مناجم الذهب (الحلقة السادسة)

 

عائشة البلوشية

في نظر والده لن يكون الخيار سهلاً على طفل صغير تذوق معنى مُفردات الحياة العصرية، ورغم حب والده له وخوفه عليه، إلا أنَّه لم يشأ أن يحرمه مما حوله من تطور وتحضر، فلا مدارس نظامية في عُمان، ولا مستشفيات، لذلك توقع أن يقرر ابنه البقاء مع أترابه، لكنه قرر أن يترك القرار بيد ولده وشعور بداخله يتوسل إلى الله أن يختار الرحيل والعودة إلى عمان، فهو وبالرغم من صلابته وقسوته الظاهرية إلا أن ذلك كله يخفي أباً يخشى على طفله من طموحه وفضوله للتجارب، وهنا كانت المُفاجأة أنه أعلن على الفور رغبته في العودة إلى العراقي، كان الأب لا يعلم مقدار ذلك المزيج العجيب من السعادة الغامرة والخوف الشديد الذي يكتنف ابنه عندما خيره بين البقاء أو الرحيل، فكم كان يخشى أن يقرر والده تركه والعودة دونه إلى بلاده التي اشتاق لكل ذرة فيها، ولكن لطف الله به كان عظيماً، فتعاظمت طبقات السعادة في قلبه يوماً بعد يوم، حتى حانت لحظة الرحيل وتوديع الأقران والخال العزيز، ولكن مخزون الذكريات الجميلة والجديدة كان "زهابا" يحمله معه إلى العراقي يقتات منه كلما عنَّت على رأسه فكرة اختراع جديد.

 

بعد أن عبروا البحر للمرة الثانية وصولاً لقطر هذه المرة ومنها إلى دبي، كان لطفلنا الذي تجاوز السبعة أعوام بقليل ناقته الخاصة هذه المرة، حيث إن والدته تحمل رضيعها معها على راحلتها، وكم كانت ثواني رحلة العودة طويلة زاحفة ببطء شديد على نفسه، لتحط بهم الرحال في وادي الفتح بمحافظة الظاهرة حاليًا، فنزل الجميع للراحة قرب ذلك الوادي الرقراق، وهو ينظر إلى ذلك الماء العذب المنساب بهدوء، جلس يرقب والدته وهي تقوم بغسل أخيه الصغير الذي كان لا يتوقف عن البكاء بسبب الحر الشديد، فجاءت بعض النسوة ليملأن جحالهن أو صفاريهن بالماء (جمع صفرية وهي قدور مصنوعة من الصفر "النحاس" تحملها النسوة على رؤوسهن، حيث يوسدنها على كتاة وهي حلقة مصنوعة من ليف النخيل وخوصه، وبذلك يتحقق التوازن المطلوب دون إيذاء لقمة الرأس) وسلمن عليها، وبعد أن كان أخاه قد هدأ بسبب الماء وتلطيف جسده الصغير من حرارة الطقس، سمعوا صراخه يمزق سكون الوادي بسبب لسعة مُباغته من دبي "السبن"، وهو نوع مؤلم جدا من أنواع الدبابير، فخاف على أخيه الذي لا حول له ولا قوة سوى التعبير عن ألمه الشديد بحنجرته الصغيرة، وظل يفكر بقلق هل سيؤثر ذلك عليه، وهنا قرر والده التحرك من ذلك المكان لتواصل القافلة رحلتها من جديد بغض النظر عن بكاء أخيه وأنينه ألمًا.

"مشارب" تلك القرية الوادعة المُستلقية بهدوء بين كثبان الرمال، وذلك الفلج الذي يجري بين ضواحيها كشريان يمدها بالحياة، وتلك الثقاب الممتدة بامتداد مجرى الفلج تحت كثبان الرمال وكأنها صمامات ذلك الشريان الرائع، كانت محطتهم التي وصلوها وقت الضحى، وهنا رأى جده راشد الذي اشتاق لرؤيته جاء بنفسه لاستقبالهم هناك، فنزل من راحلته ليركض بكل ما أوتي من تحنان ﻷنسام الظاهرة، وكأنه نهض من سبات استمر عامين من الزمان أخذ يعدو في سواقي الفلج والضواحي فاتحاً مسام روحه لتتشرب رائحة النخيل والزيتون والليمون، فقد اقترب من عبري واقتربت روحه من موعد الارتواء من عطش الحنين المتعمق بقدر ما غاصت ثواني الساعة في الذكريات للعراقي.

ما أجمل العودة إلى أحضان العراقي، هذه القرية الشامخة بنخلها السامقات باخضرار مترف، المزدانة بسخاء تنوع حمضياتها الكثيرة، ومنها ما لا يوجد في غيرها من البلاد كشجرة البالنج ذات الثمار المعسولة، بقشرتها الجعداء وفصوصها الشبيهة بالسفرجل (الليمون الحلو)، ولكنها تقل مرارة عنها، لتصبح الأفضل لدى الأطفال، وما أحلى العودة إلى ذلك البيت الطيني الدافئ، ومع ابتعاده لمدة تجاوزت العامين بقليل تضخم شوقه أضعافاً مضاعفة، كما أن معطيات التطور التي ذاق حلاوتها ورآها في تلك البلاد العديدة جعلت من أحلامه أهدافًا يريد تحقيقها في تلك القرية الصغيرة، كيف؟ لا يدري، ولكنه حلم في صيغة عهد روحاني بأنه سيبذل كل ما يستطيع لتحقيقه.

 

حتى لا ينسى ما تعلمه بين جدران المدرسة في الدمام بالمملكة العربية السعودية، وإن كان بسيطاً فقد أرسله والده إلى مدرسة المعلم سعيد العبري رحمه الله للقرآن الكريم ليستكمل حفظ وختم القرآن الكريم، كبر أخاه وبدأ يشركه معه في اللعب والاستكشاف، كما أصبح رفيقاً لوالده كلما تواجد في العراقي، حيث كان يصطحبه لسوق عبري للتسوق، وذلك حتى يتعلم عمليات البيع والشراء وتبادل البضائع، كان ينظر إلى حصن عبري الذي كان مقراً للوالي حينها بجلال، ولكنه كان يكن حباً خاصاً إلى قرية السليف، وكان يشعر بسعادة كبيرة عندما يأخذه والده لزيارة عمه سعيد بن بدر المنذري، ففيها كانت له العديد من الذكريات الجميلة، فقد صام أول رمضان في حياته في السليف، وحقيقة أن هذه القرية تتمتع بجمال خاص، فعندما تهطل الأمطار الغزيرة ويجري الوادي تحت ذلك الجبل، حيث تتربع على قمته تلك القلعة المهيبة كتاج مرصع بالدر، التي قام قيد الأرض الإمام سيف بن سلطان ببنائها، وعلى الضفة الأخرى تسمق النخيل وأشجار الليمون والأراك، تشكل تلك الترنيمة صورة جمالية أخاذة، وقد رسمها العديد من الفنانين وأشهرهم على الإطلاق الفنان "ديفيد ويليز".

(يتبع)..

___________________________

 

 

توقيع: "كلمّا ضمّت عيوني منك طيف.. يا بعد كل الطيوف

قلت ما مثلك على الدنيا وصيف.. لا حشا مالك وصوف

لا سحاب ولا مطر.. لا نسيم ولا زهر

لا طيور ولا زهر.. ولا مع باقي البشر"،،

الأمير خالد الفيصل.