جدلية العلاقة بين المثقف والسلطة (2)

عبد الجواد خفاجي – ناقد وروائي مصري


في المقالة السابقة تطرقنا إلى أشكال ثلاثة من العلاقات بين المثقف والسلطة (التكاملية والجدلية والتصادمية) ومع اقتناعي بأن ما طرحته عن أنواع العلاقات صحيح لمطابقته واقع الحال على الأقل، والتاريخ ـ في حقيقته، لا كما وصفه المؤرخون ـ جزء من الواقع، وليس لنا أن نجافي الواقع بأي حجة كانت إذا كنا نريد فهماً يؤهلنا لاجتياز علاتنا وإعاقتنا نحو تفعيل حقيقي لدورنا كمثقفين.
من جهة أخرى، وفي إشكالية الدور بتعدداته التي تُعْزى لتعدد أنماط المثقفين، وحيث تتحدد بالتالي علاقة المثقف بالمؤسسة بتعدداتها وأنماطها أيضاً، وفي محيط هذه الإشكالية لا يمكنني تصور تلك العلاقة بغير اتصافها بالجدلية، وهو تصور شامل لمطلق العلاقة زمانياً ومكانياً وحضارياً وعلى مدى التاريخ كله، أو بالمعنى هو تصور يستوعب عمومية هذه العلاقة وتاريخيتها منذ ظهور المصطلح على الأقل، ومن ثم فهي ليست "علاقة" بالإفراد، وإنما نعنى بها "علاقات" بين أنماط المثقفين وأنماط المؤسسات عبر تاريخ المصطلح.
ولي أن أقدم هذا التصور على نحو بياني تصويري يضع المؤسسات كبيارق منتصبة في مراكز لدوائر متعددة بعدد المؤسسات، ومتقاطعة بشكل يؤكد اتحادها، بحيث يتقاطع محيط كل دائرة مع محيطات لدوائر مجاورة تمثل كل دائرة مؤسسة من المؤسسات، والملمح الأول في هذا المشهد هو البيرق الأعلى في مركز الدائرة الوسطى الأكبر المملوكة دائما للمؤسسة السياسية الحاكمة، أما الملمح الثاني هو الحركية والتغير الدائم، اتساعاً بزيادة عدد المؤسسات أو نقصها، وموضعاً قربا أو بعداً من دائرة المؤسسة الحاكمة.
أين المثقف في هذا التصور البياني؟ .. إنه من يشغل فراغ كل دائرة من هذه الدوائر مختلطاً مع الجماهير. هو مع الجماهير في مواضع عدة حول مراكز الدوائر، منتشراً ومتحركا حول المؤسسة أو مركز الدائرة التي يتواجد فيها. ومن منطلق التغير وعدم الثبات وحسب النمط الذي ينتمى إليه المثقف تتحدد حركته وتوجهه، كما تتحدد وضعيته بحسب الفرادة والقدرة على اجتذاب الجماهير أو بحسب النوعية التي تتوقف على موهبته.
ومن ثم فهو تارة على يمين المؤسسة وتارة على يسارها، وتارة هو خلفها أو أمامها، وتارة هو بعيد عنها على مسافة شاسعة منها، وتارة هو على مسافة أقرب وتارة يسير بمعيتها ملتصقا بها. غير أن حركة المثقف ووضعيته لا تتوقف على الدائرة الواحدة التي يمكن أن نرصده فيها، لأن الدوائر متشابكة بحيث تسمح للمثقف بالدخول إلي دوائر أخرى، وقد يصل في النهاية إلى الدائرة الأهم الوسطى وهي دائرة المؤسسة الحاكمة ليكتسب أهمية قصوى، وليتحدد موضعه منها بنفس الكيفية مسافة وحركة وتوجهاً واتجاهاً .
إن التصور البياني السابق بما اتسم به من تغير وتعدد وحركة وقرب وبعد واتجاه يصور وضعية المثقف بالنسبة إلى المؤسسات، في علاقة لا يمكن أن توصف إلا بكونها جدلية، وهو وصفُ يظل مطرداً على العلاقة في كل الأزمنة والأمكنة ومن ثم فهو تصور لتاريخية تلك العلاقة منذ ظهور مصطلح "مثقف" على الأقل.
ولقد أكد باحثون في التاريخ جدلية هذه العلاقة من منظورها التاريخي، وهي ما زالت منذ نشوء المفاهيم في حالة مد وجزر؛ فالمثقف يقتضي مفهومه أن يكون مسار تنوير يسلكه المتأثرون به، لإعلاء قيم الإنسانية والاعتدال بعيدا عن الوحشية والتطرف، وهذه هي الثقافة الحقة.
