قراءات في الأدب الصهيوني المعاصر:

الأنا والآخر في "ابتسامة الجَدْي" لـ ديفيد غروسمان(4-6)

أمين دراوشة – أديب وناقد فلسطيني – رام الله


فهل تستحق القضية كل هذا الثمن؟
إن الأدب الإسرائيلي غالبا ما يتناول قضية "ميثاق إسحاق" حيث يضحي الأب بابنه. "إن الآباء والأبناء مرتبطون (في الفكر اليهودي) بعلاقات الطاعة والاستقلال والاستمرارية وتمييز الذات" (6)، وفي الرواية يظهر عمل الآباء: التضحية بأبنائهم بإرسالهم إلى الموت. يقول ابنر: "كيف بدلا من تثقيفهم من أجل الحياة، قد أعمل على إعطابهم، وارمي بهم في متاهة الصراع، لا، هذه ليس مثالية، إنها لعنة" ـ (ص244).
ويعترف ابنر أخيرا ـ أو هكذا كانت شوش تتمنى - أنا يا ابنتي "مذنب كأي شخص آخر، لقد ساعدتهم على الكذب، أعطيتهم كلمات مطمئنة، بدلا من بصق موقفي في وجههم). ويقول: كنت مخدوعا، ولا أعرف ما يجري، حتى صدمني موت شاغاي، ووعيت أنني أرسل الشباب إلى حتفهم، "بينما استخدمني الآخرون كورقة التين لأكاذيبهم" ـ (ص341).
ثمّ يشكك ابنر في الرواية الصهيونية، ومعنى العالم والبلد، والحلم الذي كان، وكأن ما يجري رواية لكاتب روسي، وضعوا فيها بدور الغزاة والقتلة. والبندقية التاريخية التي حملوها في فترة الريادة، تطلق عليهم النار الآن.
هنا، يتقدم الكاتب غروسمان، ليقول لنا على لسان ابنر/ شوش: هذه الأرض لم تكن خالية، وخرابا، بل يوجد شعب عربي يعيش هنا. ويبدو أن لعنة حلت علينا، فلا فكاك من الصراع مع العرب الفلسطينيين. ولا يقدم غروسمان في روايته حلا لهذا الصراع، لا عن طريق الحرب ولا عن طريق السلام.
وتتحدث شوش عن الزيف الذي يغلف كل الأشياء. وتفكر: لماذا أشعر بالانغلاق؟ بإمكاني الخروج الآن "وإغراق نفسي في الشغل والنسيان، تحقيق نجاحي ونكث العهود التي قطعتها على نفسي والكذب كمحترفة، أوه، تعوّدت على ذلك، تعلمت كيفية القتل بلا آثار يدل عليك، وأن تحبي دون أن تتركي أثرا وراءك، أن تفعلي الشر بلا معاناة كثيرة"، فما زالت شوش تؤمن بنسج الأكاذيب، وأنها بها وحدها تستطيع الاستمرار في الحياة، ولكن بودها لو تستطيع الخروج من دوامة الكذب التي لا تنتهي. وعندما يرحل يوري وتنتهي قضية موردي بوساطة ابنر، يأتي مع زوسيا لأخذها إلى بيت العائلة. توضب أغراضها، وفي إثناء انتظار ابنر وزوسيا، تفكر: "وحدي أكبح للمرّة الأخيرة رغبة ملحة بالهرب، بمغافلة المنتظرين في الخارج، والهرب من النافذة العريضة" ـ (347).
ترغب شوش بالتخلص من سلسلة الأكاذيب التي تجعلها تعيش في تناقض واضطراب، وازدواجية في الشخصية. تريد أن تركض، أن تعبر الشوارع والمعسكرات، تريد أن تتخطى "الخجل والندم والشر إلى يوري. أينما كان، لا مثيل ليوري في مداواتي، وإذا لمسته سيخرج كل الدم الفاسد من جسدي" ـ (ص348). ولكن، هل يستطيع يوري مساعدتها؟ يوري صاحب “ابتسامة الجدي”، كما قالت شوش، هو نفسه يشعر بالانشطار والتناقض، ويفشل في تحقيق أي شيء حلم بتحقيقه.
