المد السياسي اليميني الشعبوي.. هل يتوقف؟

عبدالنبي العكري

شهد العامان الماضيان موجهة مدِّ سياسي يميني شعبوي في عدد من البلدان المهمة عالميا؛ مما كانت له انعكاسات سلبية على العالم أجمع، وبلداننا العربية ودول مجلس التعاون الخليجي بكل تأكيد.. حيث شكَّل فوز المرشح الشعبوي دونالد ترامب المفاجئ في سبتمبر 2015 بالرئاسة الأمريكية ضد السياسية المخضرمة هيلاري كلينتون علامة بارزة في ظاهرة فوز مرشحين شعبويين، وأحزاب يمينية متطرفة بانتخابات الرئاسة والبرلمان في عددٍ من البلدان الديمقراطية الغربية الراسخة.

تبنَّى دونالد ترامب في حملته الانتخابية شعار "لنعمل من أجل عودة أمريكا قوية"، وتحت هذا العنوان العريض خاطب الأمريكيين وخصوصا البيض بإعادة الاعتبار لهم، وإعطاء الأولوية لمصالح أمريكا أولا دون مراعاة لمصالح الآخرين والعولمة السائدة أو الأخذ بالاعتبار بما يُعرف بالقيم الأمريكية في الحرية وحقوق الإنسان والانفتاح وعدم التمييز والتسامح. وكلنا تابع سياسات ترامب سواء في أمريكا ذاتها أو في العالم؛ سواء في سياساتها الداخلية أو الخارجية تجاه الأصدقاء أو حتى الأعداء.

أتى ترامب إلى خِضم الجولة الانتخابية الرئاسية من خارج المؤسسة السياسية الأمريكية، فهو لم يتسنَّم أي منصب رسمي، ولم يكن قياديا في الحزب الجمهوري، ولم يُعرف عنه اهتمامه بالشأن العام، بل أتى من قطاع الأعمال، وبالتحديد العقاري والترفيهي، وهو بليونير، لكنه دغدغ عواطف عامة الأمريكيين، خصوصا البيض، ممنِّيا إياهم بالرفاه والعمل بديموجواجية وخطاب شعبوي تلقفه الناخبون الذين يعانون في مرحلة العولمة وتحول في تركيبة أمريكا السكانية والقيم التقليدية وتراجع، والبطالة، وتراجع مكانة أمريكا...وغيرها من المصاعب، ليدغدغ عواطفهم ببشارات مغرية وحلول تبسيطية، مُستغلا مثالب منافسته هيلاري كلنتون ونخبة واشنطن من السياسيين وحكومتهم البعيدة عن المواطن الأمريكي العادي ومصالحه وهمومه.

وبعد وصوله لسدة الرئاسة، تخلى ترامب عما كان يعتبر مُسلمات في السياسة الأمريكية من حيث أن الرئيس هو لكل الأمريكيين، ويسعى لتوافق الحزبين الجمهوري والديمقراطي، والتعبير عن مصالح مختلف تكوينات الشعب الأمريكي المتنوعة. وهذا يتجلى في تركيبة إدارته التي تخلو من الزنوج والهسبانيول والأوامر الرئاسية بخصوص الهجرة وإلغاء القيود على الطاقة الأحفورية وضوابط البيئة والإعفاءات الضريبية لأصحاب المداخيل الكبيرة، وإلغاء مكونات مهمة في الشأن الصحي، والتعامل مع ملايين المهاجرين غير الشرعيين...وغيرها. كما أنه لا يتصرف بمسؤولية كرئيس أكبر دولة في العالم، بل يتصرف بشخصانية مفرطة وانفعال وعدوانية، مُتجاهلا المؤسسات وتسلسل وآليات اتخاذ المواقف والقرارات الرسمية، واضعًا الأقارب والأصدقاء والممولين في مواقع رسمية وضمن الدائرة القريبة لصنع القرار.

وبالنسة لسياسته الخارجية تجاه الأصدقاء؛ سواء في القارة الأمريكية خصوصا -جيرانه كندا والمكسيك- وحلفاءه في حلف الأطلسي وفي المنطقة العربية وآسيا والدول الكبرى؛ مثل: الصين وروسيا والهند؛ فإنها تؤكد على مصلحة أمريكا الذاتية، ولو على حساب حلفائها وشركائها. لم تعد أمريكا من موقعها في قيادة العالم مستعدة لأن تتحمل تبعات قيادتها للعالم وتوفير الحماية الأمنية لأصدقائها وحلفائها ودفع ثمنها، بل إن على هؤلاء الشركاء أن يدفعوا ثمن هذه الحماية كما في الخليج، أو أن يسهموا بقسط أكبر من الكلفة كما في حلف الأطلسي، وإعطاء الأولوية لمشتريات السلاح الأمريكي، والإكراه في التبعية لسياساتها، وبالنسبة للتجارة فلم تعد أمريكا مستعدة لفتح أسواقها لصادرات الدول الشريكة في اتفاقات ثنائية أو جماعية تجارية، خصوصا منظمة التجارة العالمية، بل إنها انسحبت من بعضها، فيما أصيبت منظمة التجارة العالمية بالشلل، كما تبين من مؤتمرها العام مؤخرا في بوينس إيرس، في ظل تهديد أمريكا بالانسحاب منها، فيما تمثل عمودها الفقري. وهذا يتهدَّد شركائها التجاريين الأساسيين؛ مثل: كندا والمكسيك والاتحاد الأوروبي والصين واليابان وكوريا...وغيرها.

