قراءات في الأدب الصهيوني المعاصر:

الأنا والآخر في "ابتسامة الجَدْي" لـ ديفيد غروسمان(3-6)

أمين دراوشة – أديب وناقد فلسطيني – رام الله


في الحلقة السابقة قلنا إنّ الكاتب يحلم أو يتمنى لو أن الاحتلال كان شاعريا، لكن الواقع أقسى بكثير، حيث تم تدمير قرى بكاملها، وذبح سكانها بدم بارد، لإثارة الرعب في نفوسهم، لدفعهم إلى الهجرة. والغريب أن صاحب فكرة الجسور المفتوحة ديان، له تواجد لافت في الرواية في محاورة قصيرة مع كاتسمان. وتساءلنا هل كان المؤلف يتمنى لو لم يتم احتلال الضفة؟ أم أن مواقفه في الرواية محاولة بائسة لتحميل الفلسطينيين وزر تحوّلهم إلى لاجئين يعانون الفقر والمرض... وعند هذا المنعطف وفي الحلقة الثالثة نواصل استعراض حالة الصراع بين (الأنا والآخر) في رواية "ابتسامة الجدي" لـلكاتب الإسرائيلي ديفيد غروسمان
بين المخدوع والمفجوع:
يدرك كاتسمان إن الليلة صعبة ولا تحتمل، ليلة محاصرته لمغارة حلمي المجنون، الذي أخذ يوري رهينة، "وكافة الأشياء المشابهة التي صادفته في حياته، رغباته الأكثر سرّية، مخاوفه التي لا يستطيع التعبير عنها، نزواته مع نساء متزوجات، صوت أبيه الذي ينقش ملحمة اريوستو على صفحة دماغه، فقد أثبتت كل الأشياء التي بدت كحلم باهت، وبالكاد تشبه الواقع، مع مرور الوقت، بأنها تقاوم بضراوة كل تقلبات الأوضاع الإنسانية. وبأنها لن تغادره، حتى بعد جفاف المحارات المليئة بالحيوية في حياته وموتها) ـ (ص312). ودائما سيعرف كيفية الوصول إلى هذه الأشياء في داخله "وتحسسها في الخفاء، والحنين إليها في أوقات الأزمة، والوصول من خلالها إلى حقيقته الذاتية الثابتة" ـ (ص315). وهو يبحث عن لحظة حقيقة واحدة ولا يجدها، وهو دائم الفشل، ونشر الفوضى في كل شيء "لا ضرورة للمكابرة، ها هي كل إخفاقاتك الأخرى تقف صابرة في انتظارك" ـ (ص315). له محاولاته البائسة للعيش دون حب، وهو لم يكافح من أجل شيء "إذ لا يوجد فيك القدر الكافي من الحقيقة كي تكافح من أجل شيء ما" ـ (315). وقال لنفسه التعبة "كل ما كنت تحتاجه العثور على شخص مشوّش مجنون من طراز يوري، ليريك كم تكذب حتى على نفسك، الشخص الذي فكّرت ألا تكذب أبدا عليه، لا بد أن ثمة سرّاً ما في ابتسامة يوري الحيوية، التي تكشف عن سنه المكسورة، والتي أظهرت لك مدى يأسك ونفاقك" ـ (ص315).
كفر كاتسمان بكل شيء حتى بالجيش، لذا يقول لأحد ضباطه، شيفر، إنه ضجر وسئم، و "سأستقيل من الجيش" ـ (ص318)، ولم يتكلم شيفر، وأحس كاتسمان بالامتعاض والإهانة، فصمت شيفر يعني الموافقة على ما قاله. إن الجيش يمثل طريقة كاتسمان في الحياة، ولكنها طريقة "ثبت الآن أنها حالة فشل أيضا ـ (ص318)، فأضاف أنه "حالما ننتهي من هذه المشكلة سأنهي عقدي، وأمضي في حال سبيلي ـ (ص318). لكن شيفر نهاه عن اتخاذ مواقف متسرعة وتحت وطأة الضغوط فأجاب: "لا. لقد صممت" وانتابه إحساس بالارتياح ـ (ص318). وتذّكر أن اليوم يصادف عيد ميلاده.
