مناجم الذهب (الحلقة السابعة)

 

 

عائشة البلوشية

خرج من المنزل شاردَ الذهن، ليلتفت إلى الجحال المعلَّقة، لم يأبَه للنحل الذي يروي عطشه من قاطور الجحلة، هشَّه بيده، وسكب بعضا من الماء البارد في الحالول (كوب يُصنع من الفخار، يوضع في فوهة الجحلة، ليمنع أوراق الشجر من التساقط داخل الماء)، شرب حتى ارتوى، ثم رشَّ ما تبقى من ماء على الخصافة المصفوفة على جدار المنزل، والمحشوة بثمار البالنج الخضراء حشوا، فكما يعلم الكثير ممن عاش في الظاهرة أنَّ ثمارَ السفرجل كانت تُقطف بعد اكتمال نموها وقبل الاصفرار، ثم تُلف كل ثمرة مستقلة في ليف النخيل المبلول بالماء، وتُرص تلك الثمار الخضراء في حفرةٍ تحت الأرض، وتظلُّ كذلك حتى يتم استخراجها من باطن الأرض بعد عدة أشهر، صفراءَ لذيذة لا مَرَارة فيها. أمَّا ثمار البالنج، فكانت إمَّا أن تُدفن بذات الطريقة، أو أنها تُلف باستخدام لوف النخيل الرطب، ثم يتم وضعها في الخصافة المصنوعة من خوص النخيل، وتترك مرصوصة فوق بعضها في مكان نظيف مفتوح، تمر به نسمات الهواء الطلق صباحا ومساء، ويتمُّ رشها بالماء بشكل مُستمر لمدة قد تصل إلى شهر قبل البدء في استخراجها وأكلها، والعجيب أنها لا تتعفن أو تتلف، وهاتان الطريقتان متعارف عليهما في محافظة الظاهرة لحفظ ثمار الحمضيات الحلوة التي يتم تناولها في فصل الشتاء، وكان من يملك هذين النوعين من الثمار الحلوة يُفضل أن يدفن حبات السفرجل تحت الأرض، ويستبقي حصاد البالنج فوق الأرض ليسهل تقديمه ضمن الفوالة للضيوف، وهكذا يضمن أنه يستمتع بهذين النوعين من الفاكهة طوال ستة أشهر في العام الواحد. أما الحمضيات الأخرى كثمار الليمون، فإما أن تجفف فتصبح بهارا لبعض الأطباق (اللومي اليابس)، أو تُعصر وتُتبل بالملح والقليل جدا من الفلفل لتُترك في قوارير زجاجية تحت أشعة الصيف الحارقة لتصبح خلا (حماض) له استخدامات عدة؛ أشهرها إضافته في طبقي المزروتة/المعصورة والسحناة كعنصر أساسي، مع إضافة الرفيق الرسمي لهذه الأنواع (السمن العماني)؛ دار ببصره نحو الضاحية، وذهب في مهمته المعتادة ليُطعم الخيل والنوق التي يقوم والده بتضميرها، قبل أن يستردها صاحبها شاكرا.

كانت أحلامًه تتعدى الفروسية التي يريد والده أنْ يُعلِّمه إياها حتى يُتقنها، فلا تزال صور الكهرباء والتليفزيون والبرقية تمر في شريط سينمائي أمام ناظريه كلما سبح بأحلامه التي يرجو تحقيقها في العراقي، وصور الكهرباء والإنارة والأجهزة الكهربائية التي شاهدها في رحلته إلى الدمام لا تزال حلما يعن على ذاكرته بقوة، فهو يريد من كل شيء جميل أن يصل إلى العراقي، لذلك كان يستعين بأخيه ليقوما سويا بعمليات تمشيط للضواحي بحثا عن بطاريات قديمة، أو أسلاك تم التخلص منها، فيقوم بوصل تلك الأسلاك والبطاريات التي اكتشف طريقة ﻹعادة شحنها، بطرقها من المنتصف فتصبح صالحة للاستخدام لمدة لا بأس بها، ويوصل ذلك كله بالمصابيح الصغيرة جدا لتكتمل الدائرة الكهربائية، وتمد غرف المنزل بالإنارة البسيطة جدا ليلا، كان خلال رحلات البحث المختلسة من انتباه والده اختلاسا يطبع كل شبر يمر به ويحفظه في حنايا الروح، لم يدر بخلده حينها أن الأقدار تؤهله شيئا فشيئا إلى الوصول إلى تلك الآلة العجيبة لكشف المعادن الثمينة يوما ما، كان مشغولا بإضفاء جمال الضوء على ستار الليل في المنزل.

لم يكن هذا الأمر ليروق لوالده، فرغم محاولاته ملء جميع ثقوب الفراغ لهذا الولد بالعمل المنهك، وإرساله في مهمات خارج المنزل، إلا أنه يجد الوقت لينفِّذ تجاربه المختلفة، فطرأت فكرة الزواج على عقل والده، نعم فقد بلغ الرابعة عشرة من العمر؛ لذلك ربما سيجد في الزواج ما يلهيه عن هذه الألعاب الصبيانية كما كان يراها أبوه؛ وتحدث مع عمه عوض حول الأمر، فأخبره بأن لأحد الأصدقاء من الزرعات ابنة جميلة جدا وتناسب ابنه ليزوجه إياها، لذلك حزم أمره وتحدث مع والدها فكان أن وافق الأب مقابل مهر بلغ (ألف وخمسمائة قرش فرنس)، وكان له ما أراد، وما هي إلا أيام قليلة حيث لم يجد بطل قصتنا نفسه إلا وقد أصبح زوجا مسؤولا عن عروس، وكان ذلك المبلغ هو الأعلى مهرا حتى فترة طويلة، وهو لم يزل غير مدرك لمعنى هذه المسؤولية، وفي تلك الأثناء كان والده بين مغادر راحل وغائب عائد، وكان يحضر معه شيئا جديدا في كل مرة يعود فيها من الترحال، فمرة أحضر كيرخانة (آلة طحن البن اليدوية)، وعندما عادوا من الدمام جلب آلة حياكة الثياب اليدوية التي ابتاعها من السعودية، وكان يحيك الدشاديش حينها ببراعة، وكان يعلم ابنه الذي كان مفتونا بكل ما هو جديد، وعندما أتى بآلة حياكة الملابس التي تعمل بالرجل، استغرب أهل القرية وأصبحوا يأتون للنظر إلى هذه الآلة العجيبة من كل حدب وصوب، ومنهم من كان يصطنع القطع في ثوبه ليأتي ويتفرج على والده كيف يرتقه له بتلك الآلة المدهشة، وهنا يتضح سر افتتان بطل قصتنا بالآلات واقتناء كل ما شأنه أن يرفع معرفته ويشبع حبه للكهرباء والاتصال والإلكترونيات، فهو يعرف مدى حب والده لتلك العدة من المفكات الكثيرة ذات المقاسات المختلفة (السكاريب والسباين)، التي يحتفظ بها ويخرجها كلما أراد فك المذياع ليصلح فيه عطلا ما!

 

(يتبع)..

----------------------

 

توقيع: "الإنسان الذي يُمكنه إتقان الصبر، يمكنه إتقان أي شيء آخر" (أندرو كارنيجي).