أدب التزفين (ترقيص الأطفال) (4 -5)

أ.د/ إيمان محمد أمين الكيلاني - الجامعة الهاشمية – الأردن

 

وإذا كانت الأم الرؤوم تغني هذا محبة في سيد الخلق فليس بالغريب أن تترعرع هذه المحبة أيضاً في قلب ابنتها، وهي أخته من الرضاع الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى، وكانت ترقصه في طفولته، وتغنيه برجز من شعرها ، ومما ورد في شعرها فيه- صلى الله عليه وسلم:
هــذا أَخٌ لي لَـمْ تَلِــدْهُ أُمّــي
وَلَيْسَ مِـنْ نَسْلِ أَبي وَعَمّي
فَدَيْتُـهُ مِـــنْ مُخْـــوَلٍ مُعَــمِّ
فَأَنْمِــهِ اللهُــمَّ فيـــما تُنْــمي
فتجيش نفسها، وتفيض وصفاً لحبها له، فهو الأخ وإن لم تلده أمها، ولم ينجبه أبوها، لكنه المفتدى عندها فهو الكريم عماً وخالاً؛ فيكون الدعاء لله- عز و جل- بأن ينميه فيما ينمي"أي يجعله من أبناء النماء، وهي لفظة تشمل النمو الجسدي والروحي والمادي وغيرها. ومناط اهتمام التزفينة الجملة الاسمية التي تبتدىء باسم الإشارة "هذا" تحديداً للمزفن لحماً ودماً وصورة، وخبرها أخ، وهذه اللفظة التي تتضمن معنى القرب في أسمى صوره تتلوه ألفاظ من معجم الأسرة(أمي،أبي،عمي)، فهو وإن كان ليس ممن تربط المزفنة به وشيجة الدم من جهة الأم، أو الأب، أو العم، وهي الروابط المألوفة في الجاهلية، لينتمي المرء إلى آخر لدم أو نسب يجمعهما، فإنّ أخوة هذا الأخ تعلو فوق ذلك وتسمو حتى تجدها تدعو ربها بأن تفديه بصيغة الماضي، توكيداً لرغبتها الحقيقية في الفداء، ويلحظ أن في جملة "فديته" حذفاً، إذ حذف القيد المخصص الدال على(المفتدى به)، فهل تفديه بالمال، أو بالجاه،أو بالعمر، أو بالأهل؟ إن الحذف في هذا الموضع يعطي احتمالاً واسعاً شاملاً لكل ما يمكن أن يفتدى به، منفرداً أو مجتمعاً.
     وهو "مخول ومعمّ" فهي تزفنه بعراقة نسبه وشرفه من جهة الخال والعم، ونجد أن ضمائر المتكلم تغلب على النص فهي أربعة ضمائر مقابل ثلاثة ضمائر للغائب تعود على المزفَّن؛ ربما لأنه كان صغيراً أيضاً، كما أنه إشعار بضعفه طفلاً - صلى الله عليه وسلم- وحاجته إلى قوة يمده بها المدعو -عز وجل- فهو المخاطب القادر على أن يهب له ما تتمناه"المزفنة" وهو "اللهم" الذي تدعوه بأن ينميه فيما ينمي.
     ولعل الدعاء للطفل بالبقاء والنماء مرده إلى أن كثيراً من الصغار كانوا معرضين للموت بسبب الأمراض الفتاكة، وضعف مناعتهم في ظل الظروف القاسية، تلك الأمراض التي قل تأثيرها في زمننا بسبب الوعي الصحي، وتحسن ظروف الحياة، واكتشاف ترياق لها، أو القضاء على سببها بالعقاقير وغيرها.
     أما علة تقسيم الضمائر بين المتكلمة والمزفن فذاك ؛لأن الحديث عن علاقة بين الاثنين، هي وشيجة الأخوة التي تغلب أخوة الدم والنسب، والهدف أصلاً من التزفين هو إبراز هذه العاطفة الجياشة للطفل وزرعها فيه؛ ليكون قادراً على الحب، كما كان مستقبلاً للحب من الآخرين.
      وقالت أيضاً في ترقيصه ، صلى الله عليه وسلم:     
يـا رَبنّـَا أّبْــقِ لَنـــا مُحَـمَّـدا
حَـتّـى أَراهُ يـافِـعًـا وَأَمْـرَدا
ثُـــمَّ أَراهُ سَيِّــدًا مُسَـــــوَّدا
وَاكْبِتْ أًعاديهِ مَعًا وَالحُسَّدا
وَأَعْطِــهِ عِــزًّا يَـــدومُ أَبَدًا