ترامب قرَّر أن تكون اسرائيل هي الاستثناء، وأن تكون الحليف الإستراتيجي الأول؛ وبالتالي تتم صياغة السياسة الأمريكية على هذا الأساس دون اعتبار لحلفائها وأصدقائها الآخرين؛ حيث قرر الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل دون اعتبار للعالمين العربي والإسلامي، بل ولا الشرعية الدولية، وأن إيران هي العدو والخطر الأول في الشرق الأوسط، ويسعى لتقويض اتفاقية البرنامج النووي الإيراني، دون اعتبار لشركائه في هذه الاتفاقية الدولية وما يترتب على ذلك من نتائج خطيرة.

وإذا كان فوز ترامب يُمثل التعبير عن تحول يميني وعنصري في أوساط الشعب الأمريكي، الذي كسر المألوف في إدارة السياسة في نظام ديمقراطي راسخ ومستقر، وأدخله في دوامة من التقلبات والشك في مدى رسوخه والاعتماد على مصداقية أمريكا وتعهداتها، فإن تحولات مشابهة وإن أقل درماتيكية تجري في عدد من البلدان الأوروبية، وإن بدرجة أقل. ففي ألمانيا، شهدت الانتخابات النيابية الأخيرة في سبتمبر 2017 تقدم اليمين ممثلا في حزب ألمانيا البديل، وأوصل لأول مرة نوَّابا إلى البوندستاج. وفي فرنسا، وصلت مرشحة الجبهة الوطنية اليمينية ماريان لوبوان، إلى نهائي التنافس على الرئاسة مع إيمانويل ماكرون ممثل التوجه الليبرالي. وفي بريطانيا، نجح حزب الاستقلال بزعامة فاراج في إقناع البريطانيين بالتصويت لخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي. وفي النمسا، فاز تحالف اليمين على تحالف الوسط في الانتخابات النيابية. كذلك الأمر في الدنمارك والمجر وبولندا، هناك بالطبع عوامل وأسباب خاصة بكل بلد، لكن هناك عوامل مشتركة؛ أهمها: مشكلة اللاجئين وسياسة الهجرة، لقد تسببت الحروب والاضطرابات والدول الفاشلة في الوطن العربي وغربي آسيا وإفريقيا في ظاهرة تدفق ملاييني لا سابق له من المهاجرين على أوروبا الغربية، بالرغم من المخاطر المحدقة وموت مئات الآلاف غرقا في مياه المتوسط، وإغلاق حدود بعض دول الممر.

ولعدة اعتبارات وعوامل، استقبلت بلدان أوروبا الغربية ملايين اللاجئين، خصوصا ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليونان ودول إسكندنافية، وبدرجة أقل باقي دول الاتحاد الأوروبي. وبقدر الفوائد بعيدة المدى لهؤلاء اللاجئين على الاقتصاد، والقوى العاملة الشابة للبلدان المسقبلة لللاجئين، فإنها على المدى القصير والمتوسط تشكل ضغطا على اقتصادياتها وميزانياتها وسوق العمل، وعلى الخدمات والمرافق العامة، وعلى الهُوية الوطنية، وتتسبب في توترات اجتماعية وثقافية بسبب تضارب سلوكي وقيمي ما بين اللاجئين ومواطني البلد. كما أن الانفتاح على الهجرة لسد النقص في العمالة، وتجديد شباب السكان ولاعتبارات إنسانية أيضا قد تسبَّب أيضا في ظواهر سلبية؛ ومنها البطالة النسبية بما في ذلك في أوساط المواطنين، وتفجر فورات العنف في الأحياء التي يغلب عليها المهاجرون، وفشل سياسات الاندماج، بما يترتب عليها من تناقضات وتوترات وآثار سلبية.

