حضارتان عربيتان تلتقيان على أرض عُمان

 

حمد بن سالم العلوي

لقد أنعشت زيارة رئيس جمهورية مصر العربية لسلطنة عُمان، الذاكرة التاريخية في الوجدان العميق للدولتين مصر وعُمان، فمصر ستظل كنانة العرب وعزوتهم، فلا عجب إذا رأيت السلطنة تحتفي بمصر على أرضها بهذه الحفاوة الكبيرة، وهي ممثلة في شخص رئيسها فخامة عبدالفتاح السيسي والوفد المرافق له، فعُمان وإن بعدت جغرافياً عن مصر، إلا أنها ظلت وستظل تنظر بعين الفخر والرضا عن الموقع القيادي التاريخي لجمهورية مصر العربية، وعُمان التي خرجت تودع عبدالناصر عام 1971م، وهي في سنة أولى حداثة ألا تخرج اليوم لاستقبال الرئيس المصري، وقد جاوزت السابعة والأربعين عاماً من عمر نهضتها الحديثة المباركة، وقد أصبحت أكثر قرباً من مصر وأعمق حباً لها، وهي التي وقفت معنا في رحلة العِلم والمعرفة، سواء كان ذلك بإيفاد معلميها إلى عُمان أم باستقبال العمانيين كدارسين في جامعاتها على الدوام، وعُمان بمواقفها العربية الثابتة مع مصر هي لم تفعل ذلك كرد للجميل وإنما كل الذي فعلته تجاه مصر منبعه الشعور بالأخوة الصادقة.

وعُمان التي وقفت مع مصر يوم هجرها العرب جميعاً في واحدة من شطحاتهم العاطفية الكثيرة، قد اتخذت ذلك الموقف الشجاع ليس خروجاً على إجماع العرب، ولكن احتراماً لإرثها العتيد بعدم التدخل في شؤون الدول، فليس من بلد عربي يملك حكماً مستقراً عبر آلاف السنين دون انقطاع كعُمان، حتى في عهد انتشار النبوة المحمدية على صاحبها أزكى تحية وأفضل سلام لم يولِّ على عُمان والياً كغيرها من أمصار العرب، بل أقرَّ ملكيها عبد وجيفر بني الجلندى على حكمهما لعُمان، إذن ليست الغفلة دون وعي من عُمان أن تقيم الحفاوة بمستوى "زيارة دولة" تكريماً للرئيس المصري في زيارته الأولى للسلطنة، ولكنّها ليست الأولى لرؤساء مصر، ولن تكون الأخيرة بالطبع.

إذن العلاقة الممتدة بين البلدين والشعبين عبر آلاف السنين، قد استحقت أرفع المراتب للمراسم البروتوكولية، وعُمان التي تحرص على أدق التفاصيل في التنظيم البروتوكولي لزوارها المهمين، لا يغرب عن بالها أنّ مصر صاحبة العمق العربي العظيم ستظل في مقام نجم سهيل، الذي يُهتدى به في البر والبحر، فمن لا يعرف مكانة مصر لن يعرف كل أمصار الدنيا وقيمتها الحقيقية، فإذا كانت مصر قلب العرب بتوسطها الجغرافي، وموقعها القيادي في القاموس السياسي، فإنّ عُمان كانت وستظل حصن العرب الحصين، بموقعها الجغرافي المتميز، وحامية أكناف الأمّة في الشرق، والدول لا تقاس بعدد سكانها ومساحاتها الجغرافية، ولكن تقاس بأفعالها، وتاريخها خير شاهد على مقامها العظيم، فبالأمس القريب طارد العُمانيون الغزاة المستعمرين، ليس من على سواحل عُمان فحسب؛ وإنّما سواحل الخليج بضفتيه، وسواحل شبه القارة الهندية، ومعظم الشرق الإفريقي حتى البحيرات العظمى في وسط إفريقيا، وذلك بقوة وشجاعة الرجال والحكمة العُمانية، وليس بالكثرة العددية، وعُمان هي أول من يستلم شعاع الشمس من المشرق فترسله نوراً وضياء محملاً بعبق اللبان، يُعطر شمائل الأمة العربية على طول جغرافية الوطن حتى جبل طارق في المغرب العربي.

إنّ زيارة مصر لعُمان أتت لتبعث في الوجدان نواميس التاريخ المشرف للبلدين، وعندما يجتمع أصحاب الحضارة على المرء أن يتوقع بأن تثمر الزيارة بثمار المحبة والسلام، فتختفي كل براعم ونتوءات الشر من على الأرض العربية، خاصة تلك التي نبتت في غفلة من الزمن، وأحالت اللون الأخضر إلى أصفر تكفهِرُّ من رؤيته النفوس النقية، فإذا كان للشر جولة فللخير ألف جولة وصولة، وما زيارة فخامة الرئيس المصري لعُمان، إلا إعلان عن عقد عزم على تحكيم العقل في الشأن العربي العربي؛ لأن الحكمة العُمانية المصرية إذا اجتمعت أقنعت بالعقل بما يُعقَل، فلن يتساءل الناس عن هدفها فهو معلن سلفاً، ومن لا يعرف الأهداف المعلنة للبلدين، فهو لا يعرف الفارق بين شروق الشمس وغروبها. حتماً وبإذن لله تعالى سيتمخَّض عن هذه الزيارة الشيء الكثير، وستُرهق النتائج التعساء في التفكير، لأنّها ستصب في مصلحة الأمة، وستعمل على معالجة الجراح العربية، ولملمة الشأن العربي المهلهل، الذي جاوز كل شيء لا معقول إلى متاهات المجهول، الخادم بالنتيجة أعداء الأمة من أقصاها إلى أقصاها.

شكراً قائد عُمان الفذ العظيم جلالة السلطان قابوس المفدى أن أعدت عُمان إلى موكب المجد، ومكانتها العالية الرفيعة اللائقة بتاريخها العظيم، وشكراً لفخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي على قدومكم إلى عُمان، وإصراركم على تلبية دعوة جلالة السلطان لهذه الزيارة، وذلك رغم كل المشاغل التي لم تشغلكم عن الوفاء بالوعد، وشكراً لمصر وقلعة العرب وعماد زعامة الأمة.

نعم ستظل مصر للزعامة رأسا، رغم كيد الماكرين وحسد المبغضين، الذين يمكرون في حق مصر، ويعبثون بأمنها واستقرارها خدمة للعدو، وقد ابتلوا في نفوسهم بأضغاث أحلام في إضعاف مصر، بهدف سرقة الزعامة منها، فغاب عن ذهنهم أنّ القيادة تقادير ربانية تخلق لها أمم وشعوب وأوطان، وليس لقطاع الطرق أو من غذي بالحرام نصيب فيها، فكما ظلت مصر بموقعها في قلب العالم العربي تجلس على كرسي الزعامة، فلعُمان كذلك كرسي راسخ للزعامة في المشرق العربي، لا يُلغىَ ولا يُلغيِ غيره ويؤمن بالنديّة في المقام لمن له ند. إذن مجرد لقاء القمة بين الزعيمين العربيين في مسقط سيسقط حتماً باتفاقهما على الخير كل دواعي الشرذمة والشقاق، وبإذن لله يخرج هذا اللقاء بنتائج تخدم الأمة ومصالحها، وتؤسس لنهج قويم لتصحيح المسار، هذا وبالله التوفيق والسداد.