    أما تزفينها له بـ"يا ربنا أبق لنا محمدا " فيبتدىء بالدعاء بـ"يا" النداء للبعيد مكانة وعظمة، القريب سمعاً واستجابة، وأما الضمير"نا" في "ربنا" و"لنا" فهو إشارة إلى أنها ليست وحدها المحبة له والداعية، وإنما هي واحدة من جماعة هي أسرتها التي تدعو جميعاً رباً واحداً؛ ليبقى"محمد" "لهم" جميعاً، إذ تشير"لنا" إلى أنه مخصص للمتكلمين ويعنيهم مباشرة فهو منهم وهم منه؛ لذلك استعملت اللام الدالة على الملكية، وهو امتلاك حب لا غير، لكن الضمير يتحول إلى ضمير المتكلمة المفردة في الشطر الثاني؛ ليكون هذا الدعاء بالبقاء رهيناً بغاية زمانية هي "أن أراه يافعاً، وأمرداً"، إنه دعاء لنفسها بالبقاء لا حباً في البقاء، بل حباً في أن ترى محمداً باقياً في أوج اشتداده "يافعاً أمرداً" ليس هذا فقط، بل تريد أن تراه في مراحل عمرية متقدمة مقترناً بالسيادة. فتأتي " ثم" التي تشير إلى معنى الترتيب على التراخي حتى "أراه سيداً"، ليس هذا فقط بل "مسوداً"، فالسيد هو المتصف بصفات السيادة في ذاته، وأما المسود، فهو من يعطى السيادة بتخويله بتولي أمور قومه، إذ اللفظة على وزن اسم المفعول؛ فهو دعاء له بأن يجمع بين قيم السيادة خلقاً، واشتهاراً بذلك حتى يسود، بأن يطلب الآخرون إليه أن يسودهم، وما دام كل سيد مُسَوَّد معرضاً للحسد والحساد من الأعادي فلابد للمزفنة أن تستبق وتحترز بأن تدعو على أعدائه وحساده بالكبت، وهو الموت كمداً، وإسرار الحسد مع عدم القدرة على الإتيان بسلوك بدافع من عدائهم وحسدهم لضعفهم، وإذا كانت السيادة هي غاية ما يمكن أن يُتمنى، فإن الشيماء لا تقف عند هذا، بل تسأل الله- عز وجل- أن يعطيه "عزاً لا يموت أبداً"، وقد كان ما تمنته لأخيها وما دعت له به، بل ربما رأت بفراستها ما في وجه ذلك الطفل العظيم من نور جعلها تستكنه بعين الحدس ما يستحق وما ينبغي أن يكون له- صلى الله عليه وسلم .
    ويلحظ انزياح هنا في كلمة "لا يموت" إذ إن المألوف "لا يزول"، غير أنها أسبغت على العز المراد لمحمد- صلى الله عليه وسلم- الحياة، فهو كائن حي، وإذا كان شأن كل عز أن يموت وموته زواله، فإنها تنشد له عزاً تنتفي عنه سمة الموت، وهذا يعني بالضرورة حياته واستمراريته، وإذا كان كل عز سيموت، فإن عزه يموت بموته، غير أن محمداً من بين كل البشر حيٌ في قبره، عزه باقٍ لا يموت، وهو مما ذكره محمد بن علي الأزدي في كتاب الترقيص، وكان إذا أنشد هذا يقول: ما أحسن ما أجاب الله  دعاءها!  . فهو العز الذي لا يموت "أبداً"، حيث "أبداً" قيد زماني، ليفيد الإطلاق الزماني غير المحدود ؛ وإذا كان طلب العز الذي لا يموت أبداً بحق أي من البشر من قبيل المبالغة؛ لأن الأبدية لكل حي تنتهي بموته، فإن هذا بحق محمد- صلى الله عليه وسلم- من قبيل الحق والواقع الذي خرق المألوف والمعتاد من سنن الله في الكون؛ إذ وهب له ربه- عز وجل- هذا العز الذي لا يموت أبداً!