وعلى الرغم من أن شوش ووالدها، لم يذكرا الفلسطينيين العرب، إلا أنهما في أعماقهما يشعران أن الفلسطينيين، لديهم القدرة بوجودهم الذي لم يعد أحد يستطيع إنكاره والتصرّف كما لو أنه لا وجود له، أن يؤثر بشكل كبير في تحديد الشخصية الإسرائيلية، وجعلها في حالة من عدم الاتزان والاضطراب وتشكك في روايتها التاريخية.
لذلك ستبقى شوش تعيش في طبقات من الكذب، تبني طبقة فوق طبقة في محاولة غير موفقة، من أجل أن تعثر على حقيقة حياتها. "لأن تجد "من يقول في داخلها" أنا "دون أن تفوه بكذبة كبيرة". وتكتشف أن حياتها هي نسيج مقنع من الكلمات الخادعة. الأمر الوحيد الذي يعود لها في الحقيقة هو كذبها" ـ (75).
وعلى الرغم من أن المؤلف، لا يذكر حلا للتخلص من دوامة الكذب، إلا أن هناك ما يوحي بأنه يقصد أنهم لا يمكن أن يتصالحوا مع أنسفهم إذا لن يجدوا حلا مرضيا للفلسطينيين، وذلك دون أن يقترح مثل هذا الحلّ.
البحث عن حقيقة
يوري أحد الشخصيات الرئيسية في الدراسة، يعمل مساعد للحاكم  العسكري في الضفة الغربية، وهو شاب عمرة 28 سنة، لطيف محبوب، وموزع بين زوجته شوش وصديقه كاتسمان الحاكم العسكري للضفة الغربية. بعد أن أنهي دراسته أقنعه كاتسمان بالقدوم للعمل معه في جوني.
يوري يحمل أفكارا مثالية، ويطمع في مساعدة العرب والتخفيف من غلواء الاحتلال، لكنه يكتشف أنه يعيش في بحر من الأكاذيب: فزوجته تكذب عليه وتخدعه وتخونه مع أعز أصدقائه، كما أنه يصطدم بتعامل جنود الاحتلال مع العرب بالعنف ونسف البيوت. وعندما يحاول الاعتراض يتم سجنه، فيحس بأن ما يعيشه ما هو إلا وهم، ويخاطب حلمي قائلا: "كلا كلا، صدقني يا حلمي، لقد ابتكرتهم جميعا. شوش المرأة التي أحببتها وهجرتها منذ ثلاثة أيام، وحكاية كاتسمان في ايطاليا، والصبي الذي مات من الحب، ... وحتى أنت يا حلمي ستكون في وضع أفضل لو كنت تلفيقا من صنع خيالي... ليس ثمة مفاجآت. ولا أدعوك للانضمام إلى هذه الحياة الخطرة التي أحياها، حيث لا يبدو الباطن كالظاهر، بل مجرد خرّافية، يا حلمي، مثل كان يا ما كان" ـ (ص15). إن شوش زوجته "بنت صغيرة ذات وجه مشرق وصريح، أنفها دقيق مستقيم، شعرها أشقر معقوص، وتلبس نظارات دائرية الإطار"ـ (ص16)، وعندما يكتشف خيانتها وكذبها يحاول أن يحطم كل شيء بينهما، لكنه يفشل، لأن الأكاذيب صلبة ولا تتهاوى حتى لو أدركنا حقيقتها. عندما حاول نزعها من أعماقه، يقول: شعرت "بطقطقة في منابت وجودي. وأدرك أن واحدة أو أثنين من أكاذيبي قد ارتدت قناع عذاب شخصي، قناع كلمات ينبغي انتزاعها بالفعل. ما الذي سيبقى من بعد انتهاء كل هذا الدمار؟" ـ (17).
وبعد أن يعرف ما فعلته شوش به وفي الفتى موردي مريضها الذي انتحر، يقرر الإضراب عن الطعام، ويضرب لثلاثة أيام دون معرفه أحد، ويتذكر شوش وتعابير وجهها القاسية  عندما قالت له: "ستصيبك الدهشة من الطريقة التي تبني الكذبة بها طبقات في الحياة حول نفسها" ـ (ص22).
هو الآن عند حلمي، يشعر برأسه المثقل بالهموم، ويحسده على قصه القصص على نفسه ليتذكر، بينما هو يقصها على نفسه كي ينسى، كي يسحقها إلى نتف صغيرة، ليطوّح بما يمنع عنه الهواء ويخنقه منذ عام ونصف، "تلك الأنشوطة المجنونة التي ركضت في حبائلها بين مبنى الحكومة والزقاق في جوني، بين سكان المدينة وشكواهم الكئيبة المهتاجة من الاعتقال والمصادرة والمعاملة المهينة... هناك الكثير مما ينبغي التخلص منه ـ (ص25).
