شغف ريشة ومخيلة شاعر

...
...
...

مريم شهاب الإدريسي- شاعرة وناقدة - المغرب


إنّه "كِتَابُ الْوَجْهِ ــ هكَذَا تَكَلَّمَ رِيشَهْدِيشْتْ".. هكذا تكلّم الشاعر" محمد حلمي الريشة"، بملامح الشاعر فيه، وبقسمات لغته، وبأبّهة شعر بأنامل ذائقته في إصداره الجديد المختلف شكلًا ومضمونًا، ما بين نثر و"هايكو" و"تانكا" وشذرة؛ فبعد تشريفي بكتابة تقديم لهذا الكتاب القيِّم، أُجزم بأنّه عند الانتهاء من القراءة لا يمكن إلا العودة إليه، لاكتشاف اللغة بعين قارئة أخرى، بنَفَسٍ جديدٍ تارة سيميائيًا، تارة بلاغيًّا، برؤية غير مقيّدة ولا محجوب عنها الخيال، بل منطلقة باحثة مستقصية، لتتعدّد القراءات للُغة الشّاعر، فكلُّ مقاربة هي ليست حتمًا تقيِيمًا نهائيًّا ولا قيمة أخيرة ووحيدة له؛ فهو الشاعر المتطَلِّبُ للقراءة العميقة الغائصة والسابرة للغور بـ"كتاب الوجه"، يُحَمِّلك أديبهُ ومؤلِّفه الشاعر الريشة مسؤولية أن قراءة نصوصه هي مساءلة أولًا لخبرة الناقد الإنسانية والنفسية والثقافية، بإدراك واعٍ لحروفه ولملامح الدلالات الدفينة والعميقة. أكيدٌ هي مجازفة ليست بالهينة، فهي تتطلب رحابة عقلية متعقلة منتبهة يقظة اعتمادًا على علاقات النص الداخلية وصولًا إلى شساعة فهم المراد ارتكازًا على مقاربة هادفة من القارئ/ الناقد إلى التعرف إلى النص ومعرفته؛ لتكون اللغة النقدية لغة حوار حضاري راق، وأنت تقرأ له يفاجئك بـ:"مَاذَا بِوُسْعِكَ أَنْ تَفْعَلَ- أَيُّهَا المَجْنُونُ شِعْرًا- إِذَا الَّذِينَ يَتَحَلَّقُونَكَ حَقِيقِيُّو الجُنُونِ؟!"
إنها الشاعريّة الشعريٍّة العميقة والولهة بالشعر الشرهة هذا الذي يكتسح نُهى الدلالات الناصعة البياض بلغة متوهجة تتدفَّقُ من الدواة ذائقةٌ متفردة وتختال كاللجين منسابة البريق والعطر لتلمع بشدة؛ فالجنون هنا ما هو بفقدان لإدراكات بقدر ما هو استشرافٌ لِمَ هو وراء الشعر وما أبعد منه:
"مَهْمَا عَلَوْا
يَتَسَاقَطُونْ؛
أُولئِكَ الَّذِينَ
دُونَ
سُلَّمِ
الْقَصِيدِ
يَصْعَدُونْ "!
الشاعر الريشة يجزم بأنه لا تقوم قائمة الشعر من دون ذلك القلق الوجودي المفعم وعيًا إنسانيًّا، شفّافًا، شفيفًا.
يطالعنا الشاعرُ بذاته الحالمة/ الحاملة للوجع الإنساني باعتقاده لِمَ هو الشعر وطقوس الاختلاف، المنفعلة/ المتفاعلة/ الفاعلة، بحثًا عن الحقائق، ترصُّدًا لها وتعقّبًا، وليبرهن أن الجنون شعرًا هو المشاكسة المستبقة حُلمَ الخيال، الممتطي غربة الخطو.
وها هو ذا الشاعر فيه يضعك أمام حقيقة انطلاقًا من موقعك الإدراكي كقارئ منتبه يقظ، وناقد بتعدد رؤاك لا بأُحاديَتِكَ المتعصبة؛ فوحده الشاعر لديه القدرة على جذبك لعالمه، وأنت تقرأ له يشاكسك بذكائه ودهائه اللُّغوِيَيْنِ، فيثير خلايا فهمك، ليُورثها جيناتِ ثقافتكَ سمات وعمقَ ثقافته، يسلبك حديثك لتقرأه بصمت هادئ معقلن، ليمنحَكَ أمانَه الشعريّ بزمان شعريٍّ رهيب لكنه إنسانيّ، لا خادشًا إنسانيتك، ولا متطاولًا على عزلتك حين قراءة، تجده يبثُّ سطورَه حكاياه "الشعرياري"ـة، واصفًا، حالمًا، ثائرًا، وهو يعدُّ كل هذا مسؤليته نحو العهد الذي قطعه على نفسه أن يظل الشاعر، متحمّلًا نصَبَ المهمة، برقَّة همسِ الكلمة وتوصيفها:
"الشِّعْرُ لَا يُلْقَى.. الشِّعْرُ يُقْطَفُ؛