يمكنني أن أجادل ـ وعلى نحو آخر ـ في اتجاه آخر يتعلق بالنقد، والتفكير الناقد؛ فكثيراً ما يمثل الوعي النقدي والقدرة على ممارسته لوناً آخر يرتبط بمهام المثقف، ولكن أي نقد يمكن أن تقدمه الرطانة؟ .. ولا أراني بهكذا سؤال إلا راصداً حالة من حالات المثقف العربي الذي يبدو محوراً أصيلا في هذا البحث، والذي ينأي برطانته بعيداً عن وعي الجماهير/ مجال عمله، في الوقت الذي تحرص فيه المؤسسة والجماهير على نعته بالشيطان، حتى في أكثر حالاته تواطؤا مع المؤسسة ومع الجماهير، هو شيطان يجوز حبسه في قمقم، وتلك إشكالية أخرى ستنتهي عندها مسيرة هذا البحث، لا لأننا نؤثر الصمت في نهاية التجوال عن الدور الحقيقي للمثقف، وعن علاقاته المفترضة بمؤسسات مجتمعه، وعن توصيف تلك العلاقات، بل على العكس من ذلك، فحديثنا يجب أن يستمر، ولكن في اتجاه آخر، فكثيرا ما يبدو الواقع صامتاً رغم كثرة الضجيج، وهنالك يجب أن ينتهي حديثنا في الوعي، إلى حديث آخر يتساءل عن الوعي. وأراني بذلك قد واجهت موضوع البحث بانتقاد عنيف .. نعم، ذلك صحيح؛ والصحيح أيضاً أن الحديث الواجب هو: كيف نعيد مأسسة مجتمعاتنا، بدلا من البحث في افتراض جدلي لا يستند إلى دليل من الواقع، فالواقع العربي بكل تشكلاته المأساوية يُذكرنا بالظروف الأولى التي كانت وراء نشأة المؤسسة في المجتمعات القديمة.. هل نحن حقيقة بلا مؤسسات، أم أننا بلا مؤسسات حقيقية؟ .. هذا هو السؤال الذي يحصر تفكيرنا بين مزدوجتين تؤكدان الحاجة إلى إعادة مأسسة مجتمعاتنا.
هو عمل ليس مستحيلا ولا متخيلا، بل ممكناً، لقد أعادت ثورة يوليو 1952 في مصر مأسسة المجتمع من جديد، وأعلت كثيرا من قيم القومية والوطنية وحق الجماهير واليد العاملة والطبقات الكادحة، وسعت إلى تحقيق الرفاهية ومحاربة العدو الخارجي وتوفير الأمن والحماية للشعب، وربما أن إخفاقات المؤسسات في تلك الحقبة سياسيا وعسكرياً هو ما أدى إلى الانتكاسة العسكرية وما تلاها من نتائج، ولعل من الإخفاق أيضاً ما ظهر من إقصاء المثقف الذي كان ـ من قبل ـ مساهماً في إعادة المأسسة.
 ربما أننا في مرحلة يجب أن نعترف إزاءها أن حياة الإنسان البدائي في عصوره الأولى لم تكن مأساوية مثل حياتنا، بل كانت هانئة، وقد صمت الإنسان البدائي داخل كوخه يعيد التفكير فيما طرأ عليه من ضرورة مأسسة حياته، وربما أنني قصدت المثقف في ذلك العصر البعيد.. تُرى فيما يفكر المثقف العربي في راهنه وقد أضحى الواقع العربي بكل مراسيمه السياسية والاجتماعية التي يزعم مؤسسيتها يُذكِّر بمراسيم دفن الموتى (المثقفين)؟!.
الأولى إذن أن نتساءل عن الحياة .. أو بالمعنى: نتساءل عن الوعي المؤهِّل للحياة، وهو نفسه الوعي المؤهِّل لإعادة مأسسة المجتمع على أسس إنسانية حقيقية من جديد.
