العصر الأورآسيوي القادم: روسيا – الصين – الهند (1)

ماهر القصير – السعودية
باحث في السياسة الدُّوليّة


 مشروع إقامة نظام عالمي متعدّد الأقطاب ليس جديد الطرح حيث أن روسيا لم تستسلم كاملاً ((للنظام العالمي الجديد الأحادي القطبي)) الذي تمسك واشنطن بمفاصله الأساسية. حيث أنها بدأت بالتحرك مبكراً للتهيئة له على الساحة الدولية و المناداة به و حشد الحلفاء حول هذا المشروع , فالتقارب الروسي ­ الفرنسي في عهدي ميتران ثم شيراك, يسعى لإقامة “نظام عالمي متعدّد الأقطاب” كما تقول كل البيانات المشتركة الصادرة عن اجتماعات زعماء البلدين. كذلك الأمر مع الجار الصيني الباحث بدوره عن حليف في خضمّ التنافس العالمي الجديد. وقد وقّع الرئيسان زيمين ويلتسين في نيسان 1996 أربعة عشر اتفاقاً للتعاون في شتى الميادين, ومنها وثيقة تنصّ على إقامة “شراكة استراتيجية” تهدف إلى إقامة ((نظام عالمي متعدّد الأقطاب)) , و بنفس الوقت ان هناك تحولا في الاولويات الاستراتيجية للدول الكبرى، فبينما كانت دول اتحاد الناتو تقلص نفقاتها العسكرية بسبب الأزمة المالية من %11 في 2006 لتصل إلى %25 في 2011 بانخفاض تعداد قواتها المسلحة من 2.51 مليون عسكري في عام 2000 الى 1.86 مليون في عام 2012، لتفقد دول الناتو دورها بالحفاظ على ضمانها للأمن العالمي، كانت الصين تتأهب باستعدادات عسكرية ذات تقنية عالية لمواجهة التحديات الأميركية التي تهددها بتعزيز نفوذها العسكري في منطقة آسيا والمحيط الهندي، لتغير في خطة أميركا الاستراتيجية بإيقاف أو تأجيل استكمال نشر منظومتها الصاروخية الدفاعية بمرحلتها الرابعة المقررة في أوروبا بحلول عام 2020، لتتفرغ لمناورات كوريا الشمالية الاستفزازية بتهديدها العلني للقوات الأميركية المرابطة في المنطقة التي نشرت رادارا ثانيا في اليابان كتحذير للصين من عدم ردعها لبيونغ يانغ في ايقاف تجاربها النووية، ورفع جهوزية صواريخها في قاعدة فورت غريلي في ألاسكا (من 30 - 44 صاروخا اعتراضيا)، وإنشاء قاعدة ثالثة على أراضيها لمضادات صواريخ تنطلق من أعماق الأرض لتزيد بقدراتها الصاروخية بنسبة %50، لحماية أراضيها واليابان من الصواريخ البالستية البعيدة المدى المتطورة لكوريا الشمالية، بعد استكمالها للمرحلة الأولى بنشرها المنظومة الصاروخية الدفاعية وراداراتها في الشرق الأوسط عام 2011 (صواريخ اعتراضية ستاندرد 3، أس أم 3، إيدجيس)، ورادار في تركيا تحسبا لأي صواريخ بالستية إيرانية، إلى جانب استكمال مرحلتها الثالثة بنشر منظومتها في رومانيا حتى 2015 (نشر بطاريات منقولة مزودة بصواريخ اس ام 3)، والأخيرة في بولندا حتى عام 2018 التي أوقفتها اميركا كهدنة مع روسيا لتسوية ما على الشرق الأوسط او اعادة لتوزيع القوى العسكرية الدولية في البحر المتوسط بعد تعزيز روسيا لانتشار اسطولها الحربي لتنفيذ مهمات دفاعية على مصالحها العسكرية في سوريا، وتحرك سفينة حربية روسية للقرن الأفريقي، ومستقبلا للمحيط الهندي والهادىء 2015، مما يؤشر لاستعداد روسيا لمواجهة تحديات بريطانية - أميركية واطلسية في الشرق الأوسط والعالم الآسيوي لتخوفها من نشر منظومة صاروخية على سفن أميركية في عرض حوض المتوسط تطال قواعدها العسكرية مباشرة.
حيث بدأ التحرك السريع واللافت في إعادة توزيع القوى الجيوعسكرية للدول الكبرى (الصين، روسيا، أميركا)، مما ينبئنا بمؤشر العد التنازلي للحرب الاستباقية المتوقعة، والتي قد تبدأها كوريا الشمالية من شرق آسيا.