صعد كاتسمان إلى مغارة حلمي وحده، فهو يشعر أن انقاد يوري مسؤوليته وحده، صرخ به حلمي: قف، وتقدم نحوه "ضئيل الجسم بشكل يدعو للدهشة، يتمم بصوت مرتفع نحيل" ـ (349)، وأخذ يتفحص كاتسمان الذي وقف "منتصب القامة". ويلاحظ كاتسمان "طغيان رائحة حلمي النتنة على رائحة الليمون" ـ (353).
يلاحظ أن حلمي، الذي من المفروض أن يكون في موقف قوة، يقدمه الكاتب بأنه ضئيل ونتن الرائحة، بعكس كاتسمان الذي هو في موقف محرج وخطير إلا أنه يقف منتصب القامة، أي أنه رغم سيطرة حلمي على الأحداث هنا إلا أن ضابط جيش الاحتلال واثق بنفسه، وينظر إلى حلمي العربي الفلسطيني نظرة دونية.
يخاطب كاتسمان يوري قائلا: أنا جئت لمساعدك من أجل الخروج حيا من هنا. ولكن أفكار يوري تبدأ بتبلور ويقول: "أنا غير متأكد بأنني أريد الخروج". ويضحك بوهن، ثمّ يضيف "لم أعد أعرف أي شيء، يا كاتسمان، كل ما عرفته ميت". ويخيل لكاتسمان أنه يسمع صدى صوت شوش من خلال صوت يوري الذي يكمل: "لقد تجاوزت ذلك كله الآن، يا كاتسمان، وتجاوزتك أنت، أيضا لن تفهم شيئا". هذا ما وضحته لي بنفسك "ما من شيء سوى الألم المبرح يناديني بصوت أعلى من الأصوات الأخرى. شيء كالتوق الشديد. كالشبق إلى امرأة، فلنقل. نعم" ـ (ص354).
استسلم يوري لقدره، ولفكرة حلمي الجنونية، وآمن أن كل من عرفه في المجتمع الإسرائيلي مات، ولم يعد له وجود. وعندما يحاول كاتسمان التفاهم مع حلمي حول طلبه، خروج الاحتلال من الضفة مقابل إطلاق يوري، يتحدث يوري ويشعر كاتسمان بالسعادة لرقة صوته، ولكن سعادته لم تدم طويلا، فيوري يتكلم بالعربية، فكلامه متوجه لحلمي،  ويقول يوري: "عليك أن تفهم، يا كاتسمان. لا فائدة من محاولة إقناعه، لقد انفق كل حياته في الهرب منا. من أناس على شاكلتنا. ولم يرد الصاع صاعين أبدا" ـ (ص355).
حلمي يؤمن أن من يقاتل يتحول في النهاية إلى رهينة لما يقاتله "كي تقاتل شيئا ما يجب أن تتحلى ببعض نقاط التماثل معه، فهمت؟". ويبتسم حلمي دلالة الموافقة على هذا الكلام. ويتحول خوف كاتسمان إلى غضب ويصرخ في يوري: "اتهمتني بالكذب، صحيح؟ بأنني ممثل لشعب من الكذابين. لكنه كاذب، أيضا.. وكذلك كل من يعيشون هنا. اسمع، تحتاج الكذبة الكبيرة لوجود شخصين كي يتمكنا من حملها". ويستمر في بالكلام: "وأنا لا احترمهم، سمعت، لا أحترم المليون، أو المليون ونصف المليون الذين يعيشون بهدوء في ظل نظام لا يريدونه"، تتناثر الكلمات من فمه مشحونة بالكراهية، وبعذاب غريب"، ولكن ليس ما قاله هو سبب عذابه في هذه اللحظة، أنه خداع "شكل من أشكال كراهية الذات التي تجمدت في الكلمات الخطأ". ويستمر كاتسمان في نفث أحقاده ضد العالم والمتوجهة إلى الشعب الفلسطيني بعملية إزاحة: "أنهم دون مستوى الازدراء) ـ (ص356). إنهم لن يتنفسوا هواء نقيا أبدا.
هنا يتدخل حلمي، ويتكلم عن هزيمة الاحتلال: "سيصيبكم الرعب، وربما لجأتم إلى العنف. فكر: مليون من البشر لا يلمسونكم، يصعدون صمتهم. يفرضون حظرا طوعيا للتجول على أنفسهم. قد تطلقون علينا النار في بداية الأمر، لكننا سنفتح ثقبا في قتلتنا. وأنتم لستم من طينة شديدة الصلابةـ (ص358).