أحياناً يزعم المثقف العربي وهو يشير برطانته إلى رطانته، أنه فوق الموت. نعم .. يمكنه أن يزعم ذلك، فالنصوص ستبقى كشاهدة قبره، تشير إلى عدمية دوره الحقيقي، حيَّا كان أو ميتاً، وقد أضحى من الضروري عندي أن أدعوه إلى توصيف نفسه كما ينبغى، فمن العار أن يكون عاجزاً عن توصيف نفسه ودوره، رغم أنه كثيراً ما يعلو بطائرته الوهمية ـ غالباً هي ورقية ـ فوق عربة الواقع الخربة، والتي هي ـ أعني العربة ـ في أمس الحاجة إليه؛ ليدفعها من الخلف، ولو لمسافة قصيرة، فالمهم عندي أن يبدأ فعلا حقيقياً يربطه بمهام المثقف ودوره.. لنقل أنه ـ على أحسن احتمال ـ يمارس الآن حداثته المزعومة، أو أنه مسافر في ما بعد الحداثة، بّيْد أن اليقين عندي أنه لم يصل بعد إلى درجة المثقف أو وضعيته المفترضة.
أحياناً هو مؤهل لحالة اغترابية معقدة .. قد يكون الشعور بالغربة في أحيانٍ كثيرة حالة مرضيَّة عصابية، لا علاقة لها بالإبداع أو الثقافة. أحياناً يفتقد الإبداعُ نفسه التعريفَ الواجب لامتلاك أرضية مفاهيمية ننطلق منها. قد يُقال في تعريف الإبداع ـ حسب القاموس ـ: هو الإتيان بالجديد على غير مثال سابق.. حسناً ، هل تأملنا المرضى النفسيين وهم يأتون بسلوكيات جديدة على غير مثال سابق؟.. إنها على أية حالة تشبه ـ إلى حد كبير ـ سلوكيات بعض الإعلاميين العرب، وهم شرائح ونماذج مفترضة للمثقف العربي، ومع ذلك لا نُصنَّف المرضى النفسيين الذين يأتون بسلوكيات جديدة كمثقفين، في الوقت الذي نُصنَّف فيه هؤلاء الإعلاميين ونضعهم في خانة المثقف أو خانة النخبة !!.. قد يكون الجديد بلا قيمة في بعض الأحيان، ومن هنا يجب أن نكون حذرين ونحن نضع اللاقيمة موضع القيمة، ونكتب عليها "مثقف".
أحياناَ كثيرة يخامرني الشك في أن خانة المثقف العربي ليست إلا مستشفاً نفسياً واسعاً يمكنه أن يُنظِّم تشنجات العصابيين، أو يضبطها وفق إيقاع المؤسسة المتشجنة بدرجة أعنف، ومن ثم فنحن أمام إيقاع جنائزي على ما يبدو، لأن المثقف ـ عربياً ـ لا يحيا بل يموت .. ليس عندي مقياس لرصد الأنفاس لأفرِّق بين الموتى والأحياء، ولكن المقياس عندي هو الإجابة عن السؤال الباحث عن دور المثقف، وأثره، فالبعرة تدل على البعير والخطوة تدل على المسير. ليس عيباً أن نسأل، وليس عيباً أن نكون ثوريين خطرين على النحو الذي أطمح معه إلى إعادة مأسسة المجتمع من جديد .. ليس عيباً ، لكن العيب أن يبدأ الطموح من جبانة الموتى .. العمل الواجب إذن هو البحث ـ أولاً ـ عن ممكنات لضبط مفهوم (المثقف) حتى نكون على وعي بما نقول، لا ، بل لنكون على وعي بمدى ما نملكه من ممكنات .. ولعل الممكن الوحيد الآن ـ في رأيي ـ هو إعادة الجدل حول مفهوم المثقف من جديد، لا لأن المصطلح يسير بغير مفهوم، ولكن لأننا لا نمتلك حتى الآن مفهوماً عربياً بعيداً عن اجترار المفاهيم الغربية الكثيرة المنسوبة إلى سياقات حضارية مغايرة، أو ربما لأننا نمتلك مفهوماً غير معلن، يربط بين المصطلح ومستشفى العصابيين حسب احتمال أول، وحسب احتمال ثانٍ ثمة مفهوم ـ مكتوب بالحبر السِّريِّ لغير سبب واضح ـ يربط بين الواقع العربي ومقبرة واسعة يسكنها يحيا (المثقف) بغير قوة (ذهنية) مؤهِّلةٍ لأخذ الكتاب (المعرفة)!!. أما ما هو معلن ـ بغير سرية أو غضاضة ـ هو المفهوم الثالث الذي يربط بين المثقف وحظيرة واسعة تُنشئها المؤسسة الثقافية وفق مشيئة المؤسسة السلطوية الحاكمة، مدعومة بقيم السوق ورغبة الرأسماليين العرب. نعم.. حظيرة تعج بالسِّلع المشتراة، التي تؤكد قيام المجاز حين نشير إليها بقولنا "هؤلاء مثقفون".

تعليق عبر الفيس بوك