أما العامل المشترك الآخر، فهو مكانة الاعتبارات الحقوقية والإنسانية في السياسات الداخلية والخارجية لهذه الأنظمة الشعبوية اليمينية. وبغض النظر عن مدى إيمان الدول الغربية بحقوق الشعوب الأخرى وحقوق الإنسان -سواء في البلدان الأخرى أو حقوق اللاجئين والمهاجرين- فإن هناك توجها سلبيا في أكثر من بلد غربي وعلى أكثر من صعيد. وبالنسبة لإدارة ترامب فإن الأمر يتعدى ذلك؛ بحيث يشمل أيضا انتهاك حقوق فئات عرقية من الأمريكيين؛ مثل: الزنوج والفقراء والمسلمين، وكذلك حقوق النساء المكتسبة. ومن الواضح أن الاعتبارات الأخلاقية والحقوقية في السياسة الخارجية الأمريكية يتم تجاهلها، وعلى نطاق واسع. لم تعد أمريكا تشترط إبرام صفقات السلاح والدعم السياسي والمساعدات الاقتصادية وفتح أسواقها ضمن اتفاقيات التجارة الحرة على مراعاة شركائها لحقوق الإنسان أو الديمقراطية أو الحريات العامة، بل إنها تخلت عن مجموعات شجَّعتهم سابقا للتمرد على من تعتبرهم أنظمة استبدادية اختلفتْ معها لصالح تسويات نفعية. كما أن أمريكا المشهورة بكونها بلدَ الهجرة المفضل واللاجئين الإنسانيين، قد أغلقت العديد من الأبواب في وجههم، ولولا القضاء الأمريكي لأغلقت تماما.

وبالنسبة لأوروبا، فهناك إعادة نظر جذرية في التعامل مع اللاجئين والمهاجرين، وتقوم السياسة الحالية في البلدان الرئيسية المستقبلة للهجرة على وضع سقف للأعداد المقبولة من اللاجئين، والتوجه لتثبيتهم في البلدان القادمين أو العابرين منها في بلدان جنوب المتوسط وإفريقيا، وإعادة بعض القادمين من بلدان لا تعتبرها خطرة إلى بلدانهم الأصلية. وبالنسبة للمهاجرين، فقد وضعت المزيد من القيود، وحجبت العديد من الامتيازات المقدمة للمهاجرين، ووضع بعضها كوتا للمهاجرين المقبولين، وأضحت انتقائية في تحديد الكفاءات المطلوبة والمهن وبلدان المهاجرين. وهذه القيود والضوابط تبنتها ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا واليونان...وغيرها، فيما اتَّخذت باقي البلدان الأوروبية الأخرى إجراءات متشددة لمنع اللاجئين، وهي لا تشجع ولا تسمح بالمزيد من اللاجئين بالبقاء على أراضيها.

هناك انكسار نسبي في الموجة الشعبوية اليمينية في أوروبا؛ فبالنسبة لألمانيا فبعد وصول اليمين المتطرف إلى البوندستاج، والذي ترتب عليه أزمة في تشكيل حكومة ائتلافية تملك أغلبية برلمانية متينة منذ الانتخابات البرلمانية في سبتمبر 2017، إلا أنه وبعد مفاوضات عسيرة فقد جرى تشكيل حكومة بقاعدة عريضة تضم حزب المعارضة الرئيسي الديمقراطي الاجتماعي بزعامة شولتز إلى جانب الحزب الديمقراطي المسيحي الحاكم بزعامة ميركل، وأحزاب أخرى للتصدي لليمين المتطرف. وفي فرنسا، فإن الانتصار الكبير لإيمانويل ماكرون بالرئاسة، ثم فوز حزبه بأغلبية برلمانية مريحة، مع خسارة الجبهة الوطنية للانتخابات الرئاسية والبرلمانية معا، قد كبح جماح اليمين الفرنسي. وفي بريطانيا، أظهرتْ الانتخابات البرلمانية  في مايو 2017 تقدما كبيرا لحزب العمال على حساب حزب المحافظين وحزب الاستقلال المتطرف. لكن اليمين المتطرف والوسط فاز بالانتخابات البرلمانية في المجر وبولندا والنمسا خلال انتخابات 2017.

يُمكننا القول إنَّ استمرارية حكم ترامب للولايات المتحدة القوة الأعظم في العالم، وإحداثه لتغييرات عميقة في النظام الأمريكي، وانعكاسات ذلك على السياسة الأمريكية الخارجية، سيجعل بلدانا حليفة لأمريكا توائم سياساتها مع السياسة الأمريكية، إلا إذا تشكلت جبهة قوية داخل أمريكا لإفشال هذه السياسات، أو إذا أقيل ترامب دستوريا، وكذلك قيام تحالف دولي لمواجهة السياسة الأمريكية المتطرفة. كما أن نموذج ترامب الذي لم يُخف تأييده للقادة اليمينين الشعبويين اليمينيين مثل فاراج ولوبوان ونتنياهو، يشكل حافزا لآخرين لكي يحذوا حذوه، وتبادل الدعم والترويج، كما هو قائم بين نتانياهو وترامب.

... إنَّ حالة التشرذم والانهيار التي يعيشها العرب تُغري ترامب للتعامل معهم منفردين، مغريا البعض وضاغطا على البعض الآخر ومبتزا الجميع وممليا شروطه على الجميع، ما دام الجميع يفتقدون للوحدة والدفاع عن مصالحهم القومية والوطنية مجتمعين. وهذا ينطبق أيضا على الكتل الإقليمية الأخرى كالاتحاد الإفريقي وآسيان.