قال: لا أملك سوى النكتة!!

راشد بن حمد الجنيبي

"حين يبدأ الشعب بصناعة وإنتاج النكتة، فاعلم أنه بدأ يشعر بالجوع والفقر". اختلفت الآراء حول صواب هذه العبارة من عدمه، واختلفت المصادر عن قائلها بين سورين كيركغور وكير كيغارت، لكن قطعاً من قالها شخصٌ وصل له نصيبٌ كافٍ من النكت.

المآسي أحيانا والفشل أحياناً أخرى، تكون السبيل والمتنفس لاطلاق شيءٍ من الضحكات الساخرة المبطنة بالإحباط، وكل حادثة سلبية اجتماعية أو إدارية تكون نجمة الموسم أو بالأحرى نجمة الأسبوع، لأن لكل حدثٍ طرفة وفي كل يومٍ حدث، تعثر مشروع حكومي أو إداري أو اقتصادي في أي بلد قد يكون له وضعه وتحليلاته وربما له مخرج واقعي لسببه أو لوصفه بالتعثر أو حتى بالفشل، بل قد يكون لخبراء الاقتصاد والسياسة والإدارة آراء دقيقة وتحليلات أدق لتفسير كل المسائل بيسرٍ ووضوح، وقد لا يستدعي الأمر لصناعة نكتةٍ جديدة، لكن علها التراكمات من بعض أحداث أي مجتمع ذات النتاج المحبط والتي تصنع أصداءً بين أرجائه، علها خلقت تقبلاً لخلق نكاتٍ لكل حدث، بل هروباً من أي تراجيديا في الوضع المالي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو حتى النفسي والأسري.

وجد مهذولو السخرية في الشارع أو لعنة الإحباط والتسليم للواقع التي حلت علينا جميعاً، أن في فساد الإدارات أحياناً أو دعنا نسميها "تعثر" المشاريع قريبة المدى وغيرها طبقاً شهيًا ودسماً للنكت وخفة الظل والهروب من واقع (القوي أعلى من الضعيف)، فنحن لا نملك سوى النكتة!!

النكتة إذاً، في هذا الجانب، هـي حول من لا حول له ولا قوة، وهي المخرج لكل عجزٍ يقزم رجاءنا، وهروب من أي بؤسٍ يلاحقنا، وهي السبيل بعد التقييد والكتم، وهي الضحك على تعاسة الواقع دون تغييره، هي التضاحك ألماً بعد قصة حب فاشلة، فنحن حقاً في كثير من الأحيان لا نملك إلا النكتة، تأمل المآسي الإنسانية التي تحصل حولنا ونحن نكتفي بالكاريكتور فقط، هي في الواقع وسيلة التعبير الأكثر انتشاراً، والأعجب والأجمل من ذلك، أن فن النكتة يخفي مصدره أو قائل النكتة ومعدها، حقاً هي متنفسٌ نقديٌ ساخر!! بل حتى سعيد الحظ ومن له نصيب من الاكتفاء و"صانع المصير" في المجتمع يلجأ للنكتة ضحكاً وقهقهةً ويلجأ تارةً ليبقي العاجز على عجزه، ويجعل قمة فسحة العاجز (إن أحسنا التعبير) ونشوته هي نكتة!!، فقط نكتة غير معروف صاحبها ولا تحرك شيئا من الواقع، يضحك هو بها و(العاجز) يضحك أيضاً لكن بسخريةٍ وإحباط، وينشغل بذلك عن المصير.

المبالغة تكون عندما نتعطش لأي طرفة، ونصبح مهلوسين بها حد الجنون، ونسيء فهم فن النكتة، وتصبح من متنفس إلى فرصة لجعل المجانين مشاهير، ففي فن النكتة كانت الرسالة سامية بوعي أو تنم عن تعبير بالفطرة عن الواقع، وحتى لو كانت ساخرة لكنها توحي بشيءٍ من الوعي، فتشويه الطرفة وتحويلها لمنصة لشهرة من لا مهنة له قد تكون حركة مضادة  من من كان ضحية النكتة لإتلاف النكتة نفسها وإبعادها عن طرح أي رسالة مُبطنة، قد يصنع "كارهو النكتة" دمية لتخطفها، ثم بلهجة مائعة تتغنج بالدلع "الذي يتبرأ منها" لتفعل شيئاً في قمة التفاهة لتلفت الأنظار وتسترزق بذلك، أعظم فرقٍ بينها وبين أصحاب النكت الساخرة وحتى إن اتسمت بالإحباط، هو الوعي والتنوير المنشود من الطرفة والذي تفتقر هي له، الإشكالية تحدث عندما يلجأ "صانع المصير" المقصود من النكت، لدمى كأمثال "المتغنجة" لإشغال الرأي العام أو رأي المجتمع إن كان التعبير أدق وتحييزه عن السخرية من الواقع إلى تفاهة شخصٍ بضاعته الفراغ، يكفيك التبصر والتأمل في نوافذ التواصل الاجتماعي لترى أن هناك كثر من هذه الأمثلة، خطفوا الكوميديا والفن والنكتة وأصبحوا أبواقاً للفراغ شاغلين الناس عن أي بصيص من الوعي،لا لا، لا تتلفوا النكتة !

 

"نحن قومٌ لا نملك إلا النكتة"، نحن؟! للقارئ السائل الباحث عن "نحن"، هنا الـ"نحن" أقرب إلى التعبير المجازي لكل من كان حظه تعيس ويومه أتعس فيلجأ للنكتة التي لا يملك سواها، والــ"نحن" أيضاً تمثل المظلوم والمقهور والمغلوب على أمره فجره مصيره للنكتة، و"نحن" أيضاً للمتقاعس المتكاسل العاجز عن الانطلاق واتخذ مرارةً في الواقع حجةً لكسله، "نحن" لكل من لا يملك سوى النكتة.