بِشِغَافِ الْقَلْبِ، وَلَا يُعْرَفُ!"
للعقل أناقته هنا فكان العادل، وللقلب أمانه فكان الحبر هو الوفيّ، وللكلمة روحها الصادقة، فمن ذا الذي يجرؤ على وأْد هاته الدلالة الحانية ليغض الطرف عن المعنى والغاية من إدراك ماهية الشعر، وأَلَّا يتوقف طويلًا عند ذي الكلمات من دون أن تثير شهوة سؤال عقله؛ أية دلالات قوية هذه؟!
حقول دلالية كثيرة أخرى بالكتاب مثيرة  للملاحظة، تجلّت وبدت يانعة للقارئ اليقظ:  
"الشَّاعِرُ جُنُوحٌ جَمٌّ-
فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَجْمَعَهُ؟!
الشَّاعِرُ ذَنْبٌ غَفِيرٌ-
فَمَنْ يُقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَهُ؟!
الشَّاعِرُ طِفْلٌ كَبِيرٌ-
فَمَنْ يُحَاوِلُ أَنْ يُرَبِّتَ عَلَى رُؤْيَاهُ لِيَنَامَ؟!"
معجم زاخر بأصوات ومخارج  لها ارتباطها الوثيق بدقة الاختيار لتكون القصيدة (جنوحٌ/ جمٌّ/ يجمعَه) بغلبة حرف جيم من صفاته الجهر والانفتاح والشدّة، ليتقمّص دلالاتِ الجنوح الذي هو ميل وجهارٌ الشاعر الحقِّ إلى ما هو غير العادي بانفتاح على الخيال، وشدّةٍ في الإصرار على الشعر، وإنه يطول الشرح إذا انتقلنا إلى ما يليه من حروف السطور الأخرى؛ أكيدٌ من قلمي الوعد العودة بالتحليل.
غير أنّ سؤال الشاعر الريشة بإحدى سطوره الأمينة المؤتمنة على سره ونقاط حبر ريشته قد أودَعَتها لديها: "مُنْذُ أَنْ دَهَمَتْنِي الْكِتَابَةُ، وَأَهَمُّهَا الشِّعْرُ، ثُمَّ احْتَرَفَتْنِي، وَأَنَا لَا أَزَالَ أَسْأَلُنِي: لِمَاذَا أَكْتُبُ؟
أَنَا مُتَأَكِّدٌ مَنْ أَنَّنِي سَأَرْحَلُ عَنهَا بِدُونَ جَوَابِهَا، وَأَتْرُكُ سُؤَالِي تَوْقِيعًا أَخِيرًا لِي عَلَى آخِرِهَا!"
ينمُّ عن سؤال أبدِيٍّ فلسفيٍّ لا جواب له إلا بمواصلة البحث كتابة وعطاءً، فلا أحد تُسنَدُ إليه موهبة الكتابة؛ بل هي تصقل بالثقافة، والشاعر الدكتور الباحث المترجم محمد حلمي الريشة أبَان عن سعة اطّلاعه اللغوي والشعري والنثري؛ فكان "كتاب الوجه" الذي أبان عن أخلاقيات لغته؛ فأكْرمها، وما جعلها كمن أصابَها مسٌّ من لغوٍ، ولا بخسها حقّها، فما أهانها لمزًا ولا قهرًا؛ فجعلها الأنقى والأرقى والأعطر لديه، كتابُه هو الذي آمن بتوقيعه عليه، من يرى به غموضًا؛ فإنّي أقول من منطلق نقديّ وشعريٍّ معًا إنّ الشعر هو مرجعيته الإنسانية متّسقة تمام الاتساق مع هويته الفلسطينية العربية.  
تتعدّد الثيمات في الكتاب، وهي انعكاس لمشهديات كثيرة أنيقة الحَزَن واقعية، لكنها نزحت نحو متخيَّل فطنٍ، منتبِه ومنتبَه عليه، هي مهارة بسردِ نُهى قلبٍ ونبضِ عقل بمهارة حبرٍ وبصياغة مدهشة على التكثيف بأناقة الصدق وكرم الشعر.
هو الشاعر لا يمكن عزله عن هويته الشعرية والثقافية الراقية بوجعه، بحرقته على فلسطين، بعشقه لها المنزرع في وريد ريشته، بكل خطواته المتئدة المدروسة التي تتخطى صعاب المرحلة الثقافية والإنسانية العربية الحالية بكل معيقاتها وتحولاتها العصيبة، سيظل يدهشنا بأناقة صياغيَّة متجددة، وبأس لغوي.
فهذه القراءة الهادئة لـ"كتاب الوجه" هي بعيدة عن طقوس احتفالية بطقوس مجاملة، وليست ارتجالًا  تصوّريًّا متخيّلًا للإسهاب حديثًا عن سمات جمالية؛ لكنها قراءة بميزة اعتراف بأهمية الكتاب من حيث  تنوع أشكال البوح به.

تعليق عبر الفيس بوك