وقد ظهرت لأول مرة فكرة تأسيس تحالف استراتيجي بين الدول الثلاث (روسيا والصين والهند) عندما طرحها الأب الروحي لهذا المشروع الأوروآسيوي الكبير رئيس الوزراء الروسي الأسبق يفغيني بريماكوف أثناء زيارته الهند عام 1998، حيث صرح بريماكوف للصحافيين قائلا: "إن تأسيس مثل هذا التحالف هو الكفيل بتغيير موازين القوى العالمية لصالح السلام والأمن الدولي". وجاءت هذه المبادرة ليس كرد فعل من روسيا على تجاهل الولايات المتحدة لاعتراضاتها أثناء الاستعدادات الأمريكية لضرب صربيا بل تشكل لدى روسيا قناعة بصعوبة تكوين تحالف مع الغرب ، لاسيما بعد التوسعات الجديدة التي شهدها كل من الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي ، حيث كانت روسيا في الفترة الأولى لحكم بوتين، ترى أن استعادة نفوذها سيتحقق من خلال اندماجها مع الغرب , الأمر الذي دفع بريماكوف- منظر "التعددية القطبية"- إلى الدعوة لتكوين محور جيوبوليتيكي قادر على إحداث توازن أمام المشروعات الأمريكية على الساحة الدولية، خصوصا أن العلاقات بين الهند والصين كانت سيئة للغاية بسبب الدعم الكبير الذي كانت تقدمه بكين لباكستان سياسيا وعسكريا. كما أن روسيا والصين كانتا عام 1998 تقريبا على العلاقات نفسها التي كانت بينهما في زمن الحرب الباردة، لا أصدقاء ولا أعداء، في الوقت الذي نمت فيه العلاقات التجارية بين الصين والولايات المتحدة لأعلى المستويات وأصبحت الاستثمارات الصينية تحتل المرتبة الأولى في السوق الأمريكية والأوروبية أيضا، ومنحت واشنطن الصين حق الدولة الأولى بالرعاية وفتحت لمنتجاتها الأسواق العالمية، في الوقت نفسه لم يكن هناك ما يغري الصين للتقارب مع روسيا الضعيفة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ولم يكن هناك سوى السلاح الروسي الذي تريده الصين؛ لأن الغرب لا يتعاون معها عسكريا ويريدها فقط شريكا تجاريا, و لكن حدث التغيير الاستراتيجي في هذه العلاقات و رفع مستوى التعاون الذي أدى إلى تحالفات استراتيجية ثابتة تقريبا في سياسات هذه الدول الثلاث مع قدوم بوتين إلى سدة الحكم في روسيا . وهنا برز "المثلث الآسيوي" كحل نموذجي لروسيا في ظل عزلتها على الساحة الدولية ومخاوفها المتعلقة بوضعها وهويتها؛ ومن ثم اتخذت روسيا من شراكتها مع الهند والصين وسيلة تستطيع من خلالها إعادة التأكيد على تفردها وهويتها الأورو- آسيوية. وقد حرصت موسكو على أن يكون الشكل الذي تطرحه لجذب كل من نيودلهي وبكين لهذا التعاون شكلا توازنيا حيث أن وجود "التوافق الأيديولوجي" كافيا، في وقت الحرب الباردة، لتأسيس تحالف بين الدول، فإن هذا الأمر لم يعد ممكناً في الوقت الراهن، فالمبادئ العامة لا تساوي شيئاً إذا اعترضت طريق المصالح العليا للبلاد. وتتأكد صحة هذه الحقيقة عندما يكون الحديث عن دولتين صاعدتين، تضم كل واحدة منهم أكثر من مليار نسمة.، بمعنى أن هذا التعاون يهدف بالأساس إلى إحداث توازن في العلاقات الدولية وتحقيق الاستقرار اللازم لكي تتمكن القوى الصاعدة من تعريف أهدافها ومصالحها الوطنية , و الهدف الإقليمي من هذا التعاون الثلاثي يتماشى مع العديد من المتطلبات الروسية على الساحة الداخلية، فالحفاظ على الاستقرار الداخلي يمثل أحد الأولويات القصوى لبوتين منذ انتخابه، كما أن مركزية السلطة تهدف إلى حفظ النظام على الأراضي الروسية واسعة النطاق؛ ومن ثم يحقق هذا التعاون الثلاثي تلك الأهداف على اعتبار أن أي مشكلة محتملة تقع في الجمهوريات السوفيتية السابقة يتم اعتبارها مضرة بوحدة روسيا وباستقرارها الداخلي.

تعليق عبر الفيس بوك