ويدخل صوت يوري مخاطبا كاتسمان، أخفت شوش عني إقامتها علاقة مع موردي، ولكن أتعرف، ليس الصبي وحده من أقامت معه علاقة "هل تسمع، الزوجة التي منحتها ثقتي. الصبي وعلاقات أخرى. من تلك المرأة التي عشت معها هذه المدة الطويلة، يا كاتسمان، وكيف كنت مغفلا إلى هذا الحد؟". إن يوري يتلذذ في تعذيبه ببطء، وأدرك كاتسمان بغتة "تلتصق الأكاذيب كالحشوات المغناطيسية بالصدق، تكمن فيه وتصيبه بالاهتراء، حتى تكتسب شبها مطلقا به، ثم ينسى الناس المادة التي تصل الحشوات ببعضها ـ (ص358).
يحس كاتسمان بالتشويش، وبأنه يخوض معركة على جبهتين، ويتوسل: "لا، يا يوري، لا تفكر بذلك، فعلا". ويوري ملامحة كما هي، وابتسامته مرسومة على وجهه "لكنها لم تعد “ابتسامة الجدي”، بل أصبحت قناعا لوجه شرّير مليء بالازدراء، لعنة ضاربة يقذفها يوري نحوه، لأنه على درجة من الضعف لا يتمكن معها من نطق الكلمات". ويستمر يوري بالابتسام "كشبح قاس للموت"، وكاتسمان يحاول جاهدا أن يبعد نظره عن وجه يوري، الذي تسبب في خلقه نتيجة خطاياه، ويحاول عبثا كسر "البريق الحقود لابتسامة المهرج البارد الأعصاب" ـ (ص359). يفكر، يضع يده على قراب مسدسه. لا يرى أن حلمي يوجه فوهة مسدسه إلى قلب يوري، وبلحظات سريعة وخاطفة، يضغط حلمي بكل قوته على الزناد، ويردي كاتسمان قتيلا.
لم يرد الكاتب أن يموت يوري صاحب “ابتسامة الجدي”، كما يحصل في الأدب الإسرائيلي فيما يعرف بتضحية إسحاق، بل جعل يوري يشارك حلمي في قتل كاتسمان المريض، الذي لا أمل في شفائه، على الأقل ليفتح كوّة أمل، ببقاء يوري حيا، أمام المجتمع الإسرائيلي لحلّ للصراع مع الفلسطينيين. وينتهي الأمر باعتقال حلمي ويوري وزجهم بالسجن.
محيط من الأكاذيب:
شوش زوجة يوري، تعمل عالمة نفس، وتقوم بمعالجة الصبي موردي. اعتقدت في البداية أنها حققت نجاحا باهرا، لتكتشف في النهاية فشلها المميت، فقد "فشلت في إيصال الولد لأن يكتشف حقيقته اللاواعية. أنها "توهم" ولداً آخر وتكذب على نفسها وعلى مرؤوسيها، في ذروة "النجاح" انتحر الولد" (5)، لأن شوش مارست الجنس معه وهو المريض المختل عقليا.
