أدب الحرب وسمات التجديد الشعري

"السابعة حـ(ــر) بًا بتوقيت دمشق" (3)

د. السيد العيسوي عبد العزيز – ناقد وأكاديميّ مصريّ
مدير النشاط الثقافي بمتحف أمير الشعراء أحمد شوقي

 

في الحلقة السابقة/الثانية رأينا كيف نجح الشاعر السوري عمر هزاع في ديوانه "السابعة حـ(ــر) بًا بتوقيت دمشق" في توليد إيقاعات ذات نفس عصري وزخم نفسي خاص، فقد تميزت نصوصه بإيقاعات عصرية، فيها من الرشاقة والانطلاق والسخرية والمرارة الكثير مما يبطن أعماق التجربة، ويجعلها ملتهبة عبر الكلمات.
ومن تجسيد العالم النفسي الخاص وما يحيط به للشاعر، في ظل أجواء الحرب والغربة والمنفى، نذهب إلى سمة قريبة لاحظناها، تدل على براعة الشاعر، ووعيه بدوره الفني، ألا وهي مسألة تجسيد الهواجس والمشاعر في صورة كائنات حية تعيش وتتنفس وتدخل في حوار درامي أو تفاعل درامي مع الشاعر، وهي تقنية عالية التأثير، وكأنها نتجت عن انصهار الشاعر في تجربته، وعدم قدرة التعبير التقليدي عن حمل شحنة المشاعر، أو أساليب الشعرية المعتادة، ولنتأمل (الحزن) كيف حوله الشاعر إلى كائن يدخل في علاقة درامية معقدة مع الشاعر في أبيات قليلة تشبه الومضة:
قُلتُ:
يا رَبِّ إِلَيكَ المُشتَكى
كُلَّما جاوَرَنِي الحُزنُ
اتَّكا
كُلَّما حاوَرَنِي
أَطرَقَ
- مِن دَمعِي -
بَكى
كانَ يَستَمهِلُ
كَي يَفتِكَ بِي
ثُمَّ...
- وَقَد أَدرَكَ ما بِيْ -
استَعجَلَكا.
فنحن أمام حزن (يتكئ) قبالة الشاعر ليجالسه أو يتأمله أو يستمتع بعذابه, ومن ثم تقوم الاستعارة هنا بدور جديد غير تقليدي، إنها تصوير امتد من بداية النص حتى آخره، ولم تقتصر على أداء لمحة بلاغية يراعى فيها طرافة التشبيه بين طرفين، أو الجمع بين المتباعدات بمهارة واصطياد بارع، ولكن الاستعارة امتدت وشكلت صلب الرؤية الشعرية، ونظمت خيط المفردات، وصارت بطلاً هنا، وكأن الشاعر –بهذه التقنية- يمثل –بشكل عصري- طول هذا الحزن وامتداده متجسدًا في صورة كائن أسطوري ابتدعه الشاعر ونحته بخياله حتى بدا واقعًا يتصارع ويدخل معه في علاقة جدلية. وهذه إحدى علامات البنية الشعرية الفارقة بين الصورة في الكتابات التقليدية أو القديمة عنها في التناول الحديث، كما أنها حولت النص إلى بنية وحققت الترابط والفاعلية.
ويبدو الحزن هنا في صورة وحش أو ذئب، أو هو كائن بروح ذئب، وهي صورة طالما ألمح بذورها في إبداع الشاعر المتنوع، وليس بالضرورة هنا، ففكرة الذئاب تحوم في فضاءاته النصية، وتمثل قطبية مركزية في الرؤية الشعرية للوجود. تبدو الصورة في البداية خادعة:
كُلَّما حاوَرَنِي
أَطرَقَ
- مِن دَمعِي -
بَكى
ثم تبزغ الحقيقة:
كانَ يَستَمهِلُ
كَي يَفتِكَ بِي
ثم تأتي الانحرافة الحادة:
ثُمَّ...
- وَقَد أَدرَكَ ما بِيْ -
استَعجَلَكا.
لقد دخل الحزن في دراما عميقة مع الشاعر لمس فيها الأعماق، وتحول من كائن مفترس إلى كائن رقيق يرق للشاعر ويستعجل الله أن يرحمه ولو بمفارقة الحياة.
وهكذا يشحن الشاعر نصه بالدراما، كي يفجر فيه أقصى الطاقات الشعورية، عبر حساسية معجمية فائقة، وقدرة على الحركة الروائية داخل هذه المقطوعة الصغيرة، فهي دراما الموت والحياة.
الحزن هنا يعيش ويتنفس ويتكئ ويراقب ويفتك وتدمع عينه ويدعو... ماذا يعني هذا؟ يعني أن الشاعر يغرق في الهموم ويستمر بالتفكير فيها حتى لتتحول إلى كائن حي متجسد. وهي تقنية لافتة، وفَّرت جوًّا من الحيوية وزخمًا شعوريًّا، وحققت شيئًا مما كان يدعو إليه إليوت في المعادل الموضوعي، مع أنه خدعنا بالنفس التراثي في البداية، فالمطلع يحيل بشكل أو بآخر إلى موشحة ابن زهر الأندلسي:
أيـّها الساقي إليك المُشتكى      ...       قد دعوناك وإن لم تسـْمع ِ
ولكنه استطاع أن يحول النفس التراثي إلى نفس عصري يعبق بعطر شاعريته... وهكذا تخلص الشاعر من الغنائي وأعطاه كثافة التجربة الإنسانية، وبشكل خاطف، وكأن الشاعر يلفظ أنفاسه الأخيرة، أو كأنه يستشرف الموت، ولا وقت لديه لامتداد إيقاعي طويل، يتناسب وحالة الرخاء النفسي. لذا جاء إيقاع المقطوعة سريعًا مكثفًا مكتنزًا، وكأنه يعبر عن سكون هذا الذئب خارجيًا، ثم حركتة الداخلية مع البكاء والتعاطف، ناهيك عن إيقاع الشاعر نفسه، إيقاع الرؤية الذي لا يرى كبير أمل في الحياة.

تعليق عبر الفيس بوك