصورات العقلية، ولسنا ندري، كيف، ومن صاغه؟ رغم ما يقال أن وراءه لجنة من عدة جهات حكومية، ولو سلمنا بذلك، فإن مرئياتها لا تلامس الواقع تماما، وهى أقرب للتعجيز، بل، وكأنها تدفع بالكثير من المزارعين المتحمسين إلى هجرة الأرض، وهذا يعني مجددا لدواعي التأكيد "خراب بيوت"؛ لأن الكثير من المزارعين لن يتمكنوا من دفع تلكم الرسوم السنوية؛ فمزارعهم لا تزال في مراحل تسديد الديون وفوائدها، وتغطية خسائرها، فكيف ستتمكن من دفعها؟

لذلك؛ نتساءل: على أي شيء تم بناء رسوم حق الانتفاع؟ ولماذا لم يتم مراعاة مواقع المزارع، وهى تبعد عن ولاية صلالة أكثر من 180 كم، وهى صحراء الربع الخالي؟ وما أدراكم ما الصحراء؟ كما تقول المقولة الشهيرة: "الداخل فيها مفقود، والخارج منها مولود"، غير أنها وبمبادرات هؤلاء الشباب قد حولوها إلى واحة خضراء، ومنطقة أمن واستقرار، زرتها مرتين خلال الأسبوعين الماضيين، وقضيت فيها ليلة، لم ينتابني شعور الخوف أو الإحساس بوجودي في الصحراء، وكتبت عنها سلسلة مقالات، وقريبا، سننشر قصة نجاح هؤلاء الشباب في استزراع الصحراء، سنبين فيها بداية أجدادهم في البحث عن المياه في الصحراء، وكيف شكلوا إلهاما للأبناء، وقوة دفع معنوية كبيرة للتوجه للصحراء، سنكشف بداياتهم التي كانت من البنوك، والآن نجاحاتهم الباهرة التي قلنا في مقالاتنا السابقة إنها تبعث برسالة عاجلة لصناع القرار حول إمكانيات النجد في محافظة ظفار في تأمين سلة غذائنا، وهناك مساعٍ كبيرة، لنشر قصة نجاحهم عبر إحدى القنوات الفضائية العمانية، وربما العربية، خاصة وأن المخرج المشهور أحمد سالم باحجاج قد تمكن بخبراته التليفزيونية التراكمية الطويلة من توظيف كل عناصر النجاح الفنية للمادة المكتوبة، وجعلها ناطقة باسم نجاحاتهم، معلنة للرأي العام أن نجاحات هؤلاء الشباب في صحراء الربع الخالي، ينبغي أن تُدعم لا تعرقل، وينبغي أن تراعِي ظروف كل المزارعين، وليس التعميم، والشمولية، وليس صفة الإلزام السلطوية، وليس بالحسابات الخاطئة.

ستة ملايين ريال عماني سنويا، كيف سيتمكن كل المزارعين من دفعها؟ فهل لدى صناع القرار، ومَن وراءه، علم يقيني بمقدرة كل المزارعين على دفع تلكم الرسوم المرتفعة جدا؟ العلم بالخلفيات مهم، وعدم معرفتها يكشف لنا التحديات التي تواجهها القرارات، مقابل تداعياتها على مصالح مجموع المواطنين، وما يمكن أن تثيره من احتقانات مجتمعية نتيجة عدم موضوعيتها، فتلكم الرسوم عالية جدا، وغير مقبولة جدا، وفوق مقدرات معظم المزارعين، وينبغي أن تراجع فورا.

والشيء نفسه بالنسبة لمسألة حق الانتفاع؛ فقد كانت نجاحات الشباب في الصحراء تشفع لهم بحق التملك وليس الانتفاع، خاصة لمن يثبت على الواقع صدقيته ومصداقيته في الزراعة، من حيث وجوده الزمني على الأرض، ومن حيث إنتاجاته الزراعية التي أصبح سوقنا المحلي يكسر بها الاحتكارات الأجنبية، فهل ينبغي أن يُدعموا أم يُعرقلوا؟! هم في البدايات الإنتاجية، وحمايتهم واجب وطني، وأهم هذه الحمايات عدم فرض رسوم عليهم الآن، فكيف يُتعامل معهم على أنهم أدوات مالية لرفد خزانة الدولة بالملايين سنويا؟ إنها سابقة مكانية، لا نظير لها، فمَن وراءها؟ وكيف مُرِّرت على صُناع القرار؟ يبدو أنهم لم يدرسوها بتمعُّن، وبعقلانية، ولو فعلوا لهزتهم تلكم الملايين السنوية!! والشيء نفسه، نتساءل عن الحيازة الزراعية، لماذا لم تُمنح؟ لن نقبل حجية الأرض البيضاء؟ فهذا صحراء شاسعة، لا يمكن مقارنتها بالأراضي البيضاء في المدن، فلماذا لا يُمنحوا حق التملك أسوة بمن مُنحوا أراضي زراعية داخل المدن وبرسوم زهيدة جدا؟ والتساؤل الذي يُطرح هنا: أين هي الآن هذه الأراضي الزراعية الأصيلة المنبع والجذور التي منحت لكبار المسئولين في صلالة بأقل الأثمان؟ وكيف سمحت السلطات المحلية بتحويلها إلى تجارية وسكنية ربما بالمجان؟

هنا.. تبدو التناقضات واضحة، وإبرازها لدواعي الدفاع عن مصلحة هؤلاء الشباب، يدخل من ضمن واجبتنا، بعد أن تبنينا ملفهم منذ البداية بصورة مجردة بصورة خالصة تماما، لذلك، نقول إنَّ الأراضي الزراعية بدلا من المحافظة عليها، ملَّكناها ذوات بعينها، ومن ثم سمحنا لها بتحويل استخداماتها، بينما نضع العراقيل وحواجز التعجيز أمام إرادات الشباب السحرية التي حوَّلت الصحراء إلى جِنان خضراء، تُبشِّر بمستقبل عذائي واعد للبلاد والعباد، وكان لهم السبق للصحراء قبل الشركات في اكتشاف إمكانياتها، واستخراج خيراتها.

تلكم الملايين الستة تقريبا، غير منطقية، ولا يمكن تحصيلها أبدا؛ لأنها فوق مقدرات المزارعين، ولا يمكن تصور أو حتى توقع أن يترك المزارع الجاد مزرعته بعد هذا القرار؛ فهذا سيدخله في إشكاليات قضائية، واحتمالاتها المؤكدة أسوأ، فوراها "خراب بيوت". ومن هُنا، ندعو معالي وزير الزراعة والثروة السمكية ووزير الدولة ومحافظ ظفار، إلى السعي لإعادة النظر في هذا القرار، واستصدار آخر يكون منطقيا مع الواقع، ومع حاجات البلاد الملحة للأمن الغذائي، فأبناؤكم يستحقون الدعم المؤسساتي، والمعقول معقول، والملايين الستة غير معقولة تماما؟!