     - أما القافية فجاءت بحرف الدال آخر حرف في اسمه- صلى الله عليه وسلم- وجاءت الدال مطلقة مناسبة لكون محمد هو من يقع عليه فعل المخاطب"ربنا"، فهو المتلقي الذي يقع عليه فعل الخير منه تعالى، ولا شك في أن تكرار هذه القافية جاء بإلحاح من القافية الأولى "محمداً" إذ إن اسم المزفن حاضر يلح على الذاكرة ويفرض موسيقاه المتمثلة في الدال المطلقة في هذا السياق، والضمير العائد عليه كذلك، فمحمد غائب؛ لأنه كما أشرنا سابقاً  صغير فقير، يدعى له رب كبير بصير ،حاضر ناظر. وتقول- رضي الله عنها- فيه   
مُحَـمَّــدٌ خَــيْرُ البَشَــرْ
مِمَّنْ مَضى وَمَنْ غَبَرْ
مَنْ حَجَّ مِنْهُمْ وَاعْتَمَرْ
أَحْسَنُ مِنْ وَجْه القَمَرْ
مِـنْ كًلِّ أُنْثـى وَذَكَــرْ
مِنْ كـُلِّ شَبـوبٍ أَغَـرّ
جَنِّـبْنِـيَ اللـهُ الغِـيَـــر
فيـهِ وَأَوْضِحْ لَي الأَثَرْ
     فيغلب على هذه الأغنية الجمل الاسمية التي تصف محمداً صلى الله عليه وسلم، فتبدأ بالجمل الأساس التي فيها محمد المبتدأ، وأما الخبر فصيغته التفضيل"خير" التي جاءت لتفضله على البشر جميعاً، فلفظة البشر هي المفضل عنه، ليس هذا فقط، بل ليس التفاضل بينه وبين البشر في زمنه ولكن على مر الأزمان ممن مضى، وبل ممن سبقهم و"غبر"، أي الذي صار رفاته غباراً، ولا يدخل في هذا التفاضل في الخير إلا من كان صالحاً متنسكاً، وعلامة تنسكه أن يكون ممن حج أو اعتمر، فهو خيرهم جميعاً خُلقاً ، أما الخَلق فليس بأحسن منهم، بل أحسن من مقياس الجمال في ذاك الزمان، إنه وجه القمر، ولا يستغرب إحساسها بجمال وجهه -صلى الله عليه وسلم - فقد كان من أحسن الناس وجهاً. فكيف بجماله وحسنه ذاك وهو طفل صغير؟ فهو أحسن من كل أنثى أو ذكر، ومن كل شبوب أغر.
إنها دوال مقصودة لذاتها، تهدف إلى طبعها في ذهن الصغير، دوال تزرع روح الإحساس بجمال الذات خَلقاٌ من المحسوسات، والمتمثلة في جمال الوجه وضيائه؛ لتصل بها إلى المجردات التي اختزلتها في صيغة التفضيل المطلقة "خير البشر"؛ لتشكل هذه الفكرة المثال الذي يحتذى عنده حين يكبر ويعي حدود الكلمات، ومعانيها، فالدال هو الصورة الصوتية التي تنطبع مباشرة في ذهن السامع. وهو بعبارة أخرى الإدراك النفسي للكلمة الصوتية. أما المدلول فهي الفكرة التي تقترن بالدال ".  والسامع هنا هو الطفل الصغير جداً، الذي يختزن في كفايته اللغة والفكر في آن  .
     ثم تدعو الله- عز و جل - ألا يريها فيه مكروهاً إذ "الغير" تحول النعم إلى غيرها مما لا تحبه النفس، وأن يوضح لها الطريق الذي تقتفيه، وقد كان ما تمنت بأن بعث محمداً هادياً أوضح لها ولغيرها الطريق، وهداهم إلى الصراط المستقيم.

تعليق عبر الفيس بوك