السياسة الخارجيّة العُمانيّة وإدارة الأزمات (2)

د. عيسى الصوافي – سلطنة عمان
دكتوراه في إدارة الأزمات


في الحلقة السابقة تحدثنا عن مرحلة تكوين السياسة الخارجية وفي هذه المقالة سوف نناقش مرحلة استعادة المكانة التاريخية حيث عرفت عُمان بعد تولي السلطان قابوس مقاليد الحكم، تغييراً حقيقياً في كل مكونات الدولة، ومن ذلك ما شهدته مجالات السياسة الخارجية والدبلوماسية العُمانية من تقدم وإعادة صياغة، حيث بدأت الدولة الجديدة بتهيئة نفسها للتعامل مع المجتمع الدولي والانخراط فيه، ولكن على أسس من العقلانية والانفتاح والاعتدال. كما بدأت السياسة الخارجية العمانية في بناء ثوابت جديدة ومركزية، كان أهمها الاحترام المتبادل بين الدول، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير، ومد يد الصداقة والتعاون للجميع دون تمييز أو استثناء. كل ذلك دون الخروج عن الأصول التي أعطت لعُمان صبغة أصيلة أوجدها وفرضها الموروث التاريخي(..).
ومنها أيضا، الانحياز التام إلى استخدام الوسائل السلمية في حل النزاعات، حتى إذا ما استنفذت تماماً، يجوز عندها اللجوء إلى الوسائل الأخرى على أن يكون الهدف من استخدامها (الوسائل الأخرى) صيانة السلم والأمن أو إعادة الحق إلى نصابه، وليس تحقيق مكاسب ذاتية أو قطرية. كما انتهجت السياسة الخارجية العُمانية مبدأ الحياد الإيجابي ومبدأ الانفتاح على كل المجتمعات الدولية.
وفي هذه المرحلة تمكنت عُمان من رسم سياسة خارجية متحررة إلى حد كبير من المسار الإقليمي، وبدأت بقراءة مستجدة لقواعد الواقع الداخلي وإيقاعاته وهي حالة متفردة، أثرت بصورة مباشرة على الدبلوماسية العُمانية ورسمت ملامحها. ومن هذه الوقائع والإيقاعات ذلك الاستقرار، بعد أن استطاعت عُمان أن تتحلل من كل القضايا التي أربكتها وعقدت أوضاعها، فأنجزت موقفها مع قضية ظفار، وحلًت جميع إشكالياتها الحدودية. وفي هذا السياق بنيت السياسة الخارجية العُمانية على أربعة مقتربات انتقالية (..):
(1) الشمولية: فالسياسة الخارجية العُمانية، كما هي سياسات الدول الحديثة، قامت على الفعل الجمعي لما يحدث في الداخل والخارج في حالة تكاملية لا تسوق أمراً في خدمة آخر.
(2) التطوير: فبعد أن كانت جهود الدولة مصادرة بسبب اضطرابات الجنوب، وكانت منعزلة بسبب الفكر الذي كان يحكم قادتها، انطلقت في مسيرة تحولية ضخمة استغرق الإعداد لها وإنجازها حوالي خمس سنوات (1970 ــ 1975م)1.
(3) الانفتاح: حيث استطاعت السياسة الخارجية العُمانية، بعد فترة قصيرة من إنهاء مشاكلها مع الجنوب وحل كل قضاياها الحدودية، أن تخرج من عزلتها التي فرضتها على نفسها قبل تولي السلطان قابوس الحكم. وسعت السلطنة لإقامة علاقات أوثق مع دول الجوار، ومع بقية دول العالم. واتسمت هذه المرحلة بالجدية، والإعداد للانخراط في استحقاقات الفترة التحولية على صعيد المنطقة والعالم.
(4) الواقعية: فبعد أن أنهت السلطنة البنية التحتية السياسية والأمنية والاجتماعية، وبعد أن نضج إدراكها واستقامت قدراتها واتضحت سبلها، أخذت تصيغ سياستها الخارجية على قياسات الواقع والممكن، والحياد والمشاركة في الأنشطة الإقليمية والدولية كافة. وأخذت تلعب دوراً بارزاً في معالجة القضايا الخليجية، والعربية، والإفريقية، وقضايا الدول النامية. فبادرت بالتعامل مع معطيات الأحداث بكل حيادية إيجابية، فلم تنكر على مصر كامب ديفيد، ولكنها أكدت أنها ستقف مع الحق العربي كيف استدار. وفي حروب الخليج لم تكن السياسة العُمانية تشتط، ولكنها عملت على اغتنام علاقاتها مع كل أطراف النزاع: العراق، وإيران، ودول الخليج، والولايات المتحدة، للاحتفاظ بمخرج يمكن أن تمر به مقدرات الأحداث، إن هي اتجهت نحو الحلول السلمية.
وفي الحرب العراقية الإيرانية نهجت السياسة الخارجية العمانية مسلكاً توفيقياً، فلا هي وقفت مع إيران كلية، بالرغم من خصوصية العلاقة الجيواستراتيجية والأثنية معها(..)، فرفضت دعوات القطيعة مع طهران، ولا هي تخلت عن العراق فاستمرت في الوقوف معه للخروج من المأزق. كما سعت السلطنة إلى المشاركة الفاعلة في الجهود التي بذلت لإعادة مصر إلى الصف العربي، بعد أن تعرضت لنقد وهجوم بسبب زيارة للقدس ولتوقيعها كامب ديفيد.
وفي قضية دخول العراق إلى الكويت ظلت السلطنة تمارس سياسة الحياد والتعقل الأمر الذي مكنها من قيادة محادثات واتصالات أفادت في إبقاء العراق في الصف العربي، وفي نفس الوقت تحرير الكويت.

تعليق عبر الفيس بوك