يحجم الكاتب هنا عن تسمية الأسماء بمسمياتها، كان عليه وهو المثقف، الذي عاش قليلا من الوقت في الضفة الغربية، أن يقول بصراحة ودون مواربة: يجب إنهاء الاحتلال وإلا سيتسبب في انهيار المجتمع الإسرائيلي من الداخل، المجتمع القائم على الكذب لا يمكن له أن يستمر دون علاج، وعلاجه الحقيقي التخلص من الاحتلال المقيت لشعب ما أنفك يقاوم ويقاوم.
يهرب يوري نحو النسيان، يريد أن ينسى كثيراً من الأشخاص، زوسيا الضخم، وابنر والليالي التي قضاها معه، وليّا وشوش، وكاتسمان، وهو يبذل جهدا عظيما لمحوهم من ذاكرته، لكنهم يعودون، ويحاول من جديد وبتصميم على أن يمحوهم، ويقول إن الأوقات التي قضاها مع شوش جعلته ضعيف الشخصية وواهنا. ثمّ يرحل بذاكرته إلى طفولته، وكيف وعى أسر أبيه وعمه في الأردن، حيث عاد الأب وحده، وصبّ جام غضبه على والده (جد يوري)، واتهمه  بأنه فرّ من الخدمة العسكرية، وجبان. وحلف أن لا يأكل معه الطعام على مائدة واحدة، وقام بطرده من السقيفة إلى فناء الدار، فشاخ بسرعة وأخذ ينطق بكلمات عربية، كأنه عاد إلى طفولته، بل إنه عاد إلى موطنه الأصلي العراق.
يتحدث يوري أن والده ديفيد أصيب بنوع من الجنون في الأسر، حيث "كتب صلاة من أجل الموت السريع المؤلم للعرب في كل مكان" ـ (ص26)، وأجبر الأسرة على تلاوتها صباح كل يوم. ولم يكتف بذلك، بل أخذ ينفق ماله على طباعة صلواته في كتاب، وكان يدنو من الناس في الشارع ويهمس بها.
ويخبرنا يوري عن شدة أبيه في تربيته وإخوانه، حيث أرسله إلى مدرسة زراعية داخلية، ولم يسمح له بالعودة إلى البيت إلا ثلاث مرات في السنة بمناسبة الأعياد، لأنه يظن أن كل إنسان عليه الاعتماد على نفسه، كما أرسل الأخوة الثلاثة ليوري بعيدا. ولقي ديفيد حتفه بحادث سيارة بعد وقت قليل، "ولم أحبه أبدا بسبب ما فعله بجدي" ـ (ص73).  
لم تكن طفولة يوري سهلة، وكانت تربيته لتخلق منه وحشا كارها للعرب، لولا أنه لم يكن على علاقة ودية بوالده، ما جعله ينأى بنفسه عما يؤمن به، كما أنه لم ينس المعاملة القاسية والإنسانية التي تلقاها جده. لذلك عندما انتقل للعيش في بيت شوش، لم يواجه مشكلة، فشعر أنه كولد لهم، واعتبر ابنر بمثابة الأب البديل. وعلى الرغم من أنهم اشكناز وهو سفاردي، لم تكن عقبة كبيرة للاندماج في العائلة. وهو يتحدث عن تصديقه لابنر، عندما قال: أنه "يشعر بالأسف لأنه لم يولد سفارديا، وعندما يضع النقاط على الحروف في حديثه معي ومع الآخرين، وفي المقالات والمحاضرات حول مخاطر المشكلة الاثنية". ولم يعجبه أبدا كلام شوش عن والدها "أنه يردد عبارات تافهة، وبأنه لم يحاول أبدا تشجيع اليهود السفارديين في الحزب، ويكفيه أن يتباهى بوجودي حوله كنوع من الميدالية الفخرية" ـ (ص126).
هنا يتطرق الكاتب هنا باقتضاب إلى إحدى المشاكل الكبرى في المجتمع الإسرائيلي، وهي المشكلة الأثينية، وتتعلق باليهود الغربيين والشرقيين، حيث سيطر الاشكناز الغربيين على المفاصل الرئيسية للدولة منذ إنشائها، وعانى اليهود الشرقيون من تمييز واضح في مختلف مجالات الحياة.