في البداية تخبرنا أنها تربت وسط عائلة محبة، حيث كان والداها مقاتلين مثاليين في القوات اليهودية قبيل قيام الدولة. ويتحدث عنها الناس بإعجاب: "إنها تملك الإرادة والذكاء، إن أفضل انجازات ابنر تربيته لهذه الطفلة على صورته". وهي قوية وشجاعة، ويخبر الناس والدتها ليّا بذلك: ابنتك "يا سيدة افيدان قوية كأي ولد من الأولاد" ـ (ص59). وتشعر شوش بألم الفشل، وتأنيب الضمير لما جرى لموردي: "أريد، ولو للحظة واحدة، الإحساس في مكان ما من قرارة نفسي بأنني بريئة، وليس بفضل صفقة مشبوهة، أو بفضل نقص الأدلة"ـ (ص63). تكذب شوش وتخدع الجميع: المحققين في انتحار الصبي، المشفى، زوجها يوري، عشيقها كاتسمان، والدها؛ فمن أين امتلكت كل هذا الفن في الكذب؟
تتذكر شوش قول والدتها لها: "اصرخي بالكذبة التي تفرّخ أناساً مثلك، أشخاصاً مهذّبين مدرّبين على تقديم نسخة عن صورهم المزدوجة إلى العالم، نسخة لا يلاحظ زيفها الآخرون، لأنهم يمارسون الشيء نفسه" ـ (ص64). وتحدثنا شوش عن والدها ابنر، الذي يخدع نفسه، ويمارس الكذب في خطاباته ونصائحه، "ليس هذا وقت الكلام، يقولها بلهجة خطابية في اجتماع اللجنة القيادية في بيتنا. إنه وقت الفعل الذي يتجاوز الكلام المنمق. ثم يدسّ المعنى الأجوف في كليشيهات فارغة. يسعى مثل كلب مسعور يحفر جحرا للوصول إلى "قعر أسطورتنا القومية" مستكشفا المزيد والمزيد من الرموز والنظائر التاريخية، ونماذج الرجال المشهورين الذين روّضوا الحيوان "المعنى" وأسرجوا عليه حياتهم" ـ (ص65).
يعيش ابنر بمثالية زائفة تتناقض مع ما يفعله على أرض الواقع، فهو يدفع بالشباب إلى الحرب. حتى زوسيا القادم من أوروبا فاقدا للذاكرة، والذي يمثل حكاية المحرقة في الرواية، شحنوه في سفينة تقل مئات اليهود، ورموه على الشاطئ، ثم ألبسوه لباسا عسكريا، وزودوه بالسلاح، ثم "سجلوه وأعطوه رقما ونسوه، وأخيرا وضعوه في شاحنة وأرسلوه للموت في ميدان للقتال قرب مركز عربي للشرطة يطلق النار"ـ (ص107). وفي إحدى المعارك التي قادها ابنر، قتل أشخاص كثيرون وبينهم زوسيا، ولكنه بعد سنتين ظهر من جديد، فجلبه ابنر إلى بيته وأسكنه عنده ولم يفارقه بعد ذلك. وتحلل شوش السبب الذي جعل ابنر يحضر زوسيا إلى بيته قائلة: "كان يعني زوسيا وأمثاله عندما كتب عن الوعود المبهمة لتضليل نفسه في سبيل الاستمرار في الحياة دون الاعتراف بالحقيقة" ـ (ص108).
ابنر يتقن فن خداع الذات، وبدلا من اكتشاف حقيقة زيف الشعارات التي يطلقها، نراه يحتضن زوسيا، من أجل الاستمرار في الأكاذيب: فها هو يقوم بواجبه هو الآخر بمساعدة اليهود، وعدم تركهم لمصيرهم المحزن. الكلمات تقال على الدوام، لكنها ليس بضرورة تكتسي ثوب الحقيقة، أنها تشبه الحراس، يسدون الطريق أمامي، ولكنني سأقول الحقيقة "بصوت مرتفع.. ينقصني الحب".
وعلى الرغم من أنها كما تقول محاطة بالحب والدفء من كل جانب: أبوين محبين، زوسيا الحنون، حبّ صديقاتها، زملاء دراستها، عشاقها المؤقتين، الضباط الشبقين في الجيش، "ويوري الذي أحبني بنوع من السعادة الطفولية التي ينجم عنها الإحساس بالندم. وكاتسمان الذي احرقني كشعاع من الليزر، وموردي، مريضي. ورغم ذلك ينقصني شيء ما".
تحس بالنقص على الدوام، وتؤكد أنها إنسانة مشتتة ومشطورة ومنقسمة في ذاتها، فتقول: "يقطعني حاجز من الزجاج إلى نصفين، يحوّلني إلى مختبر، مستنبت بكتيريا شهوانية تلتهم نفسها فوق شريحة زجاجية شفافة، تبقيني واجهة ثابتة معزولة عن الأيدي المشتعلة التي عجنتني". وسواء الأيدي التي أثرت فيّ لزمن طويل، أو حتى الذين انهالوا عليّ بالشتائم المقذعة: "أنت بغي حقيقية أيتها المجندة، نمت مع نساء كثيرات، ولم أقابل شرموطة مثلك من قبل، أشعر بالقرف من نفسي، من أنت وماذا تفكرين نفسك بحق الجحيم. فلنقل وداعا إذن وننسى الموضوع ـ ص143 ـ 144).
