عُمان.. الحضارة والتاريخ

 

حاتم الطائي

هُوية الإنسان هي حقيقتُه، وارتباطُه بأرضِه ومجدِه وإرثِه، ولا أعنِي هنا مُجرَّد الإرث التاريخي فحسب، وإنّما الإرثُ الحضاريُّ التليد على وجه الخصوص؛ إذ الفارق كبيرٌ بين "التاريخ" كرَاوٍ لقصة حياة الإنسان على الأرض، و"الحضارة" كشاهدٍ على إنجازات هذا الإنسان على الأرض نفسها. لذا، فعندما نقول إنّ العُمانيين أهلُ حضارةٍ، فإننا نعني دورًا أكبر وأوسع من الجغرافيا والتاريخ، كوننا نحمل رسالةً إنسانية تخترق مفهوم الحدودَ، وتتجاوز اليابس والبحار، بسماتٍ مُميِّزة، وقيم نبيلة، تحفظها الألواح والمخطوطات المدَّوَنة في قلب التاريخ البشري.

مَجان ومزون، واليوم عُمان.. يكفي هذا التنوُّع في الأسماء للبرهنة على أنَّ هذا الإقليم المحدِّد -جُغرافيًّا- لموقع السَّلطنة، دليل واضح على تفرُّدٍ حضاري مُنفصِل، له السيادة والاستقلال.. وبلا شك فالمعطيات الأثرية المكتشَفة تُبرز حجم هذا الدور العظيم، الذي أسهمتْ به عُمان فيما قبل عصر التدوين والتاريخ، بنشاطاتٍ حضاريةٍ فاعلة في منطقة الشرق الأدنى خاصة، والعالم القديم بشكل أعم، ولا تزال العديدُ من المواقع التي تُفصح عنها الاكتشافات الأثرية المتواصِلَة، سواءً في سلوت ورأس الحد ورأس الجنز... وغيرها، تُدهش العالم بتفاصيل وأسرار هذا الماضي العريق.

ومع إشراقات فَجر الهِداية، كان لعُمان دَورُها الحضاري في نشر مظلة الإسلام على العالم أجمع.. ويكفي أنْ اختصَّها النبيُّ الكريم برسالة مشرَّفة -نعُدها "رسالة السماء"- ضِمْن ما بَعَث به نبي الإنسانية في ذلك الزمان إلى مُلوك الأرض -مقوقس مصر، ونجاشي الحبشة، وهرقل الروم، وكسرى فارس، وغساسنة اليمن- واستقباله عليه الصلاة والسلام لوفودٍ منها.. هذا فضلا عن الدور الذي لعبه العُمانيون بشمائلهم المستمدَّة من روح هذا الدين الحنيف لنشر تعاليمه في مختلف رُبوع العالم، خاصة دُول آسيا؛ حيث كانوا أهل تجارة وسُفراء دينٍ بسَماحةِ أخلاقهم، ولِين طباعهم، وأمانتهم وصدق تعاملاتهم، الأمر الذي فرض وجودهم، وأسهم في اعتناق الآخرين للإسلام.

كما لا يَزَال التاريخُ يذكرُ بطولات أجدادِنا الذي سطَّروا ملاحِم بطولية في دَحْر الاحتلالِ البرتغاليِّ وتحديدًا في عهد دولة اليعاربة، خلف الإمام ناصر بن مرشد، ومن بعده الإمام سلطان بن سيف، وسيف بن سلطان، الذين كسروا شوكة البرتغاليين وأَنْهَوا سيادتهم، وقضُوا على مراكزهم الإستراتيجية ليس على السواحل العُمانية وحدها، بل شنُّوا ضدهم هجمات موسَّعة في بومباي، وديو، وباسين، وامتدتْ المعارك لتشمل غرب المحيط الهندي؛ وخاض الطرفان صراعاً طويلاً للسيطرة على شرقي إفريقيا. ولقد توسَّعت الإمبراطورية العُمانية آنذاك لتضم إلى أراضيها مُدن الساحل الشرقي لإفريقيا، الممتد من ممباسا إلى كيلا وزنجبار وبيمبا وباتا. وفي عهد الإمام أحمد بن سعيد، كان الأسطول العُماني يُقاتل بضراوة لكسر حصار البصرة، وأذكر هُنا ما سُجَّل لأجدادنا في هذا الصدد من بسالة وإقدام على متن "الطراد الرحماني" الذي شق السَّلاسل ‏الحديدية التي وَضَعها جيش كريم خان على شطِّ العرب. ومن قبلُ، استنجاد الزهراء السقطرية في القرن الثالث الهجري، بالإمام الصلت بن مالك الخروصي، ضد نصارى ذاك الزمان، أيام كان النفوذ العُماني مبسوطاً على أرض المهرة وحضرموت وسقطرى.. وفي ذلك قصيدة شهيرة للزهراء استهلَّتها قائلة:

قل للإمام الذي ترجى فضائله..

ابن الكرام وابن السادة النجب

حتى قالت:

يا للرجال أغيثوا كل مسلمةٍ..

ولو حبوتم على الأذقانٍ والرُكبِ.

ومَع بداية القرن التاسع عشر، بدأ العُمانيون الانتشار في عُمق القارة الإفريقية، مَدْعومين بخبرات واسعة، وحُكم قوي على السَّواحل، وازدهار تجارة بين شرق إفريقيا والعالم؛ فوصلوا منطقة البحيرات العظمي، برحلات للتجارة والاستقرار؛ وبمصاهرة وانسجام مع السُّكان الأصليين.. إلى أنْ تكلَّل كل ذلك اليوم برعايةٍ واهتمامٍ ساميين من لدن المقام السامي لمولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- بالحفاظ على امتدادِنا التاريخي، وصَوْن بنائنا الحضاري الذيّ شيده الآباء والأجداد، لتواصل عُمان مسيرتها على دَرْب الحضارة الضارب في أعماق الزمن.. وأقتبس هُنا نُطقًا ساميًا لجلالته من خطابه التاريخي الأول، حين قال -أيَّده الله: "كان وطننا في الماضي ذا شهرة وقوة، وإن عملنا باتحاد وتعاون، فسنعيد ماضينا مرة أخرى، وسيكون لنا المحل المرموق في العالم العربي"، وقد كان ترجمة ذلك جهود حكومية مقدَّرة، للحفاظ على تفاصيل تاريخنا العريق، ورمز هُويتنا العُمانية، على امتداد سنوات نهضتنا المباركة.

وغاية الأمر، أو بيت القصيد كما يُقال، أنَّني اليوم أكاد أجزم أنّ ما تحمله ذاكرة تاريخنا الخصبة بكل هذه المآثر الخالدة، يكاد يغيب بعضها عن جيل واسعٍ من شبابنا وفتياتنا، في وقتٍ نتحدثُ فيه عن نِصْف حاضرنا وكل مُستقبلنا؛ مما يفرض علينا -مؤسسات وأفرادا يُمثلون جيلَ الآباء- حمايتهم وتحصينهم، ولا أعني هنا التحصين بمدلوله اللفظي القائم على المنع والكف، وإنّما تغذية المناعة الوطنية بدواخلهم عبر المزيد من الكتابات والدراسات التاريخية التي تسبر أغوار هذا التاريخ القديم الباعث على الفخر والاعتزاز، وتربيتهم وإعدادهم وتوجيه أفكارهم ليكونوا "أصحاب رسالة"؛ يبنون مستقبل الوطن بمُقوِّمات اليوم، مع الاحتفاظ بروح الأصالة والثبات على المبدأ المستمد من سماحة ديننا وعراقة تاريخنا الحضاري.

لقد حان الوقت لأن يُشارك أبناؤنا الشباب في الملحمة الحضارية العُمانية الخالدة، ليس فقط بتولي المهام والمسؤوليات مُوظَّفين وعاملين، وإنما كأوعيةٍ وطنيةٍ تحفظُ على هذا الوطن إرثَه وتاريخَه ومعالم حضارته، وعلينا جميعًا أن نسلمِّهم تلك الأمانة بمسؤولية، لتتناقلها الأجيال، وأن تتشارك قطاعات ومؤسسات الدولة كلها من أجل تحقيق ذلك، واستثمار طاقاتهم الكامنة ونعمة حُسن إصغائهم للآخر ونصائحه، بما يُعيينهم على المشاركة الإيجابية في الحفاظ على المنجز الحضاري المتحقَّق، والبناء عليها نحو مزيدٍ من الرقي والازدهار.

.. إنَّ الوعيَ الحقيقيَّ بالتاريخ يعزِّز رسالتنا الحضارية، ويضبط اتجاهات بوصلتنا في كلِّ وقتٍ وزمان، ويستنهض بدواخلنا الهِمم لريادة التاريخ بمُعطيات اليوم، نظرًا لما يُمثله هذا الثِّقل من عاملٍ قويٍّ لشدِّ أواصرَ اللُّحمة الوطنية، وضمانة لتماسُك المجتمع، وتحمُّل الجميع لمسؤوليته والاضطلاع بها على أكملِ وجه.. ليبقى بريقُ تاريخنا العُماني متلألئًا، وراية مَجْدِنا الحضاري عالية خفاقة.