ابنر يمثل الجيل المؤسس للدولة في الرواية، وهو من أصحاب الأقوال المثالية والمتناقضة مع أفعاله، وكان يغطي تناقضاته عبر كم هائل من الأكاذيب، وسوف تتكفل شوش ابنته الوحيدة بكشف كذبه وزيفه وتزيفه.
عاش يوري وشوش ثلاث سنوات معا، إلا أنهما لم ينجحا في علاقاتهما، لأن كل شيء كان مبنيّاً على الكذب والخداع، فيوري شاب لم يدنسه الكذب بعد، لذلك أحبته شوش وأحبه كل من عرفه، لأنه النقيض، وهو ما أخبرته به شوش: "لن ننجح يا يوري، نحن على طرفي نقيض" ـ (ص119). أما هو فلم يعرف امرأة كشوش "بارعة جدا، كثيرة الوساوس، وواثقة من نفسها" ـ (ص120)، قبل أن يكتشف متأخرا زيفها وكذبها وخيانتها. وبعد أن كان يشبهها بوالدتها قائلا: "كنت دائما تشبيهين ليّا بأنفك الصغير المستقيم، وشعرك، وجبهتك الناعمة. وكنت أحبّ رؤيتكما معا" ـ (ص125)، أصبح يشبهها بوالدها: "أنت مثل ابنر دائمة المراوغة والنكد" ـ (ص119).
ويتغلغل الكذب في حياتهما، ويقول إن علاقته بشوش تشبه لعبة أطفال، إذا ضبط شوش تكذب تحمل الكذبة، ويكون دورها لتضبط أحدأ آخر يكذب ليحمل الكذبة عنها. "وعلى هذا المنوال هناك دوائر ذات مركز موحّد من الأكاذيب التي تتوارى في أخطاء وأشكال مختلفة من سوء الفهم وأنواع من الاغتراب واليأس المكتوم" ، فهناك وسائل عديدة كي يهرب الإنسان من الحقيقة، إحداها ما فعلته شوش، وهو يقول لها: تتظاهرين "بحبّ صبي لم تحبيه أبدا وأن تتركيه ليموت بعدما سئمت من لعبتك الصغيرة" (7) أو كما أفعل أنا، يقول يوري: "التظاهر بأننا نعيش على خريطة في حلم حلمي، الذي يشمل أربعة أركان الأرض" ـ (ص121).
كل ما يحيط به أكاذيب. حتى الدوار الذي يمر به الآن، وحلمي وقصصه الخيالية، وكذلك القول إن والد كاتسمان كان "ينقش ذكرياته الذاتية المتلاشية على صفحة عقل ابنه، أو شوش التي تلقي عليّ محاضرات بليغة في مورفولوجيا الأكاذيب".  وزوسيا وابنر.. "نحن، جميعا، كان يا ما كان في هذا المكان، الشيء الحقيقي الوحيد بشأننا هو الألم الذي نسببه لبعضنا" ـ (ص28).
وبعد أن يرى ما يفعله الاحتلال بالقرى والبلدات العربية من نسف للبيوت واعتقال وحواجز، يقرر أن ينهي عمله في جوني، ويمنّي النفس بحياة هادئة ووادعة مع شوش بعيدا عما يجري فيها، لكن شوش تأخذه إلى حجرة المكتبة، وتحدثه عن الصراحة والصدق والصبي موردي، وتستمر في الكذب، وتخلط بين قصة كاتسمان وقصة موردي، فيرحل هو نحو مغارة حلمي محدثا نفسه: "اخبريني أين التقت أكاذيبنا" ـ (ص74). و"كاتسمان الذي خانني" ـ (ص77). يا شوش "أنا الوحيد الذي يعرف كم أنت ضائعة، لكنني لا أشفق عليك. لقد سلبتني أشياء كثيرة" ـ (ص74): الطيبة والصدق والبراءة. كلهم كانوا يكذبون عليّ، لكن عند العجوز حلمي، نقتسم كذبة ما، مما يعطيها قوة الحقيقة. والكذبة هنا مقصودا بها رواية الآخر العربي حلمي، ورواية الأنا الإسرائيلية، حول أحقية العيش على هذه الأرض.

تعليق عبر الفيس بوك