أنها تبحث عن حل لغز ذاتها، لكنها تفشل في العثور على شخص قادر على ذلك، فتتحطم إلى شظايا. أنها تحن إلى من أفسدها، وجعل منها فنانة بالكذب، حتى أنها تستطيع الكذب بطريقة عفوية. وتتساءل ما الذي جرى؟ "ما الذي بدد نواياي الطيبة. والشعارات التي تعلمتها، ومكنني من مواصلة الحياة دون وخزات كثيرة للضمير حتى بعد قتلي لموردي" ـ (ص114).
أنه ابنر الذي كلما أسرف في الشراب، ازداد فكره صفاء وكلماته إبهارا. ولكن شوش لم تعد مؤمنة به، ولا بالألم الذي يغلف عبارته، فهي تعرف جيدا "أن ميل الإنسان للخداع يسوّغ له استخدام أي شيء. حتى الحبّ يمكن تحويله إلى سلاح فتّاك". كل شيء مزيف، ولم يعد هناك شيء حقيقيّ، وسيستمر ابنر بكذبه على الناس وإقناعهم "بالإيمان بكلّ شيء واستخدام العواطف الطنّانة ليأسه لإشعال جذوة الأمل الخامدة في الآخرين وقيادتهم إلى الأمام كربوت متحمس". ويخدع الجميع بإيماءات ابنر، وتعابير وجهه المزيفة، لكن ابنته تعلم "أن كلماته المحمومة ونشاطه المسعور هي الوشائج الأخيرة التي يستطيع بها أن يربط عالمه الممزق" ـ (ص117). لذا لم يجد سوى الكلمات عند انتحار الجندي شاغاي، ليلمم شتات نفسه ويهدأ مخاوفه وهواجسه. وكلماته المخاتلة تساعده في إخفاء حقيقته.
أما شوش ابنته، "الوردة في شجرة العائلة، وزهرة حكمتنا" ـ ص61)، كما يقول، فتعلم أنه عندما يجبر يوما ما، على الخروج من أعماقه السحيقة، خائفا، ومذعورا، لن يطلب العون والمساعدة إلا منها. وهذا ما حدث بالفعل، عندما أقدم الجندي شاغاي من وحدة جولاني، وكان تحت مسؤولية ابنر، في الحركة الكشفية، وكان يشارك في "عملية انتقامية في لبنان قتل صبيا كان يخفي إرهابيا في حجرته. بعدها بأسبوع عندما جاء في إجازة إلى نهلال" ـ (ص173)، قتل نفسه، فلجأ ابنر إلى شوش لتقدم له يد العون.
في هذه الفقرة، نرى الكاتب يقحم هذه القصة، ليبرر لنا قتل الفلسطينيين بطريقة عرضية، وكأنه يقول كقادة جيشه عندما يقتلون الكثير من المدنيين الفلسطينيين أنه في كل حرب يسقط ضحايا، أما الكيفية التي قتلوا بها فلا أحد يناقش ذلك، حتى في الكتابة الأدبية، فالكاتب يعطي تبريرا شنيعا لقتل صبي فلسطيني لاجئ في لبنان. إن شاغاي الجندي الإسرائيلي، متواجد في لبنان للقيام بعملية انتقامية ضد الإرهابيين، فقتله لصبي مبرر كون هذا الصبي يخفي في حجرته إرهابيا. والجندي صاحب القيم الأخلاقية الرفيعة، يطلق النار على نفسه، لارتكابه الخطأ. وأيضا الفلسطينيون هنا مدانون لأنهم يجعلون من الجنود الإسرائيليون قتلة.
تعود شوش للحديث عن يوري زوجها، وكيف ينظر لابنر كمثل أعلى، وتخاطب ابنر عبر المسجل: "يعتقد أن لديك نزعة إنسانية، تصّور! سامحه، فهو ليس مثلنا. لم يتعلم النظر إلى ما خلف المظاهر بعد". وتضيف، إن يوري لن يصدق أبدا، إذا أخبرته أن "رجلا مثلك يعرف الناس بالطريقة التي تعرفهم بها ويستطيع تصنيفهم بهذا القدر من الدقة، لا يملك القدرة على الحبّ أو التسامح" ـ (ص142).
