الحياة الفكرية والثقافية في عـُمان في النصف الثاني من القرن الثامن عشر:

النثــر فنونه وظواهره: (7/11)

د. صالح بن عامر الخروصي – سلطنة عُمَان

 

    كان الاهتمام بالشعر يحظى بالأولوية، أما النثر فلم يحظُ بنصيب وافر من الاهتمام ، ربما لأن الفنون النثرية كالرواية والقصة والقصة القصيرة والمقال وغيرها لم تظهر بعد على الساحة الأدبية . وما يمكننا أن نشير إليه من فنون نثرية آنذاك تنحصر في إحدى المقامات، مع استعراض لأسلوب ولغة المخاطبات الرسمية، والتطرق إلى ظاهرة الكتابات الصخرية، وأخيرا نلقي نظرة على كيفية نسخ الكتب.


أ/ فن المقامة:
    المقامة فن نثري يقوم فيه المؤلف بسرد حكاية معينة بلسان الراوي الذي قد يكون شخصا حقيقيا أو وهميا، وتتعلق الحكاية أو القصة بشخصية محورية (البطل) الذي تقع له أحداث (تمثلها الحبكة الفنية)، ويظهر فيها البطل بشخصية تستدر عطف الناس وشفقتهم (تسمى الكدية). كل ذلك في طابع لا يخلو من السخرية. وتكثر في هذا اللون الأدبي المحسنات اللفظية والبديعية من جناس وطباق وما إلى ذلك. ويسود الاعتقاد أن بديع الزمان الهمذاني هو من ابتدع هذا الفن، إلا أن أحد الباحثين يرى أن الأديب العماني الشهير إبن دريد (ت سنة 321هـ/ 933م) هو من ألهم الهمذاني كتابة مقاماته التي أشتهر بها ، فقد ألف إبن دريد ما يسمى بـ (الأحاديث) التي جاءت المقامات على غرارها، إلا أن الغاية الرئيسية عند ابن دريد كانت تعليم الناشئة مفردات اللغة العربية وأساليب بلاغتها من خلال ذلك القالب الذي سمـّاه بالأحاديث، والتي نجد فيها جميع أركان المقامة من: الراوي والبطل والحبكة الفنية. ولم يطرق العمانيون فن المقامة بعد وفاة ابن دريد حتى ظهر الشيخ الفقيه أبو عبدالله محمد بن سعيد القلهاتي، وهو من علماء النصف الثاني من القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي، وكانت له مؤلفات من أهمها كتاب الكشف والبيان في الأصول وبيان فرق الأمة، وما يهمنا من مؤلفاته هنا المقامة الكلوية، التي كتبها بسبب تخلي بعض أهالي مدينة كلوة (الساحلية الواقعة في شرقي أفريقيا) عن المذهب الإباضي.

ثم حدث انقطاع زمني كبير، إذ لم يتم التأليف في هذا الفن مجددا حتى مجيء الشيخ سعيد بن محمد بن راشد الخروصي في القرن 12 هـ/ 18م، الذي ألف مقامة أسماها " المقامة السونية "  ـ نسبة إلى مدينة سوني القديمة التي تعرف بالعوابي حاليا وتقع عند مدخل وادي بني خروص موطن الأديب ـ ولم يعثر له على غيرها من المقامات. وقد جاءت المقامة السونية على نهج مقامات بديع الزمان الهمذاني، ففيها الراوي ـ وهو شخصية خيالية ـ  وفيها البطل والحبكة الفنية، وفيها الكدية ـ أي الاستجداء أو الاستعطاف ـ التي هي أساس بناء المقامة.  
ظهرت تلك الأركـان من خلال نص المقامة الذي جاءت بدايته على النحو التالي : " روى اليافث بن تمام قال: أجدبت أرضنا ذات سنة، حتى منع الطوى من السنة، وأقوت من الأقوات الربوع والمرابع، فلذا تجافينا عن المضاجع، وأمسكت السماء عن الرجع، والأرض عن الصدع ". فصاحب المقامة هنا هو الراوي بعينه، وهذا ما لم نجده مع من سبقوا الشيخ سعيد ممن كتبوا في هذا المجال.

يستمر صاحب المقامة في رسم صورة راويه بأنه راو ٍ متنقـل وذلك حين يقول : " فحينئذ أزمعت الترحال إلى سوني القديمة، فلم أزل أنجد وأغور، وأقطع الدمث والوعور، حتى وافيت جنابها الرحيب، وروضها العشيب، وزهرها القشيب".
أما ظهور البطل في هذه المقامة فإنه يأتي فجأة، وهو أمر مشابه إلى حد بعيد لظهور البطل عند الهمذاني والحريري، فبظهور البطل تظهر الكدية (الاستجداء) ، ونجد ذلك في سياق قوله: "فما لبثت إلا لمحة ناظر، أو كخطفة طائر، حتى رأيت الجماعة ينقضون ولا انقضاض الشهب، ويوفضون ولا الوفوض إلى النصب، فبادرت مع الزمر، لأعلم ما الخبر، فإذا بناد رحيب، قد احتوى على الأحمق واللبيب، وأهل العرف والمعرفات، واجتمعوا ولا الجمع بعرفات، فإذا بوسط الدست كهل أعرج، متكيء على عصا أعوج، قد اكتسى حلة الزهادة، وعليه سيماء العبادة ... وهو ينادي بلسان أسلق صهصلق: أيها الناس ذهب الوفاء وغاض، وتفجر الغدر وفاض، وضرس الدهر بأنيابه على الكرام فعض، وأناخ عليهم بجرانه فرض، ... فهل من حر مغيث، لأعرج مستغيث، قد غادره الدهر لقاء، بعد التمكين والارتقاء ".

وهكذا يستمر في وصف حاله مستعطفا الناس " ... قال اليافث بن تمام، فرثت الجماعة لذلته بعد عزته، وحبوه لبلاغته ورثة حالته". غير أن الراوي أراد أن يعرف حقيقة هذا الخطيب الذي سحر ألباب الناس، ففي هذا السياق ورد الآتي: " ... فقفوت أثره متواريا حتى أمن الرقيب والساعيا، ثم أجفل إجفال الحمار، وانساب مسرعا إلى غار، فتماديت في السعى إليه، حتى ولجت سربه عليه، فإذا معه شادن أقمر، بيده كأس أنور، وحياله شطرنج ومزهر، وحوله صحائف وصحاف، ومن الأطعمة أصناف، وهو يغرد بتلاحين ويرقص ولا رقص المجانين، فقلت أخزاك الله، أنسيت مولاك، ومن نعمه أولاك، ولم تراقب رقيبك حتى نسيت نصيبك".

 إن العتاب الذي دار بين الراوي والبطل أفضى إلى أن أسلوب الخداع والاحتيال هو سبيل الكثيرين للنجاح ـ حسبما يدعيه البطل ـ ، ويظهر ذلك في قوله:" كن كأهل زمانك، وعلى أسلوب إخوانك، فإنه زمان لهو ولعب، ومجون مضطرب، قد استوى فيه النبيه والبليه، والجاهل والفقيه، فتغلب وتقلب، وتماكر لتباكر،فقلت ما أحسن بنيتك، وأقبح نيتك، وأفصح لسانك، وأخف جنانك، تعمل عمل الأشقياء، وترجو رجاء الأتقياء، أيمهلك الحـِمام إذا قدم، كلا بل، فيحل بك الويل والندم، هل لك أن تقلع إلى المتاب، وترغب في المآب إلى الثواب، ... فقال هيهات هيهات، فحينئذ يئست له من الرشاد، وقرأت (من يضلل الله فما له من هاد) ". وهكذا تنتهي المقامة ـ كما أراد لها كاتبها ـ بأن الشر موجود في نفوس البعض تغـّذيه تناقضات الحياة.
إن المقامة السونية هي أول مقامة عمانية جاءت مكتملة الأركان، ولذلك عد الدارسون هذه المقامة أول المقامات العمانية، وإن كانوا قد تطرقوا إلى أحاديث ابن دريد وكلوية القلهاتي، ولكن عند التطبيق المنهجي عرضوا لهذه المقامة باعتبارها أولى المقامات. والجدير بالملاحظة أن الشيخ سعيد الخروصي لم يأتِ بجديد في بناء شخصياته، بل تأثر ببديع الزمان الهمذاني وبالحريري، فإن شخصية الراوي عنده هو اليافث بن تمام، يقابله عند الحريري الحارث بن همام، وهما كما يتضح متطابقان تماما. ونجد التشابه في البطل، فعند الخروصي نجد أبو عبيد الفلوجي، ويقابله عند الحريري أبوزيد السروجي، وعند الهمذاني أبو الفتح الاسكندري. والملاحظ أيضا أن جميع الشخصيات التي وردت في مقامات الخروصي والهمذاني والحريري هي شخصيات خيالية، ويبدو أن الخيال في الشخصيات يكاد يكون لازمة من لوازم أدب المقامات. وربما يفسر اتباع هذا الأسلوب برغبة أصحاب المقامات في ضمان حرية التنقل في كل مكان وزمان بأسماء مستعارة، لا سيما أن طبيعة تلك الشخصيات في المقامة ـ التي تتخذ أسلوبها في التسول والترحال ـ يناسبها عدم الالتزام بمكان وزمان محددين. ويمكن القول أن الشيخ سعيد ترك تأثيرا في فن المقامة العمانية والعربية، إذ تأثر به من جاء بعده من الأدباء، ومن أقربهم عهدا به الأديب المعروف ابن رزيق، الذي نسج على منوال المقامة السونية مقامة أسماها بالمقامة الشاذونية (نسبة إلى موطنه مدينة نخل المعروفة بنخل شاذون)، وجاءت أيضا على غرار مقامات الحريري والهمذاني.

تعليق عبر الفيس بوك