ابنر لديه قدرة بارعة على إظهار قناعته في لفظ كلمات كتضامن و "جهد متفق عليه" بحيث لا يستطيع أحد أن يشكك في صدقه. وكل هذا الكذب التي تتحدث عنه شوش، أثر فيها وجعلها هي الأخرى مخادعة وكاذبة، وتجيد ذلك ببراعة لا تقل عن والدها. إنها تقول له: "لا، أنت لا تعرف من أكون. التشابه بيننا يمنع القرب" ـ (ص138).
الشعور بالتمزق والتشتت، وعدم القدرة على الإيمان بشيء يحطم حياتها، ويجعلها تبنيها على سلسلة من الأكاذيب، التي ستؤدي إلى فقدانها زوجها، واحترامها لذاتها. وهي تقول لنفسها: "تفتقدينه. استمري في الكلام وقوليها، كفي عن المراوغة" ـ (ص147).
وتتذكر يوم دخل ابنر إلى غرفتها، يرتجف من القسوة والحزن والألم، بعد حضوره جنازة شاغاي، وانفجرت الكلمات منه: "بأي حق أسممه بأفكار مثل "طهارة السلاح" أو "أخلاقية القتال"؟ بأي حق أزرع هذه المتفجرات التي سيتكفل الواقع بتفجيرها في جسده الغضّ؟ كم من الشباب زرعت بألغام النوايا الطيبة متجاهلا حقيقة العالم الذي أرسلهم نحوه؟ وكان قدرهم ملتصقا بهم مثل التصاق الإيحاء الذي يتلقاه المنوم مغناطيسيا" ـ (ص236).
شوش لم تتأثر بكلمات ابنر البليغة، وتعرف أنه أخذ يترنح منهارا، فوراء الصورة الجميلة الذي رسمها لنفسه، هناك عتمة وكراهية لكلّ شيء، حتى نفسه. ربما تكون نابعة من تأثيره على الناس أمثال شاغاي، ويوري الذي قد تكون كلمات ابنر الفارغة وراء ذهابه إلى جوني ليخوض حرباً مخيفة.
وتقول شوش مخادعة ابنر: إنك لست رجلا كالرجال العاديين، بل أصبحت رمزا للكثيرين، عليك مواصلة رسالتك كمعلم، والبحث عن إيجابيات جديدة غير تلك التي فشلت. و"كانت ابنتك الأنانية تعرف أن الخوف سيجعلها تقاتل حتى آخر قطرة من دمك، وسيمنعها مما يجب القيام به- تخليصك من الأكذوبة، سماعها من فمك، وتعليمك كي تضع اسمك على الأكذوبة" ـ (ص237).
ابنر من الجيل المؤسس، الذي يؤمن بمثاليات الحركة الصهيونية، ولكنه في الواقع يعيش في متناقضات، فالدولة الحلم تحيى في صراع مرير مع الفلسطينيين والعرب، والشباب يقتلون، ويزجّ بهم في أتون الحرب، بعد أن يتم تحميسهم وشحنهم فيما يسمى المثل العليا، ما يؤدي إلى تمزيقهم، وإرسالهم إلى حتفهم. وابنر بدأ يشعر بالخلل النفسي الذي يعاني منه، ويحسّ بأن ما يعلمه للشباب مجرد أكاذيب يجب أن تتوقف، إذ كيف لشعب كامل، "لشعب متنوّر، بكل المقاييس، تثقيف نفسه للقيام بعملية معقدة من هذا النوع والعيش في فراغ أخلاقي، وبعد شاغاي، كيف أواصل تثقيف الشباب على حب واحترام أخيهم الإنسان" ـ (ص340).
هذا الرثاء الذاتي من جانب الطرف الذي يملك القوة الكاسحة، والذي يشير إلى أنهم أجبروا على اتخاذ مواقف قبيحة وسيئة ، يظهر زائفا ومخادعا، فقولهم إن الحرب فرضت عليهم، ولم يكن لديهم خيار آخر غير خوضها، ما أثبت المؤرخون الإسرائيليون الجدد زيفه، وأنه كان يمكن اختيار خيار آخر غير الحرب.

تعليق